سيرة المهدي - الجزء 2 الحلقة 10
  • حُب الصحابة للمسيح الموعود عليه السلام.
  • علاقة الأنبياء بربهم.
  •  أثر اللقاء الأول على النفوس.
  • الطرق إلى الله بعدد نفوس الخلائق.

__

351- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني ميان عبد الله السنوري وقال: كان الحافظ حامد علي يخضّب شعر رأس حضرته بالحناء في البداية، وأحيانًا كنت أيضا أحضر، وكان حضرته يبدأ بالحديث معي بكل بساطة مما يُحدث حركة رأسه فيسبب سقوط الحنّاء عن الرأس، فكان الحافظ حامد علي يقول لحضرته أحيانًا: سيدي، أرجو ألا تتكلم لبرهة لأن الحناء لا يتماسك، دعني أولا أُكمل وأربط عليه بالقماش، ثم يمكنك أن تباشر الكلام. كان حضرته يسكت قليلا، إلا أنه كان يتكلم مرة أخرى عندما كانت فكرة ما تخطر بباله.

أقول: عندما روى ميان عبد الله السنوري هذه الرواية فقد غلبته ذكرى حضرته لدرجة رقّ قلبه فلم يتمالك نفسه وأخذ يبكي. هذه هي مظاهر الحب ومعجزاته بحيث إن ذكر أمرٍ عاديٍّ أحيانا يجعل أعمالَ حياة الحبيب البسيطة وخصالَه ماثلة أمام الأعين بسبب علاقته الشخصية مع ذلك الحبيب. فإن مثل هذه الأمور العادية أحيانًا تضرب على أوتار القلب ضربة أشد من الأمور الهامة والكبيرة.

352- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني الحافظ نور محمد وقال: سألنا حضرته مرة عما ورد في بعض الروايات أنه لو مس أحد ذَكَرَه لانتقض وضوءه فقال حضرته: إنه جزء من جسم الإنسان مما يدلّ على أن هذه الرواية ليست بقوية.

أقول: إذا كانت هذه الرواية صحيحة فلا يعني حضرته أن قول النبي ليس صحيحًا- والعياذ بالله. بل المراد هو أنه لا يبدو أن مثل هذا القول قد خرج من لسان النبي ، ولعله حصل ضعف ما في الرواية. والله أعلم.

353- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني الحافظ نور محمد وقال: قدِم المسيح الموعود إلى قريتنا “فيض الله تشك” مرةً وجلس في المسجد الصغير المتصل ببيتنا، وعند المغرب بعد إصرار الناس ذهب إلى المسجد الكبير وصلى إمامًا بالناس. بعد ذلك ذهب إلى قرية “تهـ غلام نبي” حيث أقيمت مأدبة على شرفه.

354- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني الحافظ نور محمد وقال: جئت إلى حضرته بعد وفاة والدي فقال لي حضرته: اجعل الله تعالى مكان والديك فيتكفلك ويتولاك.

وعليه فإلى الآن أكرمني الله تعالى بفضله، وتكفّل قضاء جميع حاجاتي.

أقول: هذه الحقيقة عجيبة وهي أن علاقة الأنبياء والأولياء مع الله تعالى تكون كشيء حيّ يشعر الناظر إليه بالحياة فيه كما يشعر بها في الأشياء الحية الأخرى، ولا يقتصر وجود الله تعالى عندهم كاكتشاف علمي يستفيد به كل من يأتي إليهم، بل علاقتهم مع الله تعالى تكون مشهودة ومحسوسة كالتي تكون بين قريبَين أو صديقَين. لا أقصد أن علاقتهم مع الله تعالى تساوي العلاقة بين الأصدقاء أو الأقارب، بل أقصد أنها تكون مشابهة للعلاقات الدنيوية من ناحية كونها مشهودة ومحسوسة، أي يشعر الناظر بعلاقتهم المعينة مع الله تعالى كما يشعر بعلاقتهم مع والديهم وإخوتهم وأخواتهم وأهلهم وعيالهم وأصدقائهم، وإن كانت تلك العلاقة تفوق آلاف الدرجات العلاقات الدنيوية عمقًا وسعةً. وإن علاقتهم هذه تُلاحظ في جميع مجالات حياتهم العملية بل في كل حركة وسكنة لهم وفي كل قولهم وفعلهم وتؤثِّر تأثيرًا عظيمًا كما تؤثر العلاقات الدنيوية (وإن كانت علاقتهم أرفع وأعظم درجة من العلاقات الدنيوية) أي كما أن أحدًا يميل إلى أصدقائه وأقاربه ويستشيرهم في أموره، ويستعين بهم وقت الحاجة أو المصيبة، ويكن لهم في قلبه محبة، ويشعر في قلوبهم بالمحبة تجاهه، ويعتبر منافعهم منافعه، ويمدّ لهم يد العون في أعمالهم، ويشاركهم في أفراحهم ويشاطرهم أحزانهم وأتراحهم، وغير ذلك من الأمور؛ فإنه لا يعيش حياة العزلة منفصلا عنهم بل يعيش معهم حياة اجتماعية، كذلك فإن علاقة الأنبياء والأولياء مع الله تعالى تمثّل حقيقة حيّة ويشعر كل مراقب أنه كما يكون للمرء أب أو ابن أو زوجة أو أخ أو صديق كذلك يرتبط الأنبياء والأولياء والصالحون مع الله تعالى بعلاقة ليس لها نظير في الحب والوفاء وإن كانت تشابه علاقة الخادم مع سيده.

