فوَاهًا للعربية..
  • اللغة العربية وكمالها.
  • اللغة العربية من فضل الله ونعمه علينا.
  • فيوض الله المتنوعة لأهل الأرض والسماء.

فوَاهًا للعربية.. ما أحسنَ وجهَها في الحلل المنيرة الكاملة! أشرقت الأرضُ بأنوارها التامّة، وتحقَّقَ بها كمالُ الهويّة البشرية. توجد فيها عجائب الصانع الحكيم القدير، كما توجد في كل شيء صدَر من البديع الكبير. وأكملَ الله جميع أعضائها، وما غادر شيئا مِن حُسنها وبهائها. فلا جَرَمَ تجدُها كاملةً في البيان، محيطةً على أغراضِ نوع الإنسان، فما من عمل يبدو إلى انقراض الزمان، ولا من صفةٍ من صفات الله الديّان، وما من عقيدة من عقائد البريّة، إلا ولها لفظ مفرد في العربية، فاختبِرْ إن كنت من المرتابين. وإن كنتَ تقوم للخبرة كطالب الحق والحقيقة، فوالله ما تجد أمرًا من أمور صحيفة الفطرة، ولا سرًّا من مكتوبات قانون القدرة، إلا وتجد بحذائه لفظًا مفردًا في هذه اللهجة، فدَقِّقِ النظرَ، هل تجد قولي كالمتصلّفين. كلا.. بل إن العربية أحاطت جميع أغراضنا كالدائرة، وتجدها وصحيفةَ الفطرة كالمرايا المتقابلة، وما تجد من أخلاق وأفعال، وعقائد وأعمال، ودعوات وعبادات، وجذبات وشهوات، إلا وتجد فيها بحذائها مفرداتٍ، ولا تجد هذا الكمال في غير العربية، فاختبِرْ إن كنت لا تؤمن بهذه الحقيقة، ولا تستعجلْ كالمعاندين.
واعلم أن للعربية وصحيفةِ القدرة تعلّقاتٍ طبعيةً، وانعكاساتٍ أبديةً، كأنهما مرايا متقابلة من الرحمن، أو تَوءَمان متماثلان، أو عينان من منبعٍ تخرجان وتصدَغان، فانظرْ ولا تكنْ كالعمين.
فهذه نصوص قاطعة، وحجج يقينية على أن العربية هي اللسان، والفرقان هو النورُ التامُّ الفرقانِ، ففَكِّرْ ولا تكنْ من الغافلين. ومَن فكّر في القرآن وتدبّرَ كلماتِ الفرقان، ففهِم أن هذا قد ثبت من البرهان، وما كتبناه كالظانين، بل أُوتينا علمًا كنور مبين.
ثم اعلمْ يا طالبَ الرشد والسداد، أن التوحيد لا يتمّ إلا بهذا الاعتقاد، ولا بد مِن أن نؤمن بكمال الوثوق والاعتماد، بأن كل خير صدر من رب العباد، وهو مبدأُ كل فيض للعالمين. ومن المعلوم عند ذوي العرفان، أن طاقة النطق والبيان من أعظم كمالات نوع الإنسان، بل هي كالأرواح للأبدان، فكيف يُتصور أنها ما أُعطيتْ مِن يد المنّان؟ كلا.. بل هي تتمّةُ الخِلْقة البشرية، وحقيقة الأرواح الإنسيّة، وإنها من أعظم نعم حضرة الأَحديّة، ولا يتم التوحيد إلا بعد هذه العقيدة. أيرضى موحِّدٌ بأمرٍ فيه نقصُ حضرة العزّة، أو فيه شركٌ كعقائد المشركين؟ وإن الذين يعرفون الله حق العرفان، يعلمون أنه في كل خيرٍ مبدأُ الفيضانِ، وأنه مُوجِدُ الموجودين، ولا يتكلمون كالدهريين والطبيعيين، أولئك الذين أُوتوا حظًّا من المعرفة، وسُقوا من كأس توحيد الحضرة، وجُعلوا من الفائزين. وإن ربنا كامل من جميع الجهات، ولا يُعزَى إليه نقص في الذات والصفات، وإنه حميد لا يفرُط إليه ذمٌّ، وقُدّوسٌ لا يلحَقه وصمٌ، وهذا هو محجّة الاهتداء، ومشرب الأولياء والأصفياء، وصراط الذين أنعم الله عليهم، وسبيل الذين نوّر عينيهم، غيرِ المغضوب عليهم ولا الضالين.
