تفسـير آيـة "شهاب مبين"
  • إن انقطاع بعث الأنبياء في الديانات الأخرى دليلا على أن كتبها لم تعد تذكر والقرآن الكريم هو الذّكر وسيظل كذلك إلى يوم القيامة.
  • كما في تفسير سورة الحجر إن الله تعالى يحفظ السماء الروحانية كما يحفظ السماء الكونية من كل ضرر.
  • القرأن الكريم هو وحيً من الله تعالى في كلّ حركة وسكون لكن الكتب الأخرى هي خليط من كلام الله وكلام البشر.

__

فخلاصة القول: إن هذه الآيات شرح وتفصيل لقوله تعالى إنا نحن نـزّلنا الذكرَ وإنا له لحافظون .. حيث فصّل الله فيها كيف إنه يقوم بحماية كل وحي يستحق أن يسمَّى “الذكر” حمايةً ظاهرةً وباطنةً، في حياة النبي وبعد وفاته، وأنه تعالى سوف يحفظ القرآن الكريم بهذه الوسائل كلها. وكأن هذه الآيات تشترك في المعنى مع قوله تعالى في سورة الحج: وما أرسَلْنا مِن قبلِك من رسول ولا نبيٍّ إلا إذا تمنَّى ألقَى الشيطانُ في أُمْنِيّتِه فيَنسَخُ الله ما يُلقِي الشيطانُ ثم يُحكِمُ الله آياتِه والله عليمٌ حكيمٌ (الآية: 53).. أي أنه ما من نبي ورسول إلا إذا قرأ على مسامع الناس وحيَ الله تعالى دسّ الشيطان في هذا الوحي شيئًا من عنده، وبدأ بنشر هذه المفاهيم المدسوسة الخاطئة بين القوم، ولكن الله تعالى يقوم بمحو ما يضيفه الشيطان حمايةً لكلامه الخالص النقي.. أي لا شك أن ذوي الطبائع الشيطانية من البشر يحاولون تضليل الناس بتحريف وحي الله النازل على رسوله، ولكن الله تعالى يكشف صدق الوحي في آخر المطاف، ليجعل هؤلاء الماكرين خائبين خاسرين.

واعلم أن هناك شَبَهًا كبيرًا بين آيات سورة الحجر التي نحن بصدد تفسيرها وبين هذه الآية المذكورة أعلاه من سورة الحج. فقد ذُكر هنا أيضًا أن الله تعالى يحفظ السماء الروحانية، تمامًا كما ذُكر في سورة الحج أن الله تعالى يقوم بحماية وحيه. وقد أخبر الله هنا أن الشياطين يسعون للتدخل في السماء، تمامًا كما أخبر هناك أنهم يحاولون التدخل في كلام الله تعالى. وأكد أيضًا أنه يهلك الذين يريدون العبث بالسماء، كذلك أكد هناك أنه تعالى يمحو كل أثر قد يتركه المتلاعبون بكلامه .

فاتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الموضوع في الآيتين واحد. وحينما نجد أن موضوع تزيين السماء وحفظها ذُكر دومًا عقبَ الحديث عن الوحي الإلهي فلا يبقى من شك أن المقصود هنا إنما هو السماء الروحانية وحفظها، لا السماء المادية، وأن الأخيرة قد ذُكرت على سبيل التمثيل والمجاز فقط.

وتوضح هذه الآيات أن علامة الوحي “الذِّكر”.. أي الذي يتم حفظه.. هي أنه كلما حاول أحد التلاعب به نـزل “الشهاب” لحفظه من التحريف. فالوحي الذي لا ينـزل “الشهاب” لحفظه لم يعد الآن على درجة “الذكر” وبالتالي لم يبق كلامًا محفوظًا.