أشعر بحالة عجيبة عند قراءتي الأوضاع المحيطة بالمسيح الموعود عند تلقّيه الوحي: أليس الله بكاف عبده، إذ إن والده كان مريضًا فيتلقى حضرته وحيًا: “والسماء والطارق”، أي ستنتهي حياته اليوم مساء، أدى هذا الأمر إلى إثارة قلقه واضطرابه نظرًا إلى الأعباء التي كانت ستقع على عاتقه بعد وفاة والده، وخطر بباله لبرهة أن بعض أسباب معيشته مرتبطة بوالده، فإلى أين ستؤول الأمور بعد وفاته؟ وهنا نزل عليه الوحي التالي: “أليس الله بكاف عبده”. أي: يا عبدي! هل تظنّ أن ربّك ليس كافيًا ليتكفلك؟ سبحان الله! ما أروعه من كلام يفيض بالحب، لعلّ أحدًا يظن أنها كلمة تنطوي على زجر ما، ولكن من ظنّ ذلك أعتبره جاهلا محضًا بآداب الحب، وأرى أنه لا يمكن اختيار كلمات أنسب وأفضل من هذه لإظهار الحب في مثل هذه المناسبة. على سبيل المثال لو كان قريب أحدٍ على وشك الرحيل من هذا العالم فيُظهر كربه وحزنه عليه لدرجة يظنّ وكأنه لم يبق بعده من سيهتم به في حين أن أباه -الذي يحبّه من كل قلبه- يكون موجودًا معه، فماذا عسى أن يقول الوالد لابنه المضطرب؟ لا بد أن يقول له: يا بنيّ! هل نسيت حب والدك؟ هل كان قريبك هذا أكثر حبًّا لك من والدك؟ وهل كان يهتم بك أكثر من والدك؟ وكلام الله المذكور واقع على هذا النحو، وكأنه يقول: هل حبّنا لك أقل من حبّ والدك لك حتى تُبدي مثل هذا الاضطراب عند وفاة والدك على وجودنا نحن معك. فإنه كلام يفيض بالحب وكل كلمة منه مضمّخة بعطور المحبة، وإن اخْتِير للكلام طريق آخر خالٍ من الأسلوب الاستفهامي لما حوى ذلك الحب العارم المتدفق من كلمات هذا الإلهام. فلا يتعلق الوحي بالإيمانيات أي لا يهدف الوحي التنبيه علميًا إلى أن الله تعالى هو ولي عباده وكفيل حاجاته، فيا عبدي! ينبغي ألا تغفل عن هذه الحقيقة، كلا، بل يهدف الوحي إظهار حب الله تعالى  للمسيح الموعود ، كما يهدف –في صبغة التنبيه الفائض بالمحبة- إلى إزالة القلق الذي نشأ كطائف في قلب المسيح الموعود عند تلقيه خبر وفاة والده. وبما أن المسيح الموعود قد تذوق طعم هذا الحب الإلهي وأصبح نشوانَ بعد شربه هذا الشراب الطهور الذي أعدّه الله القدّوس بيده وقدّمه له بنفسه، لذلك لم يجد حضرته طريقًا أفضل للعزاء عند وفاة والد الحافظ نور أحمد سوى أن يقول له بأنك إن لم تكن قد اعتبرتَ الله تعالى كذلك سابقًا، فعلى الأقل اعتبره الآن مكان والدك واتخذه سندًا لك في كل آمالك وحبك.

