من كلام الإمام المهدي
الحمد لله الذي غلبت رحمته على غضبه في كل ما فعل وقضى، وسبقت أنواره على كُل ليل اكْفَهَرَّ وسجى. هو الله الذي يأتي منه فوج اليسر مع كُلّ عسرٍ عرا. يدعـو إلى رحمته كل ورقٍ يوجدُ على الأشجار، وكل برقٍ يبرق في الأحجار، وكُل اختلاف ترون في الليل والنهار، وكل ما في الأرض والسماء.
ومن آيات رحمته أنه أرسل الرسل، وبعث النُّذُرَ، وأسّس عماراتِ الهدى. ومن آيات رحمته العظيمة.. البدر الذي طلع من أم القُرى، في ليلة اسودت ذوائبها العظمى، فرفع الظلمات كلها، ووضع سراجًا منيرا أمام كل عين ترى. ما عندنا لفـظٌ نشكر به على مننه الكبرى. أيقظ العالمين كلهم، ونفى عن النائمين الكَرى. تلقى كلّ هَمٍّ وغمٍّ للدين بطيب النفس لما انبرى، وسنَّ بذلَ النفسِ لله لكل من يطلب المولى. فنى في الله.. وسعى لله.. ودعا إلى الله.. وطهّرَ الأرض حق طهارتها، فيا عجبا للفتى! رب.. اجْزِ منا هذا الرسولَ الكريم خير ما تجزي أحدا من الورى. وتَوفَّنا في زمرته، واحشرنا في أمته، واسقنا من عينه، واجعلها لنا السُقْيا. واجعله لنا الشفيع المشفع في الأولى والأخرى. رب.. فتقبل منا هذا الدعاء، وآوِنا هذا الـذَّرى. رَبِّ.. يا ربِّ.. صَلّ وسلّم وبارك على ذلك النبي الرؤوف الرحيم، وعلى كُل من أحبه وأطاع أمره واتبع الهدى.
أمّا بعد.. فاعلموا أيها الفقراء والزهاد.. ومشائخَ الهند وغيرها من البلاد.. الذين وقعوا في البدعات والفساد، أنني اُمرت أن أبلغكم أحكام الدين، وأذكّركم ما نسيتم من أسرار الشرع المتين. وقد ألهمني ربي في أمركم وقال: إنهم ينادَون من مكان بعيد. ويفعل ربي ما يشاء، وهو القاهر فوق القاهرين.
يا قوم.. اتقوا الله.. ولا تتبعوا أهواء قوم مبتدعين، واتّبعوا الرسول النبيّ الأمي الذي هو رحمة للعالمين. واعلموا.. يا إخوان.. أني أُرسلت محدَّثا من الله إليكم، وإلى كل من في الأرض، فاتقوه ولا تحتقروا المرسلين. واجتنِبوا الرجس من البدعات، وإياكم والمحدَثاتِ، وكونوا عباد الله الصالحين.
يا قوم.. إنّي عبد الله.. مَنّ عليّ برحمة من عنده، وعلّمني من لدنه علم الأولين. وأَرْسلني على رأس هذه المائة، لأنذر قومًا ما أنذر آباؤهم، ولتستبين سبيل المجرمين. هو ناداني وقال قل لعبادي: إنني أمرت وأنا أوّل المؤمنين. وسماني باسم يناسب اسم قوم.. أرسلت لإفحامهم وإلزامهم.. وهم قوم المتنصّرين، الذين علَوا في الأرض، واستضعفوا أهل الحق، وزينوا الباطل ليدحضوا به الحق، وكانوا قومًا مسرفين. وأهلكوا كثيرًا من الناس بتلبيساتهم، وجمحوا في جهلاتهم، وقلّبوا للإسلام أمورًا، وجذبوا الناس إلى خزعبلاتهم، وجاءوا بسحر مبين. فنظر الله إلى قلوبهم، فوجدهم غالين دجالين ضالين مضلين. قد أفسدوا طرقهم كلها، وبغوا أمام الرب، وأرادوا أن يفسدوا أقوامًا آخرين. يلحَسون المذاهب كما يلحَس الثور خضرة الحقل، ويريدون علوًّا وفسادا، وليسوا من الخاشعين. فتَن الناسَ فهمُهم