ولنتذكر أن (الشهاب) معناه: (1) “شعلةٌ من نار ساطعة، (2) كل مضيء متولد من النار وما يُرى كأنه كوكب منقضّ، (3) وقد يطلق على الكوكب. وقد ورد لفظ “الشهاب” هنا بمعنى الكوكب، لأن الله تعالى قد صرّح بذلك في موضع آخر بقوله إنا زَيَّنَّا السماءَ الدنيا بزينةٍ الكَوَاكِبِ* وحِفْظًا من كلِّ شيطانٍ مارِد (الصافات: 7 و8)؛ وأيضًا بقوله تعالى ولقد زَيّنّا السماءَ الدنيا بمصابيحَ وجعَلْناها رُجُومًا للشياطينِ… (المُلك: 6).. أي أنه تعالى جعل “المصابيح”، أي النجومَ في السماء القريبة، وسيلةً لرجم الشياطين. فثبت أن الشهاب يعني النجوم. فالمراد من إطلاق النجوم وراء الشياطين هو أنه طالما بقي الوحي متمتعًا بالحياة وموصوفا بصفة (الذِّكر) حفظه الله تعالى بإرسال الشهب أي النجوم.. أو بتعبير آخر.. ببعث المأمورين. وفي الآية التي نحن بصدد تفسيرها قد قطع الله وعدًا خاصًا بحماية الوحي القرآني بهذه الوسيلة. والحق أنه ليس هناك من وسيلة لحفظ الوحي أقوى منها، لأن المأمورين لا يذودون عن بيضة الشريعة الحقة ولا يردّون هجمات الشياطين بالآيات البينات فحسب، بل من خلال شرحهم للشريعة يُدرك المؤمنون المفهومَ الحقيقي لكلام الله تعالى، لأن شرحهم يكون صحيحًا وسليمًا بحيث لا يحوم حوله الشك لكونهم مؤيَّدين بالإلهام الإلهي، وهكذا ينجو المؤمنون من وحل التفاسير المتضاربة الخاطئة التي لا تزال تشوش أفكار الأولين.

لقد اتضح جليًّا مما أسلفناه إلى الآن أنه لا بد من بعث الأنبياء المأمورين للمحافظة على الوحي السابق.. أي لتطهيره من وساوس الشياطين وللتدليل على كونه وحيًا حيًّا وذلك بآيات سماوية جديدة. ولكن المؤسف أن المسلمين ينكرون اليوم وجود هذه الميزة في القرآن الكريم حيث يظنون بأنه لا يمكن أن يُبعث الآن أي نبي ولو تابع للرسول الكريم ، مع أن القرآن الكريم يعلن هنا أنه طالما يبقى الوحي (ذِكرًا) فإن الله تعالى ينـزل النجوم والشهب من السماء الروحانية لحمايته من هجمات الأعداء. إن انقطاع بعث الأنبياء في الأديان الأخرى دليل على أن كتبها لم تعد (ذِكرًا)، ولكن القرآن الكريم هو (الذِّكر)، وسيظل هكذا إلى يوم القيامة، وبالتالي سوف يتم حفظه بهذه الوسيلة. وهذا لا ينقص من عظمته أبدا، وإنما العكس هو الصحيح، لأن هذا يؤكد أن الوحي القرآني لا ينفك متسما بميزة كونه (الذِّكر).. بمعنى أنه وسيلة لإنشاء الصلة بين العبد والخالق، ولذلك فإن الله تعالى كما حافظ على نصه كذلك يقوم بحماية مفاهيمه بإرسال المأمورين الذين يردون عنه هجمات الشياطين من الداخل والخارج. فالذي يقول بأن الله تعالى قد توقف الآن عن إرسال “الشهاب المبين” أي نجم السماء الروحانية لحماية القرآن فكأنه يقول- عياذًا بالله- أن القرآن لم يعد (الذِّكرَ)، ولا يتمتع الآن بالحماية الإلهية من هجمات الشياطين.

قال أحد المفسرين المعاصرين أنه فيما يتعلق بالوحي القرآني فإن الله تعالى هو الذي يتولى حفظه، أما ما نزل قبله من الوحي فكان البشر يقومون بحمايته. وقد استدل على صحة زعمه بقول الله تعالى إنا نحن نزّلنا الذِّكرَ وإنا له لحافظون ، وقولِ الله تعالى: إنا أنزَلْنَا التوراةَ فيها هُدًى ونُورٌ يحكُمُ بها النبيّون الذين أسلَموا للذين هادُوا والربّانيّون والأحبارُ بما اسْتُحفِظُوا مِن كتابِ اللهِ وكانوا عليه شهداءَ (المائدة: 45)؛ ويقول هذا المفسر أن قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كتابِ اللهِ يعني أنهم جُعلوا مسؤولين عن حفظ كتاب الله (بيان القرآن ج 2 ص 1048).

