الجهاد في الإسلام.. وموقف الأحمدية (القسط الثاني)

كان الديكتاتور الباكستاني الراحل ضياء الحقّ قد أصدر في 26، 4، 1984 حُكمًا عسكريًا غاشمًا يحرم المسلمين الأحمديين في باكستان حقَّهم في إعلان دينهم الإسلام الذي يدينون به من الأعماق، أو النطق بالشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، أو إلقاء تحية الإسلام، أو الصلاة على النبي ، أو رفع الآذان للصلاة، أو قراءة القرآن الكريم، أو كتابة أو حيازة آياته، أو تسمية أنفسهم مسلمين، إشارةً أو صراحةً، شفويًا أو كتابيًا، أو تسمية أحد مساجدهم مساجد!!

وبعدها نشرت حكومته كُتيّبًا باسم “القاديانية.. خطرٌ شديدٌ على الإسلام” لتبرير ما قام به هذا الدكتاتور من إجراءاتٍ مُنافية لتعاليم الإسلام السمحاء وسُنّة نبيّ الرحمة ، وسمّته ((البيان الأبيض)). وكان من الأجدر أن يُطلق عليه ((البيان الاسود))، لما فيه من أعذار سخيفة لتبرير هذا القرار الفرعوني الغاشم، تسوِّد وتشوِّه وجه الإسلام الأغرّ.

ولقد قام إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية سيدنا مرزا طاهر أحمد أيَّده الله بنصره العزيز، بالردِّ على هذا البيان ((البيان الأسود))، مُحلِّلاً ومُفنِّدًا بعون الله كل أعذارهم السخيفة عذرًا عذرًا، في سلسلةٍ طويلة من خُطب الجمعة (ثماني عشرة خطبة)، في أوائل سنة 1985. وبدأت “التقوى” بنشر هذه الخطب القيّمة والهامة جدًا في عدد يناير 1990، ولقد تم نشر خطبتين أوليين حتى عدد مارس 1990، ولكن انقطع نشرها بعد ذلك للأسف لأسبابٍ قاهرة. وقد شاء القدر أن تُعيد ((التقوى)) نشرها من جديد من عدد يناير 1991، وقد استجدّت على الساحة العالمية وخاصةً العربية أحداثٌ جِسام، ليعرف الجميع من الذي يُوالي الاستعمار، والاستعمار يواليه ويعمل له، حِفاظًا على مصالحه، ونهبًا لثروات المسلمين، ونيلاً من الإسلام وأهله. والحمد لله الذي هتك أسرار هؤلاء القابضين على ثروات المسلمين وأعرى هؤلاء المتاجرين بالدين والمحاربين بعباءة الإسلام وبأموال البترول جماعتنا الشريفة المسالمة التي راهنت نفسها ونفيسها لرفع راية الإسلام في كل العالم، فكان هؤلاء يُغدقون الملايين من أموال البترول على مشائخ ((رابطة العالم الإسلامي)) وبعض مشائخ الهند وباكستان، لينشروا دعايتهم المسمومة المشوَّهة ضدنا في العالم، وليقولوا له بأنَّ هؤلاء عملاء الإنجليز والاستعمار. وكنا نستنكر ونفنِّد بكل شدّة دعايتهم المغرِضة، ولكن بسبب وسائلنا المحدودة كانت أموال البترول تَحُول دون صوتنا ودون العرب الشرفاء الذين كانت آذانهم لا تسمع إلا من طرفٍ واحدٍ. ولما تجاوزوا كل الحدود وبلغ السيلُ الزُبى وجَّه إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية في 1988 دعوةً للمباهلة إلى هؤلاء المتاجرين ((خادمي الاستعمارين الأمريكي والأوربي)) وإلى غيرهم من أعداء الحقّ، وسأل المولى أن يميّز بين الصادقين والكاذبين. فقبل تضرُّعاته وابتهالاته، وها قد هتكَ أسرارهم وعلمائهم المستأجرين. فالحمد له أولاً وآخرًا.

وهذه الخطبة أُلقيت بيوم 15 فبراير 1985، ((بمسجد الفضل)) لندن. “المحرِّر”

هذا هو فتواه عن “نسخ الجهاد”! ألا ترون ما الذي نسخه حضرته؟ ألا ترون أنّه عارضَ النظريات الخاطئة للجهاد التي روَّجها بعض المشائخ الجُهَّال والقساوسة الأشرار، وحارب تلك النظريات الخاطئة الخطيرة التي ما كانت لتنفع الإسلام والمسلمين أبدًا، لأنَّهم ما كانوا قادرين على محاربة أحد وإنّما كانت تتسبّب في جلب أخطارٍ شديدة ممن حولهم من الأعداء. يقول سيدنا المهدي والمسيح :

