التفسـير:
البشرى المذكورة في الآية قد فُسرت في العديد من الأحاديث الشريفة ومنها ما يلي:
الأول: “عن أبي الدرداء عن النبي في قوله لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: “الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له”. (ابن كثير)
الثاني: “عن أبي الدرداء قال: أتاه رجل فقال: ما تقول في قول الله لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ؟ قال: لقد سألتَ عن شيء ما سمعتُ أحداً سأل عنه بعد رجلٍ سأل رسولَ الله . قال: بشراهم في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم وتُرى له، وبشراهم في الآخرة الجنة” (مسند أحمد، ج 6 ص 447)
الثالث: وفي رواية: “تلك الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرى له” (ابن كثير).
الرابع: في رواية عن هذه البشرى: “يراها المؤمن في المنام أو ترى له”.
الخامس: “عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله : لقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة، فما بشرى الدنيا؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءًا أو سبعين جزءًا من النبوة (ابن كثير).
السادس: “عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أنه قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به؟ فقال: تلك عاجلُ بشرى المؤمن”. (مسلم)
السابع: “عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله أنه قال: “لهم البشرى في الحياة الدنيا” قال: الرؤيا الصالحة يبشّر بها المؤمن. هي جزء من تسعة وأربعين جزءًا من النبوة. فمن رأى ذلك فليخبر بها، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه، فلينفثْ عن يساره ثلاثًا وليسكتْ ولا يخبر بها أحدًا (مسند أحمد، ج 2 ص 219)
هذا، وقد ظن البعض خطأً أن ما نزل على سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود من وحي إنما هو من قبيل هذه الرؤى العادية. وهذا الظن ظن خاطئ تمامًا، ذلك أن الرسول قد اعتبر بعض هذه الرؤى رؤىً شيطانية، كما سبق آنفا، ولا يمكن أن يكون في وحيِ أو رؤى حضرتِه- وهو الإمام المهدي الذي أقامه الله تعالى – شيءٌ من وحي الشيطان. ولقد قال حضرته عن نفسه: إنّي واثق بصحة الوحي النازل عليّ كثقتي بصحة القرآن الكريم. (الملفوظات ج 5 ص 74)
لا شك أننا نستطيع بناءً على هذه الأحاديث الشريفة إقناع المنكرين باستمرار الوحي الإلهي وبضرورته بعد النبي ، ولكن هذا لا يعني أنه ليس هناك أنواع من الوحي تكون أسمى درجةً من الوحي المذكور في هذه الأحاديث النبوية. غير أنه مما لا شك فيه أيضًا أن “المبشرات” لفظ عام يمكن إطلاقه على وحي الأنبياء وإلهام الأولياء أيضًا. فالآية تخبرنا باستمرار الوحي بكل أنواعه، وما كان خاصًا بالصحابة فقد ذكره النبي في هذه الأحاديث.
ويبيّن بقوله تعالى لا تبديل لكلمات الله أمرين: الأول: أن ما ذكرناه من أمور هي سنة إلهية أزلية، وبما أنها جارية منذ القديم فسوف تبقى سارية المفعول الآن أيضًا.
والثاني: أن ما قطعناه من وعود وبشارات لن تلغى. ذلك أن بعض الأمور الغيبية لا تسمّى “كلمات الله” فيمكن أن تلغى، ولكن ما كان منها من “كلمات الله” فلا يلغى أبدًا.