ولكني أقول: كان هذا الاستدلال صحيحًا لو لم يرد هنا ذكر النبيين، ولكن الله تعالى يخبر أن النبيين هم الذين كانوا مسئولين عن حفظ الكتاب؛ والواضح أن النبي لا يعمل بقوته هو وإنما بقدرة الله ، فكيف يمكن إذًا القول أن حفظ التوراة كان موكولاً إلى البشر. لنفترض أن أحدًا غيّر مفهومًا من مفاهيم التوراة، وعهد الله بمهمة إصلاح هذا العيب إلى أحد الأنبياء، فكيف كان هذا النبي يعرف المفهوم الصحيح؟ هل كانت لديه أية وسيلة لمعرفة الحقيقة سوى وحي الله ؟ وما دام الله هو الذي يُطلعه بوحيه على الخطأ والصواب فثبت أنه تعالى هو الذي قام بحفظ الكتاب وليس البشر. أو لنفترض أن شياطين القوم حاولوا تحريف معاني التوراة وتضليل الناس، فتصدى لهم هذا النبي بالمعجزات والآيات والبراهين السماوية؛ فهل يُعزى هذا إلى النبي؟ كلا، بل يُنسَب هذا إلى الله .

فلا يصح القول إذن بأن الله تعالى قد تولى بنفسه حفظ الوحي القرآني فقط، وأما ما نزل قبله من الوحي فكان البشر يقومون بحفظه؛ بل الحق أنه تعالى هو الذي تولى حفظ كل وحي ما دام ذلك الوحي “ذِكرًا”، وقد أثبتُّ ذلك قبل قليل. إذا كان الله ينجز أمرًا ما عن طريق العباد فإنما مثلهم كمثل أداة يستخدمها أحد ليس إلا. وعلى سبيل المثال، فإن انتشارَ القرآن في العالم وحِفظَه عن ظهر قلب من قِبل أصحاب الذاكرة القوية قد تم على يد البشر دونما شك، ومع ذلك لا يمكن أن يدعي أحد أن حفظ القرآن موكول للبشر. ذلك لأن هذا كله أيضًا قد تم بتدبير وتوفيق من عند الله تعالى.

واعلمْ أن فضل القرآن على الكتب الأخرى لا يكمن في كونه محميًّا بيد الله تعالى بشكل مباشر، وكون ما سبقه من الوحي محميًا مِن قبل البشر، وإنما دواعي فضله هي كالآتي:

أولاً: كون القرآن سيظل متصفًا بصفة (الذِّكر) إلى يوم القيامة، وسوف يرسل الله من السماء “شُهبًا”.. أي عبادًا له يتولون حماية القرآن من عبث الشياطين الذين يريدون له الفساد. وأما الأسفار الأخرى فبقيت على درجة (الذِّكر) لفترة محدودة، ثم فقدت هذه الميزة فرفع الله عنها حمايته، وقد حدث هذا منذ زمن بعيد، فلا يرسل لحفظها الآن الشهب المهلكة للشياطين.

ثانيًا: إن القرآن الكريم كله كلام الله .. أي أن كل حرف وكل حركة وسكون فيه كان من الوحي الإلهي، ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة للكتب السابقة، فإنها خليط من كلام الله وكلام البشر الذي أضيف إليه كشرح له.. وهذا بيّنٌ وجليّ في العهد القديم والأناجيل. فكان الله تعالى يكتفي بحماية مفاهيم الأسفار القديمة دون نصوصها، لأن (الذِّكر) كان يعني حينئذ المفهومَ لا النصَّ، إذ كان الأنبياء أو أتباعهم يبلّغون الناسَ فحوى الوحي الإلهي بكلماتهم عمومًا من دون نصه، ولم يروا في ذلك أي حرج. ولكن بما أن وحي القرآن كان ذا صبغة أبدية، لذلك غيّر الله عند تنـزيله أسلوب الحماية، ففرض على أهله أن يحفظوه بنصّه وفصّه. فدُوّن كل لفظ منه مع حركاته، وحُفظ عن ظهر قلب، وظل محفوظًا محميًّا. وهذا الحفظ لم يتيسر لأي وحي آخر من قبل، لا بيد البشر ولا بيد الله تعالى. أما الحفظ المعنوي فلا جرم أن الكتب السابقة أيضًا تمتعت به لزمن معين كما سيتمع به القرآن الكريم إلى يوم القيامة.

