سيرة المهدي - الجزء 1 الحلقة 45

سيرة المهدي – الجزء 1 الحلقة 45

مرزا بشير أحمد

  • وفي أموالهم حق معلوم.
  • حقوق الصداقة.
  • الحُب في الله ولله.

__

298- بسم الله الرحمن الرحيم. أقول: لقد كتب المولوي عبد الكريم أنه بينما كان حضرته ذات مرة يدخل بيته إذ سأله أحد المتسوّلين إلا أن حضرته لم يستطع أن يسمع نداء المتسول بصورة واضحة بسبب أصوات الناس الموجودين هناك. ولكنه خرج من بيته بعد قليل وقال: أين المتسول الذي طرح مسألته؟ لقد بحث الناس عنه دون أن يجدوه إلا أنه بعد قليل رجع من تلقائه فأعطاه حضرته شيئًا من النقود. وفي ذلك الوقت شعر حضرته وكأن ثقلا كبيرًا زال عنه، وقال حضرته بأنه قد دعا الله تعالى أن يعيده إليه.

أقول: يبدو أن صوت المتسول اختلط بأصوات الناس فلم يستطع حضرته الانتباه إليه إلا أنه عندما انفصل عن أصوات الناس بعد وصوله إلى داخل البيت انبرى له صوت المتسول وجعله يضطرب من أجل مساعدته.

299- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني المولوي شير علي وقال: فوّض حضرته مرة إلى ميان معراج دين عمر اللاهوري مهمة البحث عن بعض المراجع، فكان ميان معراج الدين يسترشد حضرته مرة بعد أخرى من خلال كتابته على وريقات صغيرة وكان حضرته يرد عليها أن يبحث في كذا أو يطلب منه حضرته أن يرسل إليه كتابًا فلانيًا وغيره. وخلال هذه المراسلة بعث ميان معراج دين وريقة خاطب فيها حضرته وذكر فيها ما كان يريد دون أن يكتب “السلام عليكم”، ولما كانت هذه الوريقات تتكرر فلعله بسبب السرعة لم ينتبه هذه المرة إلى كتابة “السلام عليكم”. فلما أرسل حضرته ردّه عليها كتب في مستهله: كان ينبغي أن تكتب “السلام عليكم”.

أقول: يبدو في الظاهر أنه أمر صغير هين إلا أنه يتضح منه كم كان حضرته حريصًا على تعليم جماعته وتربيتها، وإذا تدبّرنا قليلا عرفنا أنه ليس أمرًا يسيرًا، لأنه من المعروف أنه إذا لم يراع أحد قواعد الأدب والاحترام في الأمور الصغيرة فإن أثر ذلك يمتد إلى أمور كبيرة أيضا ويبدأ القلب بالصدأ، إضافة إلى ذلك فإن التسليم عند اللقاء وكتابة السلام عليكم عند كتابة الرسالة أمر شرعي.

وأقول أيضا: كان دأب المسيح الموعود أنه كان يبدأ كل رسالته بالبسملة ويضمنها “السلام عليكم”، ويوقّع في آخر الرسالة ويكتب التاريخ أيضا. لم أرَ رسالةً له دون بسملة وتسليم وتاريخ. وكان حضرته معتادًا على التسليم لدرجة أتذكر أنه أراد أن يكتب رسالة إلى هندوسي معارض فخرج من قلمه تلقائيًا السلام عليكم، فشطبه حضرته، ثم عندما بدأ الكتابة بدأ بالتسليم عليه ثم شطبه حضرته مرة ثانية، وعندما بدأ الكتابة مرة ثالثة كانت النتيجة نفسها. فتناول حضرته قرطاسًا آخر وأخذ يكتب بتمهل.

أتذكر هذا الحدث جيدًا دون أن أتذكر يقينًا مع من حصل ذلك إلا أنه يغلب على ظني أنه حصل مع المسيح الموعود . والله أعلم.

300- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني المولوي شير علي وقال: في أوائل عهدي بقاديان كان المسيح الموعود يقف في الصلاة في الصف الأول مع المقتدين الآخرين. ولكن بعد ذلك حصلت بعض الأمور التي بسببها شرع حضرته بالصلاة مع الإمام في الغرفة، ثم عندما هدمتْ هذه الغرفة وضمّت إلى المسجد ظل حضرته يقف مع الإمام في الصلاة.