  “سبحان الله، ما أتقاهم وأشدَّهم اصطباغًا بصبغة الأنبياء أولئك الذين إذا أمرهم الله بمكة بألا يردُّوا الشرَّ بالشر ولو مُزِّقوا إربًا، تواضعوا وتمسكنوا وكأنّهم أطفالٌ رُضَّع ضعفاء ما بأيديهم من قوة. فقُتلَ بعضهم بوحشية بحيث رُبطت بقوةٍ إحدى رجلي المرء ببعير ورجله الأخرى ببعيرٍ آخر، ثم ركضوا البعيرين في اتجاهين مخالفين، فقُطعَ جزئين في لمح البصر كما تُقطع الخضار كالجزر وغيرها.ولكن للأسف أنَّ المسلمين، وبالأخصّ مشائخهم، صرفوا أنظارهم عن كل هذه الأحداث، وبدأوا يزعمون أنّ أهل الدنيا كلهم صيدٌ لهم، وكأنّهم يتربَّصون بهم كالصيّاد الذي يطَّلع على وجود غزال في غابة، فيتسلَّل إليه في الخفاء ليُطلق عليه الرصاص من البندقية. هذا هو حال معظم المشائخ. إنَّهم لم يقرأوا حرفًا واحدًا من دروس الرفق والعطف على بني الإنسان، وإنَّما يرون أنَّ اغتيال رجلٍ بريء في حين غفلته برصاصةٍ من مسدسٍ أو بندقية هو الإسلام. أين فيهم قومٌ يُضربونَ فيصبرون كالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. هل أمرنا الله تعالى أن نُفاجئ رجلاً غريبًا عنا، وبدون أي سبب أو أيّة جريمة، فنقطعه بالسكين إربًا أو نُخمد شمعة حياته بالرصاص؟ هل يُعقل أن يكون دينًا من الله ذلك الدين الذي يأمر أتباعه: اقتلوا خلق الله الأبرياء تدخلوا الجنة. أليس من المؤسف بل من المخزي أن نُصادف إنسانًا لا عداوة بل لا معرفة بيننا وبينه مشغولاً في إحدى المحلات بشراء حاجياتٍ للأطفال أو بأي شغلٍ آخر، ونُطلق عليه النار بدون سبب، فنحوِّل زوجته أرملةً وصغاره أيتامًا وبيته مأتمًا. هل من شيخ يدلّنا على حديثٍ أو آيةٍ تأمرنا بذلك؟ الواقع أنَّ هؤلاء الجُهَّال سمعوا اسم الجهاد، ويُريدون أن يتّخذوه سُلّمًا لتحقيق أغراضهم النفسانيّة” (الحكومة الإنجليزية والجهاد، ص 12 و13، الخزائن الروحانية ج 17).

شروط الجهاد بالسيف مفقودة

أليس هذا التصوُّر الخاطئ الذي ألغاه سيدنا المهدي والمسيح الموعود ؟ هل من شيخ يُفتي اليوم بجواز جهادٍ كهذا؟ فلا غروَ أنّهم يتَّهمون حضرته كذبًا وزورًا، لأنَّ ما حرّمه حضرته إنّما هو تلك النظريات الخاطئة للجهاد التي اختلقها مُعارضوه من عند أنفسهم. أما اليوم فقد ظهرت تصوُّراتهم هذه الخاطئة على السطح، ولكنهم كانوا يُخفونها حينذاك عن الإنجليز، إذ كانوا يقولون لهم عندئذٍ نفس ما أفتى به سيدنا المهدي والمسيح الموعود . سوف أقرا عليكم بعض ما قالوه عن الجهاد حينذاك حتى تُدركوا مدى الخُبث الذي انطوت عليه طبائع أعدائه . إنَّ الله لا يصطفي عباده ولا يحبّهم بدون سببٍ وبسهولة، وإنّما يجعلهم يمرُّون عبر أتون ابتلاءاتٍ قاسية وآلامٍ شديدة، فيواجهون معارضةَ أشدِّ الخَلقِ ظُلمًا، ولكنهم يصبرون على أذاهم، فيُكتَبون في السماء من عباده الأخيار ومن أحبّائه. يستمر حضرته موضِّحًا موقفه في الجهاد ويقول:

   “فَرُفِعتْ هذه السُنَّة برفعِ أسبابها في هذه الأيام، وأُمِرنا أن نُعِدَّ للكافرين كما يُعِدُّون لنا، ولا نرفع الحُسام قبل أن نُقتَلَ بالحُسام” (حقيقة المهدي ص 28، الخزائن الروحانية ج 14).

   وأيضًا يقول: “إنَّ الجهاد في هذه الأيام قد اتخذ اتجاهًا روحانيًا. فالجهاد في زمننا هذا إنّما هو بذل المساعي لإعلاء كلمة الإسلام” (مكتوبات سيدنا المهدي إلى حضرة مير ناصر نوّاب، نقلاً عن نشرة “درود شريف” بقلم المولوي محمد إسماعيل ص 26).

إذًا فلم ينسخ حضرته الجهاد، وإنّما ألغى ذلك التصوُّر الخاطئ للجهاد الذي ابتدعه المشائخ من عندهم. لأنَّ الجهاد بالسيف، وهو أحد أنواع الجهاد المتنوعة، إنّما يجوز عند توافر شروطه. أما الجهاد بمدلوله الواسع وبصوره الأخرى، فلا يُنسخ أو يُلغى أبدًا، بل يبقى جاريًا على الدوام بصورةٍ من الصور، وعلى المؤمن أداؤه. يقول سيدنا المهدي الموعود :

  “عليكم ببذل الجهود لإعلاء كلمة الإسلام بالردِّ على تُّهم المعارضين، وكشف فضائل الدين الحنيف، وبيان صدق سيدنا المصطفى للعالم. هذا هو الجهاد إلى أن يُحدث الله أمرًا وصورةً أخرى للجهاد”. (المرجع السابق).

   بمعنى أنَّ هذا الشكل للجهاد ليس له صفة أبدية، بل كلما يلجأ أعداء الإسلام إلى استخدام الجبر والعنف في الدين يجوز لنا أيضًا اللجوء إلى استخدام السيف. ولكن ما لم يحدث هذا فعلينا العمل بصور الجهاد الأخرى.

ويستمر حضرته في توضيح موقفه قائلاً:

 “إنَّ الجهاد بالسيف منسوخٌ الآن. (وليس كل اشكال الجهاد. أما سبب نسخ الجهاد بالسيف مؤقتًا فقد سبق أن بيّنه حضرته ). غير أنَّ الجهاد بالنفس لتطهيرها فلا يزال جاريًا. وهذا لم أقل من عندي، وإنّما هذه مشيئة الله وإرادته. عليكم بالتفكُّر في حديث البخاري الوارد في وصف المسيح الموعود: (ويضع الحرب). أي أنَّ المسيح الموعود مجيئه في أمة المصطفى سوف يُلغي الحروب الدينية” (الحكومة الإنجليزية والجهاد ص 15).