وهناك سؤال آخر يستوجب الرد وهو: هل لسقوط الشهب من السماء المادية أية علاقة ببعث الأنبياء؟ فما دام الأنبياء قد شُبّهوا بها فلا بد أن يكون في سقوطها من المنافع ما يمكن اعتباره بمثابة رمي الشياطين؟

والجواب أنه من سنة الله المستمرة منذ القديم أنه يُري من أجل رسله نوعين من الآيات: آيات أرضية أي ما يقع على الأرض قريبًا من البشر، مما يمكن أن يظن بعض المرتابين أن هذا ليس من فعل الله تعالى، بل هو من عمل المدعي نفسه قام به بحيلة بارعة خفية علينا. ولكن هناك آيات أخرى تتعلق بالسماء أي بالأجرام السماوية، التي لا سلطة للبشر عليها؛ ومن هذه الآيات السماوية سقوطُ الشهب. وتقع هذه الآيات إما تحقيقًا لنبأ أدلى به النبي نفسه أو وِفقًا لأنباء الرسل أو الأولياء الذين خلوا من قبله. والثابت من تاريخ الأنبياء أن الشهب سقطت بكثرة لدى بعث المسيح الناصري ونبينا الكريم عليهما السلام. وقد سقطت في زمن النبي بكثرة حتى ظن الكفار أن أهل السماء قد هلكوا وأن القيامة قد حلت وحان هلاك أهل الأرض.. حيث ذُكر: “فلما بعث الله محمدًا نبيًّا رسولاً رُجموا ليلةً من الليالي. ففزع لذلك أهل الطائف فقالوا: هلك أهل السماء، لِما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب. فجعلوا يُعتِقون أَرِقّاءَهم ويُسيبون مِواشيَهم. فقال لهم عبدُ ياليل بن عمرو بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف، أمسِكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني محمدًا ، وإن نظرتم فلم تروها فقد هلك أهل السماء. فنظروا فرأوها، فكفّوا عن أموالهم.” (ابن كثير، سورة الجن، قوله: وأنّا لمسنا السماء…)

هذه الآية ظهرت بحسب أنباء الأسفار السابقة حيث يذكر التاريخ أن أنبياء بني إسرائيل نبّأوا بحدوث تقلبات سماوية في زمن ظهور النبي . فقد ورد في الحديث: “أن هِرَقْلَ حين قَدِمَ إِيلِياءَ أصبَحَ يومًا خبيثَ النَّفْس، فقال بعضُ بَطارِقَتِه: قد استَنْكَرْنا هيئتَك – قال ابن الناظُور: وكان هِرَقْلُ حَزَّاءً ينظُر في النجومِ – فقال لهم حين سأَلوه: إني رأَيتُ الليلةَ حين نظَرتُ في النجومِ مَلِكَ الخِتانِ قد ظهَر.” (البخاري: بدء الوحي)

علمًا أن المراد من “مَلِكِ الختان” هو ملك العرب أي نبينا الكريم .

أما المسيح عيسى ابن مريم فثمة أحاديث تؤكد سقوط الشهب بكثرة في زمنه أيضًا (شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج 1 ص122). كما ورد في الإنجيل أيضًا عن البعثة الثانية للمسيح أنه: “تكون علامات في الشمس والقمر والنجوم.” (لوقا 21: 25)

فكل هذا يؤكد أن سقوط الشهب كعلامة على بعث نبي من الأنبياء هو سنة إلهية مستمرة منذ القدم. أما الهدف الظاهر من سقوطها فقد سبق بيانه وهو أن الله يريد بهذه الآيات السماوية تخليص الناس من الشكوك والوساوس، كيْ لا يظنوا أن معجزات النبي هي من قبيل خدع المشعوذين. غير أنه ليس من المستبعد أن يكون لسقوط الشهب لدى بعثة نبي هدفٌ آخر وتأثير روحاني خفي لا يعرفه الناس، ولكنه يساعد على دفع المكائد الشيطانية التي يلجأ إليها أعداء الأنبياء.

وأتناول الآن الآيات المختلفة الواردة في هذا الموضوع وآراءَ المفسرين حولها. لقد ذكر القرآن الكريم موضوع سقوط الشهب رميًا للشياطين أو حفظًا للسماء في الآيات التالية:

1- هذه الآيات من سورة الحجر التي نحن بصدد تفسيرها.

2- ولقد زَيَّنَّا السماءَ الدنيا بمصابيحَ وجعَلْناها رُجومًا للشياطينِ (المُلك: 6).