(أقول: في البداية كان المسجد المبارك صغيرًا جدًّا في العرض ومستطيلا نوعًا ما، وكانت في الجزء الغربي منه غرفة صغيرة داخلة في المسجد قليلا إلا أن الجدار الفاصل قد جعلها غرفة منفصلة. كان الإمام عند الصلاة يقف في هذه الغرفة والمقتدون في الجزء الأكبر للمسجد خلفه. وعند توسيع المسجد فيما بعد أزيل هذا الجدار الداخلي وضمت الغرفة إلى المسجد.)

301- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثتني أرملة المولوي عبد الكريم وقالت: عندما مرض المولوي عبد الكريم واشتد مرضه كان يقول عند تفاقم الآلام في حالة تشبه الغيبوبة أعدّوا لي مطيّة لأنني سأذهب للقاء حضرته ، فكان يظن أنه في مكان خارج قاديان، أما حضرته ففي قاديان. وأحيانًا كان يتكلم بهذا الموضوع وينفجر بكاء ويقول: منذ أيام كثيرة لم أر وجه حضرته، لماذا لا تأخذونني إليه ، جهّزوا مطيّة الآن وخذوني إليه حالا. وكان في كامل وعيه يومًا فقال: اذهبي إلى حضرته وقولي له: إنني على مشارف الموت، فأرجو أن يتيح لي رؤية وجهه ولو عن بعد، وبكى كثيرًا وأصرّ عليّ وقال لي: اذهبي الآن. فنـزلت من الطابق العلوي وأتيت حضرته وقلت له: سيدي، هكذا يقول المولوي عبد الكريم. فقال حضرته: هل ترون أنني لا أحب أن أراه؟ كلا، بل الحقيقة  أنني لا أقوى على رؤية حالته المؤلمة.

قالت لي أرملة المولوي عبد الكريم: كانت والدتك (أي حضرة أم المؤمنين رضي الله عنها) موجودة هناك فقالت لحضرته : إذا كان هو يتشوق لزيارتكم إلى هذه الدرجة فاذهبوا إليه لبعض الوقت. فقال حضرته: طيب سأذهب ولكنني سأتعرض لنوبة عند رؤية آلامه. على أية حال، طلب حضرته العمامة ولفها على رأسه ولما توجه إلى المولوي عبد الكريم هرولت وتدرّجت الدرج قبله لأخبر المولوي عبد الكريم أن حضرته قادم إليه. فلما أخبرتُه لامَني وقال لماذا أتعبتِ حضرته؟ هل تظنين أنني لا أعرف لماذا لا يزورني حضرته؟ قلت: لقد قلتَ لي بنفسك أن أذهب إليه. قال: كان ذلك صرخة ألم تصاعدتْ من قلبي. ولكن اذهبي إليه فورًا وقولي له ألا يُتعب نفسه. فهرولت مرة أخرى فوجدت حضرته قرب الدرج مستعدًا للصعود، فقلت له ألا يرهق نفسه.

أقول: كان حضرته يكنّ للمولوي عبد الكريم حبًّا كبيرًا، وبمقتضى هذا الحب لم يكن يقدر على رؤية حالته المؤلمة، فكان كثيرا ما يقول في المسجد: يلتاع قلبي لأزور المولوي عبد الكريم إلا أنني لا أقوى على رؤية آلامه. وأخيرًا توفي المولوي عبد الكريم بهذا المرض دون أن يستطيع حضرتُه زيارتَه، بل غيّر حضرتُه غرفتَه أيضا خلال مرض المولوي عبد الكريم لأنها كانت تحت بيت المولوي عبد الكريم تمامًا فكانت تصله أصوات تأوّهه الذي كان يثير قلقَه واضطرابَه. كان المولوي عبد الكريم مصابًا بالسرطان وكان جسده قد شُرّح تشريحًا لكثرة تعرضه للعمليات الطبية مما كان يسبب له آلامًا حادّة فكان يتأوه مضطربًا.

وأقول أيضا: كان المولوي عبد الكريم يقيم في بيت المسيح الموعود تحديدًا في الجزء الملتصق بالباحة العليا للمسجد المبارك، وكانت تحته تقع غرفة حضرته التي كان يقيم فيها.