ثم قال ذلك الفوز العظيم أي أن تلقِّي البشارة هو الفوز العظيم، أو أن عدم تغيُّر الكلام الإلهي هو الفوز العظيم. وكونُ تلقِّي البشارة من الله تعالى فوزًا عظيمًا ظاهرٌ بيِّن، وأما عدم تغيُّر الكلام الإلهي فهو أيضًا سر كبير للفوز، سواء في الأمور الروحانية أو المادية. ذلك أن الأمور المادية إنما أساسها النواميس الطبيعية التي لا تتغير ولا تتبدل، والواقع أنها لو كانت عرضةً للتغيُّر كلَّ يوم لما تمكن الإنسان من هذا التقدّم والاختراع. فمثلاً النار تحرق، والماء يروي، والكهرباء تدمر، فكل هذه الأشياء تعمل بحسب قواعد وقوانين لا تقبل التغيير والتبديل، ولو أنها تغيرت خواصها لما استطاع الإنسان الانتفاع بها. فمثلاً لو أراد أحدٌ إشعال النار فيتدفق الماء من الموقد، أو أراد تشغيل الحنفية فتخرج النار ويشب الحريق.. أقول لو حدث ذلك لما توجه الإنسان إلى الانتفاع من كنوز الطبيعة، بل لاختلّ نظام الكون ودُمّر تمامًا. وعليه، فالنواميس الإلهية غير القابلة للتبدل هي الأساس لنجاحنا، وكلما اطلع عليها الإنسان تطور وازدهر.
التفسـير:
لقد ذكر من قبل أن أولياء الله سبحانه وتعالى لا يحزنون، والآن يقول لنبيه: لا تحزن، فلماذا هذا التعارض؟ والجواب هو ما ذكرته آنفًا بأن رسول الله ما كان ليحزن لنفسه، وإنما كان حزنه وقلقه على ما يثيرونه من اعتراضات ضد ذات البارئ سبحانه وتعالى، ولذلك يطمئنه الله قائلاً: لا تلتفت، يا حبيبي، إلى فضولهم، ولا تحزن على ما يقولون عنا، فلن يضرونا به شيئًا، فإن العـزة كلها مِلـك أيدينا..
هذه الآية تكشف لنا عن أمرين: أولهما: ما كان يملكه النبي من فطرة طاهرة مرهفة بحيث ما كان يستطيع تحمُّل اعتراضاتهم ضد ذات الله تعالى. وثانيهما: مدى حب الله عز وجل لحبيبه المصطفى ، حيث يُطَمئن رسولَه الحزين ويخفف عنه قائلاً: هوِّن على نفسك يا حبيبـي، فأنا (السميع العليم).. أسمع جيدًا ما يقولون وأعلم تمامًا ما يفعلون، وعندما أرى أن طعنهم قد تجاوز الحدّ وصار يمس كرامتنا عندها سوف نقضي على مكرهم هذا نهائيًا. فهذا الأمر في يدنا، ولا داعي لك أن تحزن.
شرح الكلمات:
ما: إما استفهامية بمعنى: أيُّ شيء، أو نافيةٌ. فالمعنى الأول: ما هو الشيء الذي يتخذونه شريكًا لله سبحانه، وفي هذا احتقار لشركائهم. والمعنى الثاني: أن الذين يدعون من دون الله فإنهم لا يدعون شركاء له في الحقيقة، إذ لا شريك له، وإنما يتبعون أهواءَهُم فحسب.
التفسـير:
هنا يُطمئن الله عز وجل رسولَه بطريقين: فأولاً يقول له: ما دام أمر العقاب في قبضتنا فلا يصيبنك حزن ولا قلق. لك أن تتأسف على حالتهم، ولكن تذكَّر دائماً أن اتخاذ القرار في شأنهم بيدِ إلهٍ قادرٍ على ضربهم أو هدايتهم. وثانيًا يقول: إنه لا حقيقة ولا قيمة لما يتبعونه، وإذًا فلا بد أن يتم القضاء على عقائدهم الفاسدة التافهة عاجلاً أو آجلاً، إذ لا تقدر الخرافة على الصمود أمام الحقيقة.
شرح الكلمات:
لتسكنوا: سكن يسكن سكونًا: قرَّ. وسكن فلانٌ دارَه وسكن فيها سكَنًا وسُكنًا: استوطنها وأقام بها. وسكن إليه: ارتاح. وسكن عنه الوجع:فارقه (الأقرب).