إذًا فلم يقل حضرته إلا ما حكم به سيدنا المصطفى . ثم يوضِّح حضرته الموقف أكثر فيقول:

   “والأمر الثاني الذي بُعثت لأجله هو إصلاح تلك النظرية الخاطئة للجهاد التي راجت واشتهرت بين بعض المسلمين الجُهَّال. لقد عرَّفني الله أنَّ الأساليب التي اعتبروها اليوم جهادًا إسلاميًا تتعارض كليةً مع التعاليم القرآنية. لا شكَّ أنّ القرآن الكريم قد ورد فيه الأمر بالحروب، ولكن أسباب وأهداف هذه الحروب كانت أكثر منطقًا وحكمةً من حروب سيدنا موسى وحروب يوشع بن نون. إذ كانت حروبًا دفاعية ضد أولئك المعتدين الذين حملوا السيف لقتل المسلمين بغير حق، وسفكوا الدماء بغير حق، وارتكبوا فظائع خطيرةً جدًا. فأمرَ الله تعالى أن يُقتلوا هم الآخرون بالسيف”.

  هذا ملخص ما ورد في القرآن من تعاليم في شأن الجهاد في الآية التي استهللت بها خطبتي. هل من أحدٍ من علماء الدين يُنكر هذا ويطعن في موقفنا هذا؟ الحق أنّهم يفترون على سيدنا المهدي والمسيح الموعود كذبًا وزورًا وهم يعلمون، لأنّهم قد طالعوا كتبه، يبدون منها قليلاً ويُخفونها كثيرًا، ليُثبتوا للناس عبثًا بأنَّ حضرته عميلٌ أقامه الإنجليز لنسخ الجهاد، ولو لم يقيموه لقُضيَ عليهم وعلى دولتهم بأيدي المسلمين.

فتاوي المشائخ تُدين محاربة الإنجليز!!

تعالوا نقرأ الآن بعض فتاوى هؤلاء المشائخ الذين يتسابقون في اتهامنا. لاشكَّ أنهم حينذاك كانوا يروِّجون نفس النظريات الخاطئة بين المسلمين في الخفاء، ولكن أمام الحكومة الإنجليزية كان موقفهم عكس ذلك.

1- الشيخ محمد حسين البطالوي كان أكبر مُعارضي سيدنا المهدي والمسيح الموعود وأشدَّهم طعنًا فيه بسبب موقفه تجاه الجهاد. كانت فتوى هذا الشيخ في الثورة التي قام بها بعض المسلمين الهنود ضد الحكومة الإنجليزية سنة 1857 كالآتي:

 “إنَّ المسلمين الذين اشتركوا في ثورة 1857 هم جدُّ آثمين، وحسب حكم القرآن والسُنّة يعتبرون من البُغاة الأشرار المفسدين. إنَّ محارية هذه الحكومة أو تقديم أي نوع من المساعدة للثائرين عليها ولو كانوا من إخواننا المسلمين، حرامٌ وخيانة شنيعة”. (مجلة إشاعة السُنّة، المجلد التاسع، العدد العاشر ص 308).

كما قال في أحد كتبه:

“فثبتَ جليًا من هذه الأدلة أنَّ بلاد الهند هي دار الإسلام، رغم كونها تحت دولةٍ نصرانية. فلا يجوز أبدًا لأي حاكم مسلم سواءً كان من العرب أو العجم، وسواءً كان المهدي السوداني أو ملك إيران أو خُراسان، أن يشنَّ الحرب على الحكومة الإنجليزية بالهند” (الاقتصاد في مسائل الجهاد، ص 16)

أي أنَّ الشيخ البطالوي لا يُفتي بوجوب طاعة المسلمين الهنود للحكومة الإنجليزية فحسب، بل يُعلن لمسلمي البلاد الأخرى أيضًا بأنّه حرامٌ عليكم محاربة حكّامنا الإنجليز!

ويُضيف في مجلته قائلاً:

“حرامٌ على المسلمين مناوئة أو محاربة الحكومة الإنجليزية بالهند لانتزاع الحكم من أيديها”. (مجلة (إشاعة السنة)، المجلد السادس، العدد العاشر ص 187).

ويوضِّح موقفه قائلاً:

“في هذا الزمن ليس هناك أي صورةٍ شرعيّة للجهاد بالسيف، لأنَّ المسلمين ليس لهم إمامٌ تتوافر فيه صفات الإمامة وشروطها، كما ليس لديهم قوة عسكرية يأملون بها التغلُّب على الأعداء”. (الاقتصاد في مسائل الجهاد ص 42).

أقول: من أين جاءهم اليوم إمامٌ توافرت فيه صفات وشروط الإمامة؟ هل بالحصول على حكومةٍ عسكرية تتوافر في الرجل صفات الإمامة؟ متى أقام الله الإمامة الدينية عن طريق حكوماتٍ عسكرية!!

2- زعيمٌ آخر من كبار علماء الهند السير سيد أحمد خان، يصدر فتواه في الذين ثاروا على الحكم الإنجليزي سنة 1857 كالآتي:

“إنَّ هؤلاء قد ارتكبوا خيانةً كبرى، ولا علاقة لهم بالإسلام”. (ثورة الهند، للسير سيد أحمد خان).

3- وكانت فتوى زعيم الفرقة البريلوية الشيخ سيد أحمد رضا خان البريلوي كالتالي:

“الهند دار الإسلام، ولا يصحُّ تسميتها دار الحرب”. (نُصرة الأبرار، طبع لاهور، ص 129).

4- كان حضرة سيد أحمد الشهيد البريلوي أحد المجاهدين الذين حاربوا السيخ الظالمين حتى أنّه اتجه إلى إقليم الحدود الأفغانية لمحاربتهم. كان يحمل بين جنبيه قلبًا طيبًا يغار للإسلام والمسلمين. ولكن كان له موقفٌ مختلف تجاه الإنجليز. يقول كاتب سيرته السيد محمد جعفر التهانيسري:

“مرةً سأله سائل: لماذا لا تحارب الإنجليز الحاكمين لبلادنا والكافرين بصدق الإسلام فتطردهم منها. فأجاب حضرته: لا شكَّ أنَّ الحكومة الإنجليزية كافرة. ولكنها لا تظلم المسلمين ولا تمنعهم من أداء عبادتهم وواجباتهم الدينيّة. نقوم تحت حكمهم بوعظ الناس وتبليغهم برسالة الإسلام بدون أية عرقلة من قِبلِهم..  وإنَّ واجبنا الحقيقي إنّما هو نشر التوحيد الإلهي وإحياء سُنن سيد المرسلين ، ونؤدّي هذا الواجب في هذه البلاد بحريةٍ تامة. فلأي سبب نُحارب الحكومة الإنجليزية ونسفك الدماء مخالفين بذلك تعاليم الإسلام. وعند سماع هذا الجواب سكت السائل وفهم الغرض الحقيقي من الجهاد”. ولكن أعداء جماعتنا لم يستطيعوا تفهُّم غرض الجهاد إلى الآن!!