وإضافة إلى المولوي عبد الكريم كان المولوي نور الدين والمولوي محمد علي أيضا يقيمان في الأجزاء المختلفة من بيت حضرته ، ولما قدِم النواب محمد علي خان إلى قاديان أخلى له حضرته   جزءًا من بيته، إلا أنه أنشأ دارًا خاصّة له لاحقًا. كذلك أعطى حضرته لمفتي محمد صادق أيضا مكانًا من بيته في بداية الأمر، كما أقام المولوي محمد أحسن مرات كثيرة في بيت حضرته، وكلما أتى الدكتور عبد الستار شاه مع عائلته أقامهم حضرته في جزء من بيته. والحق أن حضرته كان يحب أن يُقيمَ مثل هؤلاء الناس على مقربة منه.

302- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني مفتي محمد صادق وقال: كنت موجودًا مرة عند المسيح الموعود إذ دقّ أحد الباب بكل قوة، وسمعنا صوت سيد آل محمد الأمروهي الذي قال: سيدي، لقد جئت بنبأ الفتح العظيم. قال لي حضرته: اذهبْ واسمعْ منه الخبر الذي جاء به. فذهبت واستفسرت سيد آل محمد فقال: كانت هناك مناظرة بين سيد محمد أحسن الأمروهي وبين أحد الشيوخ فهزمه سيد محمد أحسن شرّ هزيمة؛ بحيث شدّ عليه كثيرًا فتعرض الشيخ للذلة الشنيعة وغيره، وأرسلني سيد محمد أحسن إلى حضرته لأخبره عن هذا الفتح العظيم.

قال مفتي محمد صادق: فرجعت إلى حضرته وذكرت له ما قاله لي سيد آل محمد، فتبسم حضرته وقال (نظرًا إلى طريقته لدق الباب وإعلانه لهذا الفتح): ظننت أن أوروبا أسلمت.

يقول مفتي محمد صادق: يتضح من هذا اهتمام حضرته بانتشار الإسلام في أوروبا.

أقول: مع أن جميع الأماكن سواسية لنشر الدعوة وكل غير مسلم يستحق أن يُبلّغ، وإسلام كل غير مسلم يفرحنا بدرجة واحدة سواء كان ملكًا أو كنّاسًا فقيرًا، ولكن مما لا شك فيه أنه تجتمع في أمة ما أو في بلد ما ظروف تجعل الدعوة في أفراده ذات صبغة خاصة. إن أوروبا اليوم أصبحت مأوى المسيحية والمادية، وإسلامُ أهلها فتحٌ عظيم الشأن دون أدنى شك.

303- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني مفتي محمد صادق وقال: كنا بعض الأصدقاء جالسين في المسجد نتحدث عن عادة النسيان لدى الخواجه كمال الدين. لعل المسيح الموعود سمع حديثنا في بيته فجاء إلى المسجد من الباب الصغير وسأل مبتسمًا: عمَّ تتحدثون؟ قلنا: كنا نتكلم عن ذاكرة الخواجة كمال الدين. فتبسم حضرته وقال: نعم، ذاكرته ضعيفة لدرجة أنه ذهب ذات مرة لقضاء الحاجة ونسي إبريق الماء هناك ورجع. ظل الناس يبحثون عن الإبريق، وأخيرًا وجدوه في الخلاء.

أخبرني مفتي محمد صادق: كان عديم التكلف مع خدامه وكان يشاركهم في أمورهم.

أقول: كان مفتي محمد صادق قد ذهب للتبليغ إلى أميركا ورجع منها في الأيام التي كانت تعدّ فيها كراسات هذا الكتاب (سيرة المهدي). لقد ذكر مفتي محمد صادق في خطاباته بعض الأمور فأدرجتها في هذا الكتاب ليكون له أيضا نصيب فيه.

أضيف وأقول: حدثني المولوي شير علي وقال: كان حضرته يحب جميع خدامه إلا أنني كنت أشعر أنه كان يكن حبًّا خاصًّا لمفتي محمد صادق، فكلما ذكر مفتي  صاحب قال: “مفتينا المحترم”، وكلما أتى مفتي محمد صادق من لاهور إلى قاديان فرح حضرته كثيرًا برؤيته.