مبصرًا: أبصره: رآه، وأبصر فلانًا: جعله بصيرًا (الاقرب)
التفسـير :
إن الشيء المتحرك بالإرادة إنما يتوقف لكي يكتسب المزيد من القوة والطاقة دائما. والواقع أن الله تعالى إنما جعل ظاهرة التعب والإرهاق في المخلوق لبيان الحقيقة نفسها، أي ليدرك الشيء أنه قد أصبح الآن بحاجة إلى غذاء وطاقة مرة أخرى. ولذلك كلما احتاج الشيء إلى الغذاء والطاقة عاف التحركَ، تحذيرًا بأن عليه أن يُشحَن بالغذاء من جديد. وبما أن الليل يجبرنا على ترك العمل -بهذا المعنى- لذلك نعتبره مجلبَةً للراحة.
ولقد ذكر الليل على وجه التمثيل ليخبرنا أنه تعالى كما جعله سببًا لإنعاش قوى الإنسان وتنميتها مرةً أخرى، كذلك يحدث مع الأمم والشعوب، فإن ما يطرأ عليها من جمود وكسل يصبح في آخر المطاف سببًا في تطورهم وإصلاح شأنهم وأخلاقهم، إذ تصحو من جديد بكل حماس وقوة بعد هذا الليل من الغفلة والبطالة. وذكرُ النهار أيضًا تمثيلي، لأنه يطلع بعد الليل ليستغل فيه الإنسان ما استجمعه بالليل من قوى وطاقات.
وكأنما يقول الله عز وجل لمعارضي النبي أن يأخذوا في اعتبارهم ما في ظاهرة الليل والنهار من عبرة ودروس، ويدركوا أنه قد جيء إليهم بالنهار الروحاني بعد ليل طويل، فيجب عليهم الآن أن ينتفعوا بضياء الشمس المشرقة عليهم. ولبيان هذا المعنى قدّم هنا ذكر الليل على النهار.
هنا ينشأ سؤال يقول: لقد أخّر ذكر النهار بوصفه مبصرًا ليدعوهم إلى فتح العيون فلماذا ختم الآية بذكر السمع بدلاً من ذكر الرؤية وقال إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ؟
والجواب: ليقول لهم بأنكم لا تزالون قابعين في الظلمات رغم طلوع الشمس الروحانية عليكم، ولا تبصرون. فاستخدموا على الأقل، أسماعكم لتنتفعوا من خبرة الآخرين، عسى أن تكتب لكم الحياة.
… إنه لا حقيقة ولا قيمة لما يتبعونه، وإذًا فلا بد أن يتم القضاء على عقائدهم الفاسدة التافهة عاجلا أو آجلاً، إذ لا تقدر الخرافة على الصمود أمام الحقيقة.
شرح الكلمات:
سلطان: السلطانُ: الحُجّةُ؛ التسلّطُ؛ قدرةُ الملك؛ الوالي؛ الملِكُ. (الأقرب)
التفسـير:
لقد بيّن الله تعالى من قبل أن أسباب هلاك الكفار متوفّرة في عقائدهم التي يعتنقونها، وتوضيحًا لذلك الأمر بدأ الآن يدحض عقائدهم الوثنية هذه، واختار منها ما كان رائجًا متداولًا بين الشعوب المتحضرة عندئذ، والذي كان أكثرها خطرًا وقوةً وانتشارًا، وهو أنهم جعلوا لله سبحانه وتعالى ابنًا.
لقد كان المشـركون الآخرون يزعمون فقط أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى، وأما هؤلاء فقد جعلوا لله شـريكًـا في ألوهيَّتـه بالذات. وقد ساق على بطلانه أربعة أدلّة هي:
1- سبحانه
2- هو الغني
3- له ما في السماوات وما في الأرض
4- إنْ عندكم من سلطان بهذا .
