أبي الغالي.. رحمه الله

أبي الغالي.. رحمه الله

محمد حاتم حلمي

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ

من الصعب على النفس أن ترثي من تحب، فما بالك يا أخي إذا كان هذا الحبيب هو الوالد.

أجد صعوبة بالغة في الحديث عن والدي -رحمه الله- ولست أدري بأي الأمور أبدأ وبأي الأمور أنتهي. وإنني أجد نفسي أبدأ من حيث بدأ. فلقد كانت حياة والدي حافلة بالعمل والكفاح والسعي الدؤوب للأفضل. بدأت حياته ابنًا وحيدًا لشيخ من حملة كتاب الله، حيث كان جدي -رحمه الله- رجل دين وعلم، وكان مدرسًا للدين واللغة العربية.

وُلد أبي في 21 مارس سنة 1929 بالقاهرة، وتربى على يد أبيه حتى أنهى دراسته بكلية العلوم. وكان من المفروض أن يعمل مدرسًا للعلوم، ولكنه آثر العمل المرهق الذي به الكثير من الحركة، فاتجه إلى مجال البترول وترقى في عمله حتى وصل إلى أرقى المناصب وأتم عمله حتى أحيل للمعاش.

وإنني أذكر طبيعة عمله حتى يعرف الإخوة نوع العمل الذي كان يعمله والدي. من المعروف أن هذا العمل لا يعرف تهاونًا أو تراخيًا. ولكن على الرغم من صعوبة العمل إلا أن مواظبة الوالد على الاطلاع والمعرفة في كافة المجالات لم تنقطع. تلك المواظبة لم تضعف حتى أواخر أيامه.

لم يكن من ذلك النوع من الناس الذي يغلق عقله أو يقبل ما لا يُرضي قلبه وعقله. كان دائم السعي لفهم تلك الأمور التي فُسرت تفسيرًا غريبًا بعيدًا عن العقل والفهم الصحيح مثل موضوع رفع المسيح، والمهدي، والجن وغيرها من الموضوعات التي لم يجد –وقتها- الإجابات الهادية التي تُرضي العقل والقلب.

ثم التقى والدي بصديقه وزميله في العمل الأستاذ مصطفى ثابت، وكان الأستاذ مصطفى أحمديًا قبل لقاء والدي. فعرض عليه الأمر وظلا في نقاش وحوار لفترة طويلة حتى شرح الله صدر والدي للأحمدية، فبايع ودخل الجماعة منذ أكثر من ربع قرن. ومنذ ذلك الحين تمكن في قلب والدي حُبُّ الجماعة والرغبة في خدمتها بكل الوسائل الممكنة. وعلى الرغم من انشغاله بالعمل في مجال البترول، إلا أن هذا لم يمنعه من المشاركة في الاجتماعات السنوية والترجمة لخطب الجمعة لأمير المؤمنين، وكذلك المشاركة في التفسير الكبير لمولانا الخليفة الثاني للإمام المهدي والمسيح الموعود .

وبعد أن أُحيل على المعاش ووجد الوقت الكافي.. انطلق في خدمة الجماعة وأوقف حياته لهذا الهدف النبيل. وكانت من أعز أمانيه أن يلتحق بالإمام حضرة أمير المؤمنين أيده الله، ويظل بالقرب منه في خدمته وخدمة الجماعة إرضاء لوجه الله ورغبة في بذل المزيد والمزيد. وحقق الله أمنيته ولحق بمولانا أمير المؤمنين بإنجلترا، ورئس تحرير مجلة التقوى الناطقة بالعربية.. وترجم العديد من كتب مولانا باللغة العربية، وقام بالعديد من الرحلات التبشيرية للعديد من الدول في أرجاء الأرض داعيًا لله ومعرّفًا لدين الحق.

ولعل الإخوة يعرفون مثلي أو أكثر عن نشاطه وأعماله في خدمة الجماعة. ولكن لعلهم يريدون معرفة طبعه -رحمه الله- مع أهله وعشيرته.. فلقد كان ابنًا بارًا لوالديه كأفضل ما يكون الابن، وتعلمنا منه كيف نحب الأب ونخدمه ونبجل ذكراه. وكذلك كان أبًا رائعًا.. فكان نبعًا من الحنان والعطاء.. لم يبخل بأي شيء لأولاده وبناته من مشاعر وماديات. لم يعرف قلبه أبدًا قسوة على أحد.. بل كان أحيانًا متسامحًا أكثر من اللازم. وكم أساء إليه الغير حتى ممن أحسن إليهم، ولكنه لم يقابل هذا إلا بالرحمة والتسامح. كان أبًا متسامحًا هادئًا لطيفًا. وفي الأيام التي كانت تجمعنا في إجازاته كم كان مزاحه اللطيف وروحه المرحة وعلمه الفياض نبعًا يجعل من تلك الأيام من أسعد أيامنا. والحقيقة أننا كأبناء للحاج -رحمه الله- لم نشبع منه أبدأ. ومهما تحدثه وتناقشه لا تشعر بالملل بل تريد المزيد والمزيد من هذا العلم الغزير والفهم النقي البين للدين دون شطط أو مغالاة.