أقول: هذه النقطة سامية وجليلة، وأفلح من أدركها واستوعبها. يا مالكي ويا مولاي! لا يحق لي أن أطلب منك شيئا لأنه لا يبدو جميلا أن أطلب بدون أن أؤدي لك حقّك، ولكنك قلتَ: ادعوني، ولم تشترط أن يدعوك صالحٌ أم طالح. فأتوسل إليك بمسيحك الطاهر- الذي انتمي إليه ولو كان (الانتماء) بعيدًا- أن تمطر عليّ ولو بقطرة واحدة من حبّك لتنال بها هذه العظام النخرة الميتة حياةً وقوةً ويجد بها هذا القلب المتعطّش والمحموم بردًا ونشاطًا. يا من خلقتني من العدم بمشيئتك أناشدك بذاتك أن لا ترجعني من بابك خالي اليدين جزاء على سوء أعمالي.

355- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني المولوي قطب الدين الطبيب وقال: كنت مقيمًا في لدهيانه أتابع دراستي فيها عندما قدم المسيح الموعود إليها للمرة الأولى. فلما علمت عن قدومه ذهبت إلى محطة القطار لزيارته، وكان مير عباس علي وقاضي خواجه علي ونواب علي محمد قد ذهبوا لاستقباله. التقيت بحضرته للمرة الأولى على محطة قطار لدهيانه، ثم حضرتُ مرات عديدة إلى مكان إقامة حضرته. فلما رأيته للمرة الأولى تأثر قلبي تأثرًا شديدًا وشعرت وكأن جسدي قد ذاب من داخله وكدتُ أسقط مغشيًا عليَّ إلا أنني تماسكت. ثم بقيت أزور حضرته في قاديان أيضا. كان حضرته قد أعلن كونه مجدّدًا ولم يبدأ أخذ البيعة بعد. عندما زرت قاديان للمرة الأولى كان المسجد المبارك قيد الإنشاء، وكنت حاضرًا في قاديان عندما حدثت واقعة سقوط قطرات الحبر الأحمر على قميص حضرته.

356- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني المولوي قطب الدين وقال: مرة قلت لحضرته في الأيام التي كان قد أعلن فيها بكونه مجدّدًا وذلك قبل أن يبدأ بأخذ البيعة بأني أصدّق حضرته من صميم فؤادي ولا اعتراض لي عليه قط، ولكنني لا أجد ذلك التأثير أثناء جلوسي في صحبة حضرته كما يُسمع عنه في صحبة أهل الله وأوليائه. قال حضرته: ينبغي أن تدور في البلاد، وتتفقد الأمور لتعرف إذا كان هناك أولياء الله الذين تبحث عنهم والتأثير الذي تريده أم أنها مجرّد أقوال لا حقيقة لها.

يقول المولوي قطب الدين: لقد تجولت في أرجاء الهند كلها لهذا الغرض وقصدتُ جميع الأماكن المعروفة مثل كراتشي وأجمير ومومباي وحيدر آباد الدكن وكالكوتا وغيرها والتقيت بأناس كثيرين، ثم رجعت إلى البنجاب، فلقد التقيت ببعض الصلحاء أيضا خلال سفري هذا إلا أنني لم أجد ما كنت أبحث عنه. ثم قبل رجوعي إلى مدينتي أتيت إلى قاديان للقاء مع حضرته فلما وصلت إلى بطاله أخبرني أحد أن حضرته مقيم في بطاله، فتوجهت للقائه وكان قد أقام في بيت المولوي محمد حسين البطالوي. فلما وصلت وجدته راجعًا من النـزهة إلى مقرِّ إقامته فالتقيت به فسألني عن أحوال سفري فسردتها عليه بالتفصيل، وبعد ذلك عدت من هناك إلى مدينتي.

خلال جولتي المذكورة لقيني في “نصير آباد” الواقعة في ضواحي “أجمير” أناسٌ كانوا يقدّرون حضرته كثيرًا وكانوا على تواصل معه عن طريق المراسلة. أراد هؤلاء أن أقيم عندهم وعرضوا عليّ عرضًا معقولا أيضا لنفقاتي ولكن لم ينشرح لها قلبي. فلما أعلن حضرته لاحقًا أنه المسيح الموعود والمهدي المعهود ارتدّ هؤلاء، عند ذلك أدركت لماذا لم ينشرح صدري للإقامة عندهم، إذ لو أقمت عندهم لربما تعرضت أنا أيضا لابتلاء ما.

على أية حال، لم أستطع العودة إلى قاديان بعد هذه الجولة لفترة وخلالها قد بدأ حضرته أخذ البيعة، وأعلن عن كونه مسيحًا موعودًا أيضا. مع أنني بقيت مؤمنًا بصدق حضرته ولم تؤثر في قلبي معارضة المعارضين وذلك لأنني كنت قد رأيت حضرته بأم عيني، ومع كل ذلك امتنعت عن البيعة.