5- ويقول العلامة شبلي النُّعماني:

   “منذ العصر الذهبي النبويّ ( ) وإلى يومنا هذا لم يزل شعار المسلمين الطاعة والوفاء لكل حكومةٍ يعيشون في ظلّها. وهذا لم يكن شِعارهم فحسب، وإنّما هو تعليم الإسلام الوارد في القرآن الكريم والحديث النبوي وكتب الفقه صراحةً وكتابةً” (مقالات شبلي، المجلد الأول، ص 171، مطبعة المعارف، أعظم غره، الهند، 1954).

6- وقال الخواجة حسن النظامي:

   “إنَّ مسألة الجهاد معروفةٌ حتى لدى كل طفل مسلم”.

أقول: حتى زمن الحكم الإنجليزي كان كل طفل مسلم يعلم أنَّ مسألة الجهاد هي كما بيَّنه سيدنا المهدي والمسيح الموعود . ولكن بزوال حكمهم أخذت المسألة عند هؤلاء المشائخ شكلاً مختلفًا تمامًا، فبدأوا يلقِّنون الصغار غير ما عرفته الأجيال السالفة. ويستمر السيد الخواجة قائلاً: “فهم يعرفون أنّه إذا ما صدَّ الكفار المسلمين من أداء فرائضهم الدينية، وأفتى الإمام العادل الذي تتوافر لديه كل أسباب الحرب من سلاح وعتاد ومقاتلين، بأنَّ على المسلمين محاربة الكفار، فيجب على كل مسلم القيام بالجهاد. وما دام الإنجليز لا يتدخلون في شؤوننا الدينية، كما لا يمارسون ضدنا أعمالاً تعتبر ظلمًا واضطهادًا، كما لا نملك أسباب الحرب، فلن نطيع -والحال هذه- أحدًا يدعونا لمحاربتهم، ولن نُلقي أنفسنا بأيدينا إلى التهلكة”. (رسالة الشيخ السنوسي، للخواجة حسن النظامي ص 17).

اعترافات المشائخ الجدد

ولقد اضطر بالاعتراف بهذه الحقيقة الملموسة حتى مناهضونا الجدد.

1- يقول المحامي السيد ملك محمد جعفر:

“في زمن حضرة المرزا (أي مؤسِّس الجماعة الإسلامية الأحمدية) فإنَّ مناهضيه الكبار من مشاهير العلماء أمثال المولوي محمد حسين البطالوي والشيخ بير مهر علي شاه الجولروي، والمولوي ثناء الله الأمرتسري، والسير أحمد خان جميعًا كانوا يدينون بالطاعة والوفاء للإنجليز كما كان المرزا نفسه. ومن أجل ذلك لا نجد فيما كُتب ضده من منشورات أثرًا لما يُقال عنه اليوم بأنه كان يأمر المسلمين بالاستسلام للاحتلال الإنجليزي”. (الحركة الأحمدية، للسيد ملك محمد جعفر، ص 243، الناشر: سنده ساغر أكاديمي، لاهور).

فترون أنَّ بعضًا من معارضينا أيضًا يعترفون بأنَّ علماء المسلمين قد مرّوا بفترتين، فترة الحكم الإنجليزي حيث كانوا ينشرون فتاوي حول الجهاد مماثلة لموقف سيدنا المهدي والمسيح الموعود ، وفترة ما بعد الحكم الإنجليزي حينما غيّروا نظرياتهم بحيث صار بين نظرياتهم الأولى وبين الأخيرة بعد المشرق والمغرب.

2- ويعترف السيد شورش الكاشميري أحد أشدّ المعارضين للأحمدية قائلاً:

“لقد استوردوا الفتاوي حتى من الشيخ جمال الدين ابن عمر عبد الله الشيخ عمر الحنفي مفتي مكة المكرَّمة، ومن الشيخ حسين بن إبراهيم المالكي مفتي مكة المكرَّمة. فكلهم أفتوا بأنَّ الهند ليست دار الحرب وإنّما هي دار الإسلام”. (سيرة الشيخ سيد عطاء الله شاه البخاري، ص 131).

ماذا جوابكم بعد ذلك، هل عندكم من دليل فتخرجوه لنا!!

3- والآن أقرأ عليكم ما أفتاه الشيخ المودودي. لقد اتخذ المودودي في كتابه (حقيقة الجهاد) وغيره من الكتب موقفًا متشدِّدًا جدًا حول الجهاد الإسلامي، وقدَّم صورةً مشوّهة له بحيث يندهش كل مسلم ذي عقل وشعور عندما يرى المودودي يتجرّأ لدرجة بأن يقول ظلمًا وافتراءً عن الحروب الدفاعية التي قام بها المصطفى كلامًا مُجافيًا للغاية. وبرغم من كونه من أكثر المشائخ تشدُّدًا في مسألة الجهاد، فإنَّ له رأيًا آخر حول الظروف السياسية بالهند في زمن سيدنا المهدي والمسيح الموعود . يقول المودودي: “مما لا شكَّ فيه أنَّ بلاد الهند كانت فعلاً دار الحرب عندما كان الإنجليز يحاولون القضاء على حكّام المسلمين فيها”.