ودرايتهم، وكبُر سرّ غوايتهم، وكانوا في علوم الدنيا وصنائعها من المستبصرين. أوقدوا من المفاسد نارًا، وأجرَوا من الفتن أنهارًا، ومكروا مكرًا كُبَّارًا، وبلغوا مقدارًا لن تجدوا مثله في مكائد المتقدمين. أجمعوا همتهم لاستيصال الإسلام، واستدرّوا لِقحتهم لتأليف قلوب اللئام، وأدخلوا أيديهم في قلوب المسلمين. وكان العلماء كمفلس في أعين أعيانهم، أو كمضغة تحت أسنانهم، وكان قومنا سُخْرة المستهزئين. فأراد الله أن يفصل بين النور والظلمة، ويحكُم بين الرجس والقدس، ويمن على المستضعفين. ورأى فتنتهم بلاءً عظيمًا على الإسلام، ورأى أيّامهم كليالٍ مخوفةٍ من الإظلام، ووجدهم في الفتن قومًا عالين. ما كان فتنة مثل هذا من يوم خلق آدم إلى يومنا هذا.. بل إلى يوم الدين. ومع ذلك تملكوا وعلوا في الأرض، وأثمروا وأكثروا، وأملأوا الأرض كثرة، وزادوا هيبة وشوكة، وبارك الله في أموالهم وأولادهم، وعلومهم وفنونهم وصنائعهم، وأعانَهم في إراداتهم وأفكارهم وأنظارهم، وفتح عليهم أبواب كُلّ شيء.. ابتلاءً من عنده.. فعمُوا وصمّوا وكانوا من الـمُعْجبين.
وأزاغ الله قلوب علمائنا وفقرائنا، وأطفأ نور قلوبهم حتى عادوا إلى الجهالة التي أُخرجوا منها بما كانوا يفسدون في الأرض، وما كانوا من المصلحين. ففنوا في الأهواء، واستكانوا في الآراء، ووهنوا وكسِلوا، وذرّت ريح الجهل ترابهم، وسُلبت قواهم كلّها فصاروا كالميّتين.
ونظر الربّ إلى أمرائنا فوجدهم المسرفين الغافلين، المعرضين عن التقوى والحق، والظالمين العادين. فباعد بينهم وبين شهواتهم، وباعدهم عن الأملاك التي ارتبطت قلوبهم بها، وأخرج من أيديهم أكثر أملاكهم وأراضيهم، وتبّر كلّ ما كانوا عليها كالعاكفين. وقشِفت الوجوه من آفات الجوع والبؤس، وخمدت نار المتموّلين، وقُصِمَتْ عظامهم، وحُطِمَتْ سهامهم، ليعلموا لِيامُهم أنّهم كانوا من المتمرّدين.
وأحاطت شصية المتنصّرين وشَرَكُ سُراتِهم مِن سَمَكِ البحر إلى سِماك السماء، وجرت فُلْكُهم في بحر الإضلال مواخرَ، ووقعت رَجْفةٌ من عظمة شأنهم على كُلّ ما في الأرض.. فخرّوا لهم ساجدين. وما بقي من عشّ ولا كنّ ولا وكر إلا دخلت فيه أيدي الصيادين. ونقلوا خُطواتهم إلى الاعتداء.. حتى نظروا في صحف الرسل ففسّروها برأيهم، وزادوا فيها أشياء، ونقصوا منها، كأنّهم الأنبياء ومن المرسلين. ثم مالوا إلى ملكوت الله وأفعال الألوهية.. فدخلوا في أمور ما كان لهم أن يدخلوا فيها، وفرحوا بتدابيرهم، وحسبوا أنفسهم قادرين على كل شيء كأنهم إله العالمين. واستغنوا وعتَوا عتوًّا كبيرًا، وقطعوا بكبرهم وكفرهم وأنانيتهم آذانَ دهريّين. فهذا هو المراد من ادّعاء النبوّة وادعاء الألوهية، فليفهم من كان من الفَهِمين. وفسدت الأرض بفسادهم، وسارع الناس إلى زينتهم ورشادهم ولمعان فِرْصادهم، وثريدهم وجنّتهم وآرادهم، إلا ما شاء الله.. يحفظ من يشاء.. وهو خير الحافظين.(مرآة كمالات الإسلام)