فواللهِ الذي هو ذو الجلال والإكرام، إن البشر ما وجَد كمالاً إلا من فيضه التام، وهو خير المنعِمين. أم يقولون إن نعمة النطق ما جاءت من الرحمن، وما كان معطيها خالق الإنسان؟ فهذا ظلمٌ وزورٌ وغلوٌّ في العدوان كالشياطين. وتلك قوم ما قدروا الله حق قدره، وما نظروا إلى شمسه وبدره، وما فكّروا أنه هو رافعُ كل الدّجى، وأنه خالق الأرض والسماوات العلى. خلَق الإنسان ثم أنطقه ثم هدى، وما من نعمة إلا أعطى، فهذا هو ربنا الأعلى، وخالقنا الأغنى. وَسِعَتْ نعمُه ظاهرَنا وباطننا، وأحاطت آلاؤه أبداننا وأنفسنا. هو الذي خلق الإنسان، وأتمَّ الخلق وزان، وأكمل الإحسان، فكيف يُظَنّ أنه ما علّم البيان؟ أتظنّ أنه قدَر على خلق البشر وما قدَر على الإنطاق وإزالة الحصر، أو كان من الغافلين؟ أفأنت تعجَب ههنا من قدرة رب العالمين؟ وترى أنه قوي متين، وأنه خالق الجوهر والعرض، ومُنوِّرُ السماوات والأرض، ومجيب دعوة الدّاعين. فهل لك أن تتوب إليه وتميل، وتتحامى القالَ والقيل؟ والله يحب الصالحين.
فلما ثبت أن ربنا هو نورُ كل شيء من الأشياء، ومنيرُ ما في الأرض والسماء، ثبت أنه المُفيض من جميع الأنحاء وخالقُ الرقيع والغبراء، وهو أحسن الخالقين، وأنه أعطى العينين وخلق اللسان والشفتين، وهدى الرضيع إلى النجدين، وما غادر من كمالٍ مطلوبٍ، إلا أعطاها بأحسن أسلوب، فمن الغباوة أن تظن أن النطق الذي هو نورُ حقيقة الإنسان، ومناطُ العبادة والذكر والإيمان، ما أُعطيَ مع الخِلْقة من الرحمن، بل وجَده البشرُ بشِقّ النفس وجهدِ الجَنان، بعدَ تطاوُل أمدٍ وامتداد الزمان، وهل هذا إلا افتراء الكاذبين؟ ومن آمنَ بالذي له كمال تام في الذات والصفات، وفيوضٌ متنوعة لأهل الأرض والسماوات، وعرف أنه مبدأ الفيوض من جميع الجهات، يؤمن بالضرورة بأنه أعطى كلَّ شيء خَلْقَه وما غادرَ شيئا من الكمالات، وهو مُفيضُ كل فيض احتاجت إليه طبائع المخلوقات بحسب الاستعدادات، وما نعَب غُرابٌ إلا بتعليمه، وما زأَر أسدٌ إلا بتفهيمه، هو منبعُ كل خير وفيضان، ومعلِّمُ كلّ نطقٍ وبيان، وكذلك كان شأن رب العالمين. أتزعم أنه ربّى الإنسان كرجل عاجز من إكمال التربية؟ لا.. بل ربّاه بأيدي القدرة التامّة، حتى وهب له لقب الخليفة، وكمّله بكمال الفضل والرحمة، وأعطى له ما لم يُعْطَ أحدٌ من المخلوقين. وإنه هو الله الذي يُربّي الأشجار بتربية كاملة حتى يجعلها دوحًا ذات عظمة، ويزينها بزهر وأنواع ثمرة، وأظلال باردة ممدودة تسرّ الناظرين. فما زعمك أنه خلق الإنسان خلقًا غير تام، وما بلّغه إلى مقام فيه كمالُ نظام، وترَكه ناقصا كاللاغبين؟
(منن الرحمن ص 71 إلى 75)

Share via
تابعونا على الفايس بوك