أقول: هذا هو موقفنا بالضبط، إذا بدأكم أحدٌ بالقتال فقاتِلوه، واحموا الأعراض والأموال والدين، ولا تستسلموا حتى ولو سقط أطفالكم كلهم شهداء واحدًا تلو الآخر، فعلاً كانت الهند حينذاك دار الحرب، وكان من الجائز تسمية كل قتال دفاعي حينذاك جهادًا إسلاميًا. هذا هو موقفنا. ويستمر المودودي مؤيّدًا لنا ويقول:

“عندئذٍ كان من واجب المسلمين أن يُضحّوا بأرَواحهم حمايةً للدولة الإسلامية بالهند أو يُهاجروا منها بعد الهزيمة. أما وبعد أن صاروا مغلوبين فيها، واستتبَّ حكم الإنجليز فيها، ورضيَ المسلمون بالعيش هناك مع حرية العمل حسب قوانينهم الخاصة بهم، فلم تعد هذه البلاد دار الحرب”. (الربا، للمودودي، الجزء الأول، ص 77 و78، الناشر: مكتبة الجماعة الإسلامية المودودية، لاهور).

4- وقال الملك السعودي الراحل فيصل في اجتماع لرابطة العالم الإسلامي في موسم الحج بمكة سنة 1965م (1385 ه) ما معناه:

“إخواني الأعزاء، إنكم دُعيتم لرفع راية الجهاد في سبيل الله، ولا يعني الجهاد رفع البندقية أو ضرب السيف فحسب، وإنّما يعني أيضًا دعوة الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله، والعمل بهما، والتمسُّك بهما حتى في الابتلاءات الشديدة والمحن القاسية. كما يجب علينا خدمة الدين الحنيف واتباع أوامر الله دائمًا. إننا لا نأمر إخواننا المسلمين بأن يثوروا على حكوماتهم، وإنّما يتحاكموا إلى الكتاب والسنة كما يعتقدون. عليهم بالعيش بالأمن تحت الحكومات التي تضمن لهم الأمان، ولا يُخالفوا القانون بتخريب البلاد”. (جريدة أم القرى، مكة، 24 أبريل 1965).

الأحمدية ليست ذات وجهين

بعد هذه الأقوال ما هو جواب هؤلاء المشائخ المتعصّبين الذين يرمون مؤسِّس الأحمدية بنسخ الجهاد، والتملُّق للإنجليز والعمالة لهم؟ ألا يرون أنَّ ما قاله حضرته هو نفس ما أفتى به مشائخ زمانه؟ إنّه لم يكن منافقًا ذا وجهين يقول للآخرين غير ما يقول لجماعته، ويقول للإنجليز غير ما يأمر به أتباعه، وإنّما تمسَّك من الصميم بالجهاد الذي أعلن به، ولم يعلن عنه بلسانه فقط، بل لم يزل طوال حياته يُضحّي في سبيله بكل ما أُوتيَ من نفسٍ ونفيس. كما وصّى جماعته بالقيام بهذا الجهاد بكل قوة. إنَّهم يطعنون اليوم في حضرته لمدحه الملكة فكتوريا ويزعمون أنّه سمَّاها ظلَّ الله في الأرض، ولكن هل في هؤلاء المشائخ أحدٌ انتقد أمام الملكة عقائد النصرانية الباطلة بجرأة، واعتبرها ديانةً باطلةً ميتة، كما فعل حضرته، حيث أشاد من ناحيةٍ بعدل الملكة التي ما كانت الشمس تغيب عن مُلكها الواسع الأرجاء، ومن ناحيةٍ أخرى دعاها بكل شجاعة وصراحة إلى دين الله الإسلام.

سيدنا المهدي يدعو  الملكة فكتوريا إلى الإسلام

“أيتها المليكة الكريمة الجليلة، أعجبني أنك، مع كمال فضلك، وعلمك وفراستك، تنكرين فضل الإسلام، ولا تُمعِنين فيه بعيون التي تمعنين بها في الأمور العظام. قد رأيتِ في ليلٍ دَجَى، والآن لاحت الشمس، فما لكِ لا تَرَينَ الضحى؟

أيتها الملكة الجليلة، اعلمي، أيّدك الله، أنَّ دين الإسلام مجمع الأنوار، ومنبع الأنهار، وحديقة الأثمار. وما من دين إلا هو شعبته. فانظري إلى حِبره وسِبره وجنّته، وكُوني من الذين يُرزقون منه رزقًا رغدًا ويرتعون. وإن هذا الدين حيٌّ مجمع البركات، ومظهر الآيات، يأمر بالطيبات، وينهى عن الخبيثات، ومن قال خلاف ذلك أو أبان فقد مان، ونعوذ بالله من الذين يفترون. فبما إخفائهم الحقَّ وإيوائهم الباطلَ لَعَنَهم الله ونَزَعَ من صدورهم أنوار الفطرة، فنسُوا حظَّهم منها، وفرحوا بالتعصبات وما يصنعون.

أيتها الملكة، إنّ هذا القرآن يُطهّر الصدور، ويُلقي فيها النور، ويُري الحبور الروحاني والسرور. ومن تبعه فيجد نورًا وجده النبيون. ولا يلقى أنواره إلا الذين لا يُريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، ويأتونه راغبًا في أنواره، فأولئك الذين تُفتح أعينهم، وتُزكّى أنفسهم، فإذا هم مُبصرون.

وإنّي بفضل الله من الذين أعطاهم الله من أنوار الفرقان، وأصابهم من أتم حظوظ القرآن، فأنار قلبي ووجدتْ نفسي هداها، كما يجد الواصلون. ثم بعد ذلك أرسلني ربي لدعوة الخلق، وآتاني من آيات بينةٍ، لأدعو خلقه إلى دينه، فطوبى للذين يقبلونني، ويذكرون الموت، أو يطلبون الآيات، وبعد رؤيتها يؤمنون.