ومع جميع أهله وأقربائه كم كان فياضًا بالحب والحنان والعطاء بلا حدود وبلا قيود.

ومع زوجته كم كان نموذجًا يُحتذى به في الحب والاحترام وحسن المعاملة التي تنم عن فهم واعٍ لتوجيهات الرسول الكريم في حسن معاملة الزوجة وعدم القسوة عليها أو قهرها، بل كان في غاية المحبة وحسن المعاملة.

أما الجيران والمعارف فلم يكن أقل حبًا وعطفًا عليهم من أهله.. بل كان له أحباء من كل مكان حتى أنني أشعر الآن أنه -رحمه الله- لم يكن والدًا لي ولإخوتي وأخواتي فقط بل كان أبًا روحيًا للعديد من الناس الذين لمسوا من قرب طيب نفسه ورقة قلبه وحسن أخلاقه.

ولعل الملايين من الإخوة قد تعرفوا على والدي عبر القناة الفضائية للجماعة MTA وذلك في برنامج “لقاء مع العرب” الذي كان يجيب فيه إمامنا الحبيب أيده الله بنصره العزيز على أسئلة العرب وكان والدي يقوم بترجمة إجابات أمير المؤمنين.

ولعل رثاء مولانا -أيده الله بنصره العزيز- في والدي الذي أُذيع عبر القناة الفضائية للجماعة ولعل ذكر حضرته والدي بالخير هو الذي أثلج صدورنا وأزال عن نفوسنا الكثير من الأحزان لفراق الوالد. قد ذكر حضرته مدى قرب والدي من نفس حضرته وكيف كان والدي ينفذ في أعماق حضرته ويترجم بما يريد أن يقوله حضرته تمامًا كأن روحيهما تعزفان على وتر واحد. كم كان هذا الكلام من مولانا أمير المؤمنين عظيمًا ومؤثرًا في نفوسنا.. جزاه الله خير الجزاء.

وكم كنا نشعر بهذا الحب الذي يحمله والدي لمولانا أمير المؤمنين، ولعل هذا الحب ينبع من إدراك والدي العميق بالقيمة الحقيقية للخلافة ومدى البركات التي تعم المسلمين الأحمديين بوجود تلك الخلافة الراشدة فيهم. ومن هذا الحب ومن هذه الرغبة الصادقة في إرضاء الله تعالى أولاً وأخيرًا لم يتوان والدي في خدمة الجماعة قدر إمكانياته.

عندما ألم المرض الأخير به وهو في إجازته السنوية بمصر وبالرغم من خطورة الأزمة القلبية الشديدة التي أصابته فإنه لم يشعر براحة وشفاء إلا عندما عرف أنه يمكنه السفر والعودة للندن. فلقد زاد ضياء وجهه وتحسنت صحته كثيرًا لأن العودة للمركز والعودة لخدمة الجماعة والعودة للقرب من إمام الوقت كل هذا كان يعني الكثير جدًا لوالدي. وكم كان حزنه لا بسبب المرض، ولكن خوفًا من عدم القدرة على خدمة الجماعة بالشكل الكامل الذي يُرضي نفسه. فلم يكن والدي -رحمه الله- من ذلك النوع من الناس الذي يركن للسرير أو الانزواء في أركان الراحة والاسترخاء. وعندما كنا نمزح معه قبل سفره ونطلب منه عدم إرهاق نفسه، كان يداعبنا ويدعو أن يمنحه الله العمر حتى يرى ترجمة عربية للمجلدات العشرة للتفسير الكبير كله -ذلك بعد أن تم على يديه العمل في جزأين- وأن يقويه الله على ذلك.

وبعد سفر والدي من القاهرة بأيام قليلة كان يحادثنا عبر الهاتف بين الحين والحين، وكم كان صوته نضرًا سعيدًا وكأن عودته للمركز هي ميلاد جديد له.. حتى جاء الهاتف الذي يحمل لي نبأ وفاة والدي يوم 23 رمضان الموافق 12 فبراير 1996 وهو في مكتب مولانا أمير المؤمنين يريد لقاءه.. وفاضت روحه الكريمة وهو عند باب مولانا أمير المؤمنين، حيث كان يحب أن يتواجد، وصعدت لبارئها الكريم وانتهت حياته الدنيوية الذاخرة بالخير والصلاح بعد رحلة قصيرة مع المرض تاركًا وراءه رصيدًا كبيرًا من الأعمال الصالحة والذكريات الطيبة.

وودعته الجماعة في لندن بعد أن قام أمير المؤمنين بحمل جثمانه الطاهر وبعد أن أمَّ صلاة الجنازة عليه، ووري جسده الشريف هناك في مقابر الجماعة قرب لندن -حيث أراد أن ينتهي- وترك وراءه فراغًا ندعو أن يملأه خيرًا وصلاحًا كما ملأه والدي من قبل.

ولن أقف عند مشاعري ومشاعر الأهل بمدى الخسارة والحزن اللذين ألما بنا، ولكن ندعو الله أن يلهمنا الصبر على فراقه وأن يخرج من أهله من يكمل كفاحه وجهاده في سبيل الله، وندعو دعاء رسولنا الكريم محمد : اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله. آمين. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

Share via
تابعونا على الفايس بوك