وبعد هذا جئت إلى حضرته مرة فنبّهني المولوي نور الدين إلى ضرورة البيعة، قلت: لا اعتراض عندي، بل أصدق حضرته من صميم فؤادي، ولكن بماذا سأستفيد -رغم هذا الادعاء العظيم لحضرته- إن بقيت محرومًا من تأثير عظيم في داخلي ولم أجد فيّ ذلك التأثير المعروف والمقرون بصحبة أولياء الله؟ فلما سمع حضرته هذا الكلام قال: ينبغي ألا تبايع في هذه الحالة. ولكن ينبغي أن تقيم عندي فترة ثم إذا انشرح صدرك واطمأن قلبك فافعل بحسبه. فأقمت عنده مدة إلى أن بايعت وعدت.

فلما التمستُ حضرتَه ليأخذ مني بيعتي سألني: هل اطمأن قلبك؟ قلت: سيدي، لم أشكّ في صدقك يومًا إلا أن هناك أمرًا ما كان يبعث على قلق يسير ولقد أزال الله تعالى ذلك أيضا إلى حد كبير.

أقول: حدثني المولوي سيد محمد سرور شاه أن بعض الناس ذكروا له أفكارًا مشابهة عن حضرته بحيث أنهم يعتبرون أدلة صدقه قاطعة وعديمة النظير، وأن زهده وتقواه وصلاحه أيضا أظهر من الشمس إلا أنهم لا يشعرون بحالة مَن يجلسون في صحبة أولياء الله.

لعل مثل هذه الأفكار والوساوس تتولد في قلوب الآخرين أيضا لذلك أقول بناء على معرفتي إن مثل هذه الأفكار تنشأ لسببين اثنين، وليست هي جديدة بل هكذا نشأت في أذهان بعض الناس في زمن جميع الأنبياء والمرسلين. إذا تعمقنا في الموضوع رأينا أن الناس ينقسمون إلى أربعة أحزاب تجاه دعوة الأنبياء؛ الأول: حزب المنكرين الذين لا يؤمنون بصدق الأنبياء ولا بصلاحهم ولا بتأثيرهم الروحاني. الثاني: حزب المنكرين الذين بسبب لقائهم مع الأنبياء وعلاقاتهم الشخصية يعترفون بصلاحهم وبتأثيرهم الروحاني إلى حدّ ما إلا أنهم لا يؤمنون بصدقهم بناء على تشبثهم بمعتقداتهم التقليدية القديمة لذلك يظلّون منكرين لهم. الثالث: حزب المصدقين المؤمنين الذين ينجلي عليهم صدق دعاوى الأنبياء فيشعرون بتأثيرهم الروحاني بحسب مراتبهم الروحية ويتمتعون بهذا التأثير بكفاءاتهم. والرابع: حزب المصدقين الذين يصدقون دعاوى الأنبياء من صميم قلوبهم ويعترفون بصلاح الأنبياء وتقواهم أيضا بشكل عام وبالتالي ينضمون إلى جماعة الأنبياء عمومًا إلا أنهم لا يشعرون بأي تأثير روحاني في أنفسهم. ولأجل ذلك تظل الشكوك تراودهم. ويهمّنا في هذا المقام الحزب الرابع وهم أولئك الذين يؤمنون بصدق الأنبياء ويسلّمون بصلاحهم ونبلهم إلا أنهم لا يشعرون بتأثيرهم الروحاني كما يريدون. فاعلموا أن هذه الحالة إنما تتولد لسببين اثنين؛ أولهما: تنغلق بسب غفلة الإنسان وأخطائه أبواب الروح الإنسانية ونوافذها التي يمكن أن يبلغه من خلالها تأثير الروحاني الخارجي وبالتالي يظل الفيض الروحاني موقوفًا دون أن يصل إليه، وأحيانًا تغلبه الغفلة إلى درجة أن لا يرى الإنسان أن أبوابه ونوافذه مؤصدة بل يظن أن الضوء الخارجي مفقود، وبالتالي بدلا من الاهتمام بصلاحه هو يبدأ بالطعن في فيوض منبع الفيض، في حين ينبغي أن يهتم بنفسه ويفتح نوافذ قلبه حتى يدخله نور شمس الهداية وضوؤها فيزيل عنه حوالكه ويطهره من شوائبه. ولكن ما أشقى ذلك الإنسان الذي رأى الشمس طالعة وأيقن ومع ذلك لم يفتح نوافذ قلبه وقضى حياته كلها ظانًّا النقص في ضوء الشمس لأنه لا يصل إليه.