أيتها الملكة الكريمة، لقد كان عليك فضل الله في آلاء الدنيا فضلا كبيرا، فارغبي الآن في مُلك الآخرة، وتوبي واقنتي لرب وحيد، لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، وكبِّره تكبيرا. أتتخذون من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يُخلقون؟ وإن كنتِ في شكٍّ من الإسلام فها أنا قائم لإراءة آيات صدقه، وهو معي في كل حالي، إذا دعوتُه يُجيبني، وإذا ناديتُه يُلبيّني، وإذا استعنتُه ينصرني. وأنا أعلم أنّه في كلّ موطنٍ يُعينني ولا يُضيعني. فهل لكِ رغبةً في رُؤية آياتي وعيان صدقي وسدادي، خوفًا من يوم التنادي؟

يا قيصـرة، تُوبي تُوبي، واسمعي اسمعي، بارك الله في مالَكِ، وكلّ ما لَكِ، وكنتِ من الذين يُرحَمون”. (مرآة كمالات الإسلام، ص 531 إلى 533، الخزائن الروحانية ج 5)

هذا هو كلام سيدنا المهدي والمسيح الموعود ، وهذا هو تصوُّر جهاده، وهكذا قام حضرته بهذا الجهاد المقدَّس. هل تُسمَّى هذه الكلمات تملُّقًا؟ إنّكم لن تجدوا عالمـًـا من زمنه يتمتّع كمثل جرأته حتى يدعو الملكة فكتوريا إلى الإسلام بهذه الصراحة، بل ما كان منهم إلا التملُّق للإنجليز فقط، إنَّ كلمات (تُوبي تُوبي) تعتبر قنبلةً بالنسبة للملكة البريطانية آنذاك، ولكنه مع ذلك يخاطبها بهذه الشجاعة والصراحة، ناصحًا إيّاها أن تتوب عن دينها الباطل وتعتنق الإسلام. ونتيجةً لهذه المعرفة الحقّة وهذا الحماس الشديد للجهاد وجَّه حضرته عليه السلام أتباعه إلى جهادٍ لا نهاية له. فكل لحظة من حياتهم تُصرف في الجهاد.

الهند دار الحرب، كيف؟!

وفي حين كان المشائخ يُفتون بكون الهند دار الإسلام، أدرك هذا العارف بالله والعارف بالمعنى الحقيقي للجهاد ببصيرته النافذة أنَّ الهند في الحقيقة ليست دار الإسلام، وإنّما هي دار الحرب. ذلك أنَّ البلاد التي هي بأمسِّ الحاجة إلى جهادٍ روحي لا يمكن أن تكون دار الإسلام. فأعلن حضرته موضِّحًا قوله هذا وقال:

“هذه البلاد هي دار الحرب ضد القساوسة. فعلينا ألا نبقى عاطلين أبدًا. ولكن تذكَّروا أنه يجب أن تكون حربنا كحربهم، ويجب أن نخرج إلى ساحة المعركة لمواجهتهم متسلِّحين بمثل سلاحهم، وهو القلم، ومن أجل ذلك قد خلع الله عليَّ لقب (سلطان القلم) وسمَّى قلمي (ذو الفقار علي). والسرُّ في ذلك أن زمننا هذا ليس زمن الحرب والقتال وإنّما هو زمن القلم”.

(ملفوظات سيدنا المهدي والمسيح الموعود ، المجلد الأول، ص 232)

اعتراف المؤرِّخين العصريين بجهاد المسلمين الأحمديين

ولقد لمس بهذه الحقيقة الواقعة واعترف بهذه الروح العالية للجهاد لدى الأحمديين العديد من المؤرِّخين العصريين. فكتب الشيخ محمد أكرم أحد المؤرِّخين الباكستانيين الكبار، قائلاً:

“الأحمديون هم أول من أدركوا من بين المسلمين أنّه برغم أنَّ هذه الأيام هي أيام انحطاطٍ للمسلمين في المجال السياسي، إلا أنَّ الحرية الدينيّة التي تمنحها الحكومة المسيحيّة لرعاياها، تتيح فرصةً نادرة في تاريخ الأديان، ويجب على المسلمين اغتنامها جيدًا”.

   ويُضيف قائلاً: “إنَّ عامة المسلمين يؤمنون، بلا شكّ، بالجهاد بالسيف، ولكن بأفواههم لا بأفعالهم. كما لا يقومون بأي جهاد في ميدان الدعوة.. ولكن الأحمديين يرون أنّ الجهاد بالدعوة إلى الله فريضةً من الفرائض الدينيّة، وقد حقَّقوا في هذا المجال نجاحًا لا بأس به”. (موج الكوثر، للشيخ محمد أكرم، ص 187 و189).

نظريات المشائخ ذات المكيالين

وأخيرًا أُقدِّم أمامكم مقارنة بين نظرية مؤسِّس الأحمدية للجهاد وبين نظرية الشيخ المودودي. لقد سبق أن أشرتُ أنَّ نظريات المشائخ ذات مكيالين. فكانت فتاواهم أيام الاحتلال الإنجليزي للهند مختلفة عن التي أصدروها بعده. ثم إنّهم يُفسِّرون الجهاد الذي قام به سيدنا المصطفى بما يُصيب كل مسلمٍ غيور بأذىً شديد. إنَّ تصوُّرهم للجهاد النبوي ( ) مؤلمٌ ومُحطِّمٌ للأعصاب، ولا سيما نظريات المودودي الذي يقوم أتباعه اليوم بدعايةٍ مسمومة ضد سيدنا المهدي والمسيح الموعود . وقبل أن أقرأ عليكم ما قاله المودودي في الجهاد الإسلامي زمن النبي ، أودُّ أن أقرأ أمامكم ما كتبه أحد المستشرقين ميجور أورسبرن. يقول هذا المستشرق:

“لقد دعا محمد ( ) خلال فترة الاضطهاد المكّية إلى مبدأ: (لا إكراه في الدين).. ولكن نشوة النجاح الذي أحرزه محمد كبتتْ بسرعةٍ صوت هذا الداعي إلى المبادئ الحسنة. فلم يلبث أنّ أصدر الأمر بالحرب. فقام العرب حاملين القرآن في يدٍ والسيف في اليد الأخرى، ونشروا دينهم بين مدنٍ ملتهبة وصياح عائلاتٍ منهوبة مدمَّرة”. (Major Arsbern, Islam under the Arab Rule, Pub. Long Man Green & Company, London, P. 46)