3- إنا زَيَّنَّا السماءَ الدنيا بزينةٍ الكواكِبِ* وحفظًا مِن كل شيطان مارِد* لا يَسَّمَّعون إلى المَلإِ الأعلى ويُقذَفون مِن كل جانبٍ* دُحُورًا ولهم عذابٌ وَاصِبٌ* إلا مَن خَطِفَ الخَطْفةَ فأَتبَعَه شهابٌ ثاقِبٌ (الصافات: 7-11)

4- وأنا لَمَسْنا السماءَ فوجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شديدًا وشُهُبًا* وأنا كنا نقعُد منها مَقاعدَ للسمعِ فمَن يستمِعِ الآنَ يَجِدْ له شِهابًا رَصَدًا ( الجن: 9 و10)

5- وزَيَّنَّا السماء الدنيا بمَصابيحَ وحِفظًا ذلك تقديرُ العزيزِ العليمِ (فصِّلت:13)

هذه هي الأماكن الخمسة التي ورد فيها هذا الموضوع تفصيلاً أو إجمالاً. يقول المفسرون بأن الله يُنـزل وحيه تدريجيًا، وحين يصل الوحي إلى السماء الدنيا تصعد الشياطين بعضهم على بعض إلى السماء لتسترق منه شيئًا، وحينما تخطف منه بعضَ الأخبار وترتد فإنها تُرمى بالشهب.

وقد اختلف المفسرون فيما إذا كانت الشهب تقتل الجنَّ أم لا، فهناك قول يُنسب إلى ابن عباس بأن الشهب لا تقتل الجنَّ وإنما تجرحهم أو تكسر بعض أعضائهم، بينما قال الحسن البصري وطائفة أخرى: إنها تقتل الجن. ثم قال بعضهم: إنهم يُقتَلون بعد إلقاء هذه الأخبار إلى السحرة والكهنة، بينما قال الماوردي إن الشهب تسقط عليهم وتقتلهم قبل أن يُلقُوا ما اختطفوه. (القرطبي)

إن انقطاع بعث الأنبياء في الأديان الأخرى دليل على أن كتبها لم تعد (ذِكرًا)، ولكن القرآن الكريم هو (الذِّكر)، وسيظل هكذا إلى يوم القيامة، وبالتالي سوف يتم حفظه بهذه الوسيلة.

ثم اختلفوا فيما إذا كان الرمي بالشهب قائمًا قبل النبي أم لا؟ فقال أكثرهم: نعم، وقيل: لا. وقال الزجاج: الرمي بالشهب من آيات النبي مما حدث بعد مولده، لأن الشعراء قبله لم يذكروه في أشعارهم. وقال صاحب “فتح البيان”: وطريق الجمع بين القولين هو أن الرمي كان موجودا قبل مبعث النبي ، فلما بُعث شُدّد ذلك. (فتح البيان، سورة الحجر)

وجاء في التفاسير أيضًا: “عن ابن عباس قال: كان الشياطين لهم مقاعدُ في السماء يستمعون فيها الوحيَ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعًا، فأما الكلمة فتكون حقًّا وأما ما زادوا فيكون باطلاً. فلما بُعث رسول الله مُنعوا مقاعدهم. فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يُرمى بها قبل ذلك. فقال لهم إبليس: ما هذا الأمر إلا لأمر حدث في الأرض! فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله قائمًا يصلي بين جبلَي نخلة. فأتوه فأخبروه. فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. وفي رواية أن إبليس أُتيَ من كل أرض بتربة فشمَّها. فقال لتربة تهامة: هنا حدث الحدث”. (الدر المنثور، سورة الجن)

إنه لمن المؤسف أن هؤلاء المفسرين الكبار الذين بذلوا دون أي شك جهودًا جبارة مشكورة في تفسير القرآن الكريم.. قد فرّطوا تفريطًا خطيرًا في هذه القضية مرتعبين من الروايات التي لا أصل لها بتاتًا والتي تخالف صريح القرآن. إن ملخص ما ورد في تفاسيرهم هو: (أولاً) أن الشياطين كانوا قادرين على سمع أخبار السماء، و(ثانيًا) أن هذه الأخبار كانت تحتوي على الغيب أيضًا، و(ثالثًا) أن إبليس لم يعلم بمبعث النبي إلا عندما رأى رمي الشهب.

هذه هي المحاور الثلاثة التي تدور حولها التفاسير، ولو طرحناها من الروايات لم يبق فيها شيء يُذكر. ولكن الأمور الثلاثة باطلة تمامًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك