كم هي عظيمة وجليلة رسالة القرآن الكريم ومَناسك الشرع الحكيم وتعليماته التي منَحها الرب تبارك وتعالى لعباده رحمة منه وفضلاً. وكم هي دقيقة ومفصلة ظاهرًا وباطنًا لتناسب حاجاتهم ومقتضياتهم الفطرية المادية والروحية. فمن بين مقاصد تعاليم الإسلام وتوجيهاته أن يرقى بالحس الوجداني الإنساني إلى مدارج أسمى وأفضل من عالم المادة ومن ظواهر الأمور وسطحيتها إلى التعمق في كُنهِ الأمور وبَواطِنها..
كثيرًا ما تخلب أبصارَ الناس ظواهرُ المادة وتستهويها أنفسهم فتعميهم سطحياتُ الأشياء عن إدراك جواهرها وبالتالي تموت فيهم تلك الحاسة المستشعرة للترقية الروحية فيصيرون أشبه بالجمادات المحيطة بهم، هم والأموات سواء.
إن غُلَّ في التمسك بالسطحيات دون المضمون الجوهري قد يكون وبالاً خطيرًا إن صار سِمة سائدة في أي مجتمع. وكم تزداد خطورته حينما يزحف ليشمل ويمسّ جوانب الدين ليجعله خاويًا من مضمونه ويحوله إلى رسومٍ وعادات وتقاليد مجردة من حكمة وفلسفة وروح.
ومما يؤسف له أن نجد كثيرًا من المسلمين قد أسرفوا في الأخذ بظاهر الشرع وشكله دون مضمونه ومقصده. ويمكن للقارىء الكريم أن يتصور فداحة الكارثة وهَولها إن أخذ بحركات الصلاة دون خشوعها. وبجوع الصوم دون تقواه؟ وبحج البيت دون توبة الحج. وهلُمَّ جَرا مما هو من نُسُك الإسلام وعباداته. فهل يبقى منها شيء هادف تصبو إليه بعد التمسك بحرفيتها الظاهرة وفصلها من جوهرها الروحي وفلسفته؟ ثم هل ذلك مما يقبله البارئ ويرضاه لعباده بعد تكرمه عليهم بنعمة الإسلام الكاملة والتامة؟
إن استفراغ الإسلام في شكل قالب مادي مجرد ليكون بديلا عن الإسلام الروحي القائم على المزاوجة بين ظاهر الشرع وباطنه مع الوعي الكامل بفلسفته، هو بلا أدنى ريب مجازفة خطيرة بمصير الأمة لأنه في الأخير سيجرها نحو مهاوي التقليد المظهري الأعمى. ذلك الداء الذي فتك بأُمم سابقة وما بنوا إسرائيل منّا ببعيد؟؟ وقد لا يصعب على أي متصفح للتاريخ الإسلامي في فتراته البعيدة من العصر النبوي والسلف الصالح أن يجد بعدها عصورًا تميزت بطابع الركود والجمود زاغت فيها الأمة عن معدنها الروحاني الأصيل الذي كانت عليه لتكتفي بعدها بقشر الشريعة ومظاهر الدين. الشيء الذي مهَّد لإرهاصات نُشوء فئات جديدة على الساحة برزت كرد فعل ثائر على قشرية فَهْم الفكر الديني لدى الأوساط العامة والخاصة فنادت فيهم باتباع مسلك الزهد وتذوق الروحانيات والإعراض عن سطوة المادة والمظهر تقرُّبًا من الحضرة الأحدية.
وهكذا نشأت الصوفية كثورة مضادة لسلطة المشائخ بعدما أعابت عليهم جمودهم عن بيان فلسفة الدين الحنيف وإبراز مقاصده الروحانية. وبالرغم من أن التيار الروحي والصوفي ورجالاته فقد تجاوز بعضهم حدود الاعتدال أيضًا للتوفيق بين الظاهر والباطن لانغماسهم في الباطنية أكثر من المطلوب إلا أنه مهما قيل عنه من تُهم الابتداع والمزايدة يبقى دليلاً قويا وشاهد عصرٍ على الأمة حينما أخطأت التقدير والموازنة بين المادي والروحي وقشر الشريعة ولبها؟؟
إن المسلمين مدعوون أن لا ينشغلوا كثيرًا في توافه المسائل وقشورها والاستفسار المتكرر عن أشياء لا يضرُّ جهلها ولا يفيد علمها، حتى لا يجعلوا من الإسلام فِقْهًا مقصورًا على حركات الأيدي والأصابع في الصلاة ومن جزئيات صغيرة في العبادات مباحث وموادًا للجدل والاختلاف تصرف الأنظار عما هو أهم من ذلك بكثير. لقد تم اختزال جوهر الإسلام وروحانيته في قوالب شتى صرفته عن جوهره الحقيقي ليصير في أشكال مادية مظهرية متعددة أبرزها الحزبية السياسية وما حملته من شعارات باسم الدين أطفأت شعلته وألقت به في مهاوي الفتنة والتطرف مما خَفَت بنور الإسلام وروحه الفياضة.
إن التفاسير المادية أضرّت بالإسلام كثيرًا وأبطلت مفعوله فجمدت عقول الناس حتى لم تعد تفقه شيئًا أو تستفيد مما هو في صالحها من بشارات ونبوءات فيها خلاصهم ونجاتهم وهذا لإفراطها في فهم الدين بالماديات الشكلية والحرفية وإقصاء المعاني الروحية والمجازية التي هي مرتكز فلسفة الدين.
أيها القارئ الكريم إن للإسلام مضمونا قبل أن يكون له ظرفه الذي ابتدعه الكثير من أتباعه، وإن ظواهر الإسلام الخاوية من مضمون الإسلام أشد خطرًا على الإسلام من أعدائه، وإن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة الإمام المهدي خادم دين خير خلق الله سيدنا محمد المصطفى قد أعاد بفضل الله ورحمته للإسلام جوهره الجمالي الروحي وأفاض معارفه القيمة بتأليف كتبًا جليلةً أعادت الروح للدين الحنيف وأزاحت عنه غُبار المادية الظاهرية الذي علق به، وبتأسيس الجماعة بأمر من الله كي تتولى نشر الدين الحنيف وخدمته.
ونحن ندعو الناس جميعًا إلى هذه الواحة المثمرة، وإلى هذه الجنة الوارفة وإلى هذا النبع الروحاني الجاري ببركة سيدنا محمد المصطفى .