   ما أبشع وأنجس صورة لانتصارات الإسلام التي يقدِّمها أحد المستشرقين! ولكن الأدهى أنَّ نفس الصورة المشوَّهة القبيحة للغاية التي يُقدِّمها المودودي في قطعةٍ من حرير الفصاحة المزوَّرة والكلمات المعسولة قائلاً:

“لقد دعا رسول الله العرب إلى الإسلام ثلاثة عشر عامًا، واتبع معهم كل طريقة ممكنة للإقناع، وساقَ إليهم حُججًا قوية وأدلةً واضحة، كما ليَّن قلوبهم بفصاحته، وهيَّج مشاعرهم بقوة خطبه، وأظهر لهم بإذن الله معجزاتٍ مُذهلة، وقدَّم لهم سيرته مثالاً حسنًا للفضيلة والتقوى. وبالاختصار فإنّه حاول معهم كل وسيلةٍ لإثبات الحق. ولكن القوم رفضوا دعوته برغم أنَّ صدقه تجلّى لهم كالشمس في نصف النهار، وحصحص الحق بلا ريب، حتى رأوا رأيَ العين أنَّ الطريق الذي يدعوهم إليه هاديهم هو الصراط المستقيم. ولكن منعهم من قبوله ولوعُهم بتلك الملذّات الدنيويّة التي أتاحتها لهم حريّتُهم المشرِكة.فلما فشلت كل وسائل التذكير والإقناع، استلَّ النبي سيفه وأعلن: “ألا كل مأثرةٍ أو دمٍ أو مال يُدعى فهو تحت قدميَّ هاتين”. وهكذا ألغى كل الامتيازات المتوارثة لدى العرب، وحطَّم كل صنمٍ من شرفٍ مزيّف وسلطةٍ مزيفة. وأقام حكومةً منظمة في البلاد العربية. كما نفّذ بالقوة القوانين الخُلقِيّة. فسلب بها حريتهم الآثمة الماجنة التي غطّت ملذاتها عيونهم. فهيَّأ بذلك بيئةً آمنة لا بدَّ منها لنموّ الأخلاق السامية والمثل العليا في الإنسان.

فأزال بالسيف صدأ الشرور والأذى من القلوب وأزال كثافة النجس والدرن من النفوس، بل فعل السيف ما هو أكثر من ذلك.. لقد أبرأ العُميَ، فصاروا قادرين على رؤية نور الحق، وشفاهم من كِبرهم، ذلك الكِبر الذي يمنع الناس من قبول الحق. فانحنت الرقاب الغليظة، والرؤوس المتغطرسة في اتصاعٍ وانصياع. وحقّق الإسلام في بلاد العرب وغيرها انتشارًا سريعًا، حتى أنّه في مدى قرنٍ واحدٍ من الزمان دخل في الإسلام ربع أهل الأرض. حدث هذا التحوُّل، لأنَّ السيف مزَّق الحجب التي كانت تُغطي قلوب الناس”.

ما أجهل وأبشع وأفدح تصوُّر للجهاد النبوي ( ) يقدِّمه المودودي، غير خائف من الله تعالى! فانظروا إلى قوله: فلما فشلت كل وسائل التذكير والإقناع استلَّ النبي سيفه.. إلخ، وقارنوه بقول الله في القرآن لنبيّه :

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏ (الأعلى: 10 -11).

وقوله تعالى:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ *  إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (الغاشية: 22 – 25).

أي يا محمد ( )، عليك أن تستمر في التذكير، فتذكيرك لن يضيع، لأنَّ أساليب تذكيرك تتسمُ بسِمةٍ مميزة، ففيها الحسن والرفق والملاحة والملاطفة مما يترك في القلوب وقعًا عظيمًا. ولكن إذا أعرَضَ عنه شقيٌّ من الأشقياء لسوء حظه ورَفَضَه، فليس لك الحق في إجباره على قبول الحق باستخدام القوة. لأنك لست مصيطرًا أي رقيبًا ومتسلِّطًا ومتعهِّدًا لأعمالهم وأحوالهم، وإنّما نحن الذين سوف نحاسبهم ونعذِّبهم عذابًا أكبر.

هذا هو الإعلان السماوي. ولكن المودودي يقول: فلما فشلت كل وسائل التذكير والإقناع استلَّ النبي سيفه، وأعلن أنَّ كل مأثرةٍ أو دمٍ أو مالٍ يُدعى فهو تحت قدميَّ هاتين. مع أنَّ الواقع أن هذا القول النبوي الكريم كان يوم حجّة الوداع في آخر حياته. فانظروا إلى المودودي كيف يقلب الحقائق ويحرِّف الكلم عن مواضعها. من المستحيل من عالمٍ بدرجة المودودي الا يكون مُطَّلعًا على السَنَة والمناسبة اللتين فيهما قال النبي هذا، ولكنه يُصرُّ قائلاً: عندما فشلت القوة القدسيَّة النبوية والتذكير والدعوات استلَّ النبي السيف فأزالَ السيف حُجبَ النجس والدرن من النفوس، وأبرأَ العُميَ، فصاروا قادرين على رؤية نور الحق!!

ولكن الله يقول:

سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (البقرة: 8).

أي أنَّ حُجب مثل هؤلاء الظالمين لا تزول باستخدام أية قوة.

الواقع أنَّ هذه الأفكار المودودية لا يمكن أن يتفوّه بها إلا إنسانٌ جاهل بالتاريخ جهلاً تامًا. فكل مسلم بأندونيسيا وماليزيا والولايات الأربع بالصين حيث معظم السكان مسلمون، يشهد على كذب كل كلمة للمودودي، إذ لم يصل أي سيف للإسلام لا إلى أندونيسيا ولا إلى ماليزيا ولا إلى الصين. فكل صغير وكبير، شاب وشيخ وذكر وأنثى منهم يُكذِّب المودودي في قوله هذا، ويعلن بأعلى صوته: والله، إنّه ليس سيف محمد الذي فتح قلوبنا، وإنّما هو حُسنه وجماله وقوته القُدسيّة هي التي فتحت قلوبنا له .