والسبب الثاني هو عدم معرفة الناس الكاملة بمنهاج النبوة، فإنهم بسبب البعد الزماني عن عصر النبوة يجهلون أحوال الأنبياء وطرق هدايتهم وصور إفاضتهم، ومن ناحية أخرى يكونون قد سمعوا أو قرأوا قصصًا للأولياء والزهاد وأحداث سيرتهم التي تكون مختلقة أصلا إلا أنها ترسخ في قلوبهم مستوى للولاية والزهد والصلاح فيختبرون الآخرين على هذا المحك، وعند عدم تحقق هذا المستوى الموهوم يتعرضون للشكوك والشبهات. فمثلا لو سمع أحد أن الأسد حيوان لونه أحمر وعنقه طويل وذنَبه قصير وارتفاعه أزيد من عشرة أقدام، وغير ذلك. فكلما رأى أسدًا حقيقيًا ظنّ بكل تأكيد أنه ليس بالأسد لأنه لن يجده بحسب الصورة التي رسمها في ذهنه. وهكذا تترسخ في قلوب هؤلاء صورة خاطئة للنبوة والولاية مما يعرضهم للشبهات. وفي مثل هذه الحالة على الإنسان أن يطالع بإمعان أحداث سيرة النبي ويضع منهاج النبوة والسنة النبوية في حسبانه ولا يوقن بالقصص الافتراضية والمشهورة عن زيد وبكر، ويجب أن يحدد محك الاختبار على الضوء الذي سيناله من خلال مطالعة القرآن الكريم وسوانح سيد الكونين . المسلم يؤمن بصدق القرآن الكريم والنبي الكريم ، فكيف يمكن له تصديق ما يعهد إلى زيد وبكر من أمور تخالف القرآن الكريم والنبي الكريم : لقد اشتهرت في المسلمين قصص خيالية وأحداث مبالَغ فيها وخوارق مختلقة بحيث يندهش الإنسان لدى سماعها ومن العجب أنها ليست على ألسن الناس فحسب بل مع الأسف تسرّبت إلى كتب المسلمين وأدبياتهم أيضا.

ولعل هناك سبب آخر لنشوء هذا الانخداع وهو كما كتبت في الجزء الأول من هذا الكتاب أن علم التنويم المغناطيسي أيضا قد أفسد على المسلمين أمورًا كثيرة. إنه لعلم مفيد ويمكن الاستفادة به بطرق شتى ولكن استخدامه الخاطئ يلحق ضررًا غير يسير. عندما قلّت الروحانية في المسلمين وأخذت اللادينية والمادية تغلبهم أثار ذلك عند الصلحاء والأتقياء قلقًا واضطرابًا إلا أنهم لم يجدوا حالتهم الروحانية قوية إلى هذه الدرجة ليكبحوا بها طوفان الضلالة هذا فاستخدموا لإنقاذ الناس من الدمار هذا الطريق الذي يسمى بالإنجليزية Hypnotism أي التنويم الإيحائي وأرادوا الاستحواذ على الناس بواسطة هذا العلم باسم الدين، ولقد حقق هذا الطريق فائدة مؤقتة بحيث نجا الناس إلى حدّ ما من الانجرار مع تيار المادية ومع الحرية الكاذبة، ولكن أدّى ذلك إلى إلحاق أضرار خطيرة بحيث من ناحية نسي رويدًا رويدًا هؤلاء الصلحاء -الذين كانوا يمارسون هذا العلم- حقيقة هذا العلم ومن ناحية أخرى انتشى عامة المسلمين بهذه النشوة الكاذبة بحيث اعتبروها دينًا وروحانية وجذبًا وتأثيرًا، وهكذا أقاموا لديهم محكًّا خاطئًا للولاية، في حين أن علم التنويم الإيحائي علمٌ كالعلوم الأخرى ولا علاقة له مع الدين بل يمكن أن يحصّله كل واحد بحسب كفاءته. فكما أن بعض الأمهات تعطي لولدها الباكي شيئًا من الأفيون ليهدأ غير أنه يعتبره غذاء له رويدًا رويدًا ولا يجد راحة وسكينة إلا عند تناوله وإلا يظل باكيًا وصارخًا ومتألما، هكذا أصبح حال المسلمين بحيث حسبوا حالة النشوة والسرور الناشئة من علم التنويم الإيحائي غذاءً روحيًا لهم، ونسوا الغذاء الأصلي الذي هو جزءٌ لروحهم ويوجب بقاءهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

Share via
تابعونا على الفايس بوك