الدليل الأول: فقوله تعالى (سبحانه) يعنى أنه بريء من كل عيب ونقص، ولكنّ اعتقادكم بأنه اتخذ له ابناً يعرّضه للنقائص من ناحتين: أولاً: إن كون أحد أباً لغيره يستلزم كونه قابلاً للفناء والموت، وهذا عيب ونقص، فإننا نرى أنه لا يتناسل ولا يلد من الأشياء إلاّ الذي يحيطه الفناء قبل أن يحقق الغاية من وجوده. ولذلك لا نجد للأرض أو الشمس نسلاً، ذلك لأنهما باقيتان قائمتان إلى الأجل الذي يحتاج العالم إليهما، بينما نجد أن كل إنسان أو حيوان أو شجرة يموت وينقرض قبل استغناء العالم عنه، فيسعى للبقاء والاستمرار عن طريق التناسل والتوالد، لكي يأخذ الجديد مكان الفاني، فثبت أن توالد الشيء دليل على فنائه.
ثانيا: إن التناسل والتوالد دليل على وجود الشهوة الجنسية، والشهوة منقصة أيضًا، لأنها تدل على وجود شيء زائد في جسم ذلك الكائن لا يستطيع الاحتفاظ به بداخله، فيحاول به إيجاد شيء مستقل خارج جسـمه، ولكن الله عز وجل أسمى من أن يُعـزى إليه مـثل هذه المنقصـة.
الدليل الثاني: هو قوله تعالى هو الغني ، فإنه يعني بأنه تعالى ليس بحاجة إلى غيره، وفي ذلك دحضٌ لحجة أخرى يسوقها المشركون على جواز الشرك حيث يقولون: صحيح أن التناسل يهدف في الواقع إلى سدّ الفراغ الحاصل بفناء الأول، ولكن قد يحتاج هذا إلى وزير ليساعده في إنجاز مهامه. فأبطل حجّتهم هذه بقوله هو الغني .. أي أنه في غنىً عن أي مساعدٍ أو وزير، فلا داعي للزعم بأنه اتخذ ابنًا ليساعده في تدبير ملكوته.
والدليل الثالث: هو قوله تعالى له ما في السماوات وما في الارض .. أي لاشك أن الإنسان يصنع بعض الأحيان شيئًا ثم بعد مرور زمنٍ لا يقدر على التحكم فيه والإشراف عليه، ولكن لا يحدث هذا مع الله عز وجل، بل هو أسمى من هذا العيـب أيـضًا وليـس بحاجـةٍ إلى أحدٍ لإدارة النـظام الذي أوجـده رغم مرور القـرون بعد القـرون.
والدليل الرابع: هو قوله تعالى إنْ عندكم من سلطان بهذا .. أي ليس لديكم أي برهانٍ يثبت مزاعمكم، فما دامت هي مزاعم بدون دليل فثبت أن ليس لله عز وجل أي ولدٍ في الواقع. إنه لمن الغريب فعلاً أن المشركين لم يقدروا- رغم محاولاتهم المضنية- على إيجاد أي برهانٍ على عقائدهم الوثنية. لا شك أنهم كانوا ولا يزالون يخوضون عند النقاش في المتاهات الفلسفية، ولكنهم لم يأتوا يوماً بأي برهانٍ على كون هذه الأشياء شريكةً لله عز وجل.
أما قوله تعالى: أتقولون على الله ما لا تعلمون .. فاعلم أنه قد سبق أن ذكر هذا الدليل في سورة الرعد بقوله أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض .. ويرجع اختلاف الكلمات في الآيتين إلى أنه تعالى يبيّن هنا أن الشرك ينشأ من الجهالة إذ ليس عليه أي دليل، أما في سورة الرعد فوضّح هناك أن عقيدة الشرك تعرّض الله عز وجل إلى الجهل بالموجودات، إذ تعني وكأن الله تعالى لم يستطع أن يعرف أن له شركاء في الواقع، ولكن المشركين عثروا عليه بقوة علمهم وبلّغوه الخبر!