القوة القُدسيّة والدعوات النبوية سبب انتصارات النبي

بأي جهادٍ تمكّن النبي من إحداث هذا الانقلاب العظيم؟ اسمعوا بلسان سيدنا المهدي والمسيح الموعود :

“إنَّ ذلك الحادث العجيب الذي جرى في بريّة العرب.. حيث بُعثَ مئات الألوف من الموتى في أيامٍ معدودات.. وتخلَّقَ بالأخلاق الإلهيّة أولئك الذين فسدت لأخلاقهم على مرِّ الأجيال، وأصبح العُمي يبصرون، والبُكمُ بالمعارف الإلهية ينطقون.. وحدث انقلابٌ فجأةً في العالَم لم تَرهُ عين، ولم تسمع به أُذنٌ قطّ.. هل تعرفون كيف حدث ذلك؟ إنَّ تلك الدعوات التي دعا بها في جوف ليالٍ حالكة.. عبدٌ مُتفانٍ في الله.. هي التي أحدثت ضجةً في الدنيا، وأظهرت العجائب التي يبدو صدورها مستحيلاً على يد ذلك الأميّ الضعيف الحيلة.اللهُّم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وآله.. بعدد همِّه وغمِّه وحزنه لهذه الأمة، وأنزل عليه أنوار رحمتك إلى الأبد” (بركات الدعاء ص 10 و11، الخزائن الروحانية6).

لاحظوا الفرق بين كلمات سيدنا المهدي والمسيح الموعود وأقوال المودودي. ألا ترونَ بينهما بُعدَ المشرقين؟ ألا ترونَ أنَّ روح الحق وروح الإسلام هي التي تجلّت للقلب الطاهر لسيدنا المهدي والمسيح الموعود ، فَجَرت على لسانه المبارك متمثِّلة في هذه الكلمات المباركة. إنّه هو الصوت السماوي الذي هدانا إلى عينٍ سَقتْ أرواحنا المتعطِّشة حتى ارتوت. إنّه هو الصوت الذي كشف لنا عن حقيقةٍ أزليّة أبديّة بأنَّ القوة الكامنة وراء انتصارات الإسلام ونبيّه وشوكته وعظمته هي قوته القُدسيّة.. تلك القوة التي صعدت من قلبه الأطهر في صورة دعواتٍ مقبولة، فنزلت كسحابةٍ ممطرةٍ على أراضي الجزيرة العربية، فأخمدت كل نار ٍ أوقدها أعداؤه ، وسَقَتْ البرَّ والبحر وأروَتْ الطريَّ واليابس بماء الحياة الذي أَحْيَى الأرض الميتة فتحولت الصحاري بساتين خضراء والفيافي حدائق غناء.

ترون روح الإسلام وروح الحق تنطق هكذا، وعلى النقيض تسمعون صوت المودودي بخرافات وترهات تنال من النبي ومن الإسلام. فرغم كل هذا الجهد الشاق والعناء الكثير الذي بذله طوال حياته في دراسة الإسلام، كان مبلغ علمه: أن السيف فعل ما لم يفعله القوة القدسية النبوية!؟ إنا لله وإنا إليه راجعون. أهذا هو صوت رجل ذي انسجام تام مع النبي روحًا وفكرًا، كما يزعم أتباع المودودي؟ كلا والله، لا. لا تسموه صوت رجل ذي انسجام تام مع النبي روحًا وفكرًا، وإنما هو صوت كصوت أعداء الإسلام. إنه صوت المستشرق ميجور أورسبرن الذي تغلغل في دمه الثائر على الإسلام. أو إنه صوت تلك النار النجسة التي تأججت في قلوب أعداء النبي لآلاف السنين حسدًا من عند أنفسهم. والله، إن هذه العبارة لتصيب كل كياني بزلزال، وتؤجج في قلبي نارًا. إنها ليست كلمات، بل أحجارًا لا ترحم. إنها ليست كلمًا، بل خنجرًا حادًا غادرًا يقطع قلب كل عاشق صادق للنبي قطعًا. إنه لخنجر مسموم يصيب القلب بجروح عميقة موجعة جدًا. هل تسمون صاحب هذا الصوت “ذا انسجام تام مع النبي روحًا وفكرًا”. كلا، ثم كلا، بل هو صوت المستشرق ميجور أورسبرن، أو صوت المرتد عن الإسلام القسيس عماد الدين. بالله عليكم لا تسموه روح الإسلام، بل سموه روح المودودية. الحياء الحياء، مِن تَسْميته روح الإسلام.

فانظروا إلى البون الشاسع بين التصور الذي قدمه ذلك العارف بالله سيدنا المهدي والمسيح حول الجهاد الإسلامي وبين هذه الأقوال الملتوية التي حاول المودودي إخفاءها بآلاف الأغطية المزركشة من الفصاحة، ولكنه مع ذلك لم يقدر على إخفاء سمومها التي نفذت إلى قلوبنا.

الحق أن التصور المودودي للجهاد هو أشنع وأكبر تهمة على الإسلام وعلى نبيه . فكيف نقبل منه هذا التصور للجهاد. إنه تصور يجب رفضه ومحوه للأبد، لأن نسبته إلى نبينا إهانة كبرى له. وإننا لسنا بمستعدين لقبوله بأي حال.

برؤية أحوال هؤلاء المشائخ يصاب الإنسان بهزة عنيفة ويقشعر جلده باسم الإسلام، وفي إعراض تام عن روح الإسلام، يحاول هؤلاء الظالمون المعتدون على عباد الله المصطفين خداعَ العالم، فيغيرون أصواتهم بتغير الظروف والمواسم، غير خائفين من الله، وغير مكترثين كيف يناقضون أقوالهم بأفعالهم!!!

Share via
تابعونا على الفايس بوك