أقول: أرى أن هناك أنواعًا للحب وطرقا لإظهاره، ويتبنى البعض أحيانًا مواقف خاطئة لعدم فهمهم هذه الأنواع. إن حبَّ المرء زوجتَه من نوع، وحبَّه والديه من نوع آخر، يختلف حبُّه للأقارب عن حبه لغيرهم. ثم يختلف حبه للصغار من أقاربه عن حبه لكبارهم. حبه للخدام يتميز بصبغة أخرى وحبه للناس الآخرين يتميز بلون آخر. كذلك يختلف حبه للصغار من أصدقائه عن حبه للكبار منهم، ويختلف حبه للذين يتماسكون ويخفون مشاعر حبهم عن حبه للذين تترشح المحبة من كل كلمة يتفوهون بها ولا يقدرون على السيطرة على مشاعرهم هذه، وغير ذلك من أنواع. باختصار هناك شُعَب كثيرة للمحبة، ولإظهارها أشكال وصور متعددة يؤدي تجاهلها إلى نتائج خاطئة. ومن تجاهل هذه الأمور أخطأ في تبنّي مواقف خاطئة في تفضيل الصحابة رضي الله عنهم، مثلا قيل وكُتب كثيرًا عن فضائل أبي بكر وعلي وزيد وخديجة وعائشة وفاطمة -رضوان الله عليهم- ولكن لو روعيت جوانب المحبة وأنواعها وتدبرنا على ضوء هذا العلم أقوالَ النبي التي يستدل بها هؤلاء الناس لَحُسِم الأمر في لمح البصر. كان علي من أقارب النبي    وكان يقيم عند النبي كأولاده لذلك فإن كلمات النبي عنه كانت تحمل في طياتها محبة من نوع آخر، ولكن أبا بكر كان من جيله وكان من عائلة أخرى وكان رجلا جليلا يتسم بطبع جدّي لذلك فكانت طريق حبّه له وكلماتُه تتصبغ بصبغة أخرى. فلو قيس حب النبي  لكل منهما بحسب المستوى الذي يتميز به كل واحد منهما لاستطعنا المقارنة بينهما. كان حب المسيح الموعود لمفتي محمد صادق من النوع الذي يكون مع الصغار من الأقارب والأعزاء، وكان تعامله معه بحسب ذلك الحب. لذلك ينبغي ألا يُفهم من رواية المولوي شير علي -كما لم يكن المولوي شير علي يرمي إليه- أن حضرة المسيح الموعود كان يحب مفتي محمد صادق حبًّا أكبر وأكثر من المولوي نور الدين أو المولوي عبد الكريم رضي الله عنهما.

304- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني ميان عبد الله السنوري وقال: قال لي المسيح الموعود مرة في أوائل عهده: قال أحد الملوك لصانع ماهر أن يريَه نموذجًا لصنعته وكماله، وأن يقدم له إبداعًا مميزًا لا يستطيع أن يأتي بأفضل منه. ثم قال الملك نفسه لصانع ماهر آخر أن يصنع هو الآخر نموذجًا يبلغ ذروة كماله ويقدّمه له. لقد شغّلهما الملك وعلق بينهما ستارا. لقد بنى الأول منهما جدارًا وزيّنه تزيينًا بالنقوش والألوان والرسم الجميل، وهكذا أنتج نموذجًا رائعًا لذروة كمال الإنسان. أما الصانع الآخر فقد بنى جدارًا أيضا دون أن يجمّله بالنقوش والألوان والرسم الجميل وإنما جعله صافيًا وبراقا وشفافًا أكثر من المرآة.

أمر الملك الصانع الأول أن يريَ نموذج صنعته فقدّم الجدار المزين بالنقوش والرسم الجميل الذي أدهش الناظرين إليه. ثم أمر الملك الصانع الآخر أن يقدم نموذج كماله في صنعته، فاستأذن من الملك رفعَ الستار بينه وبين الصانع الأول. فأمر الملك برفعه وعند ذلك رأى الناس جدارًا مشابهًا لجدار الصانع الأول، والسبب في ذلك أنه برفع الستار انعكست في هذا الجدار الملس المصقول جميع النقوش والرسوم الجميلة التي كانت على الجدار الأول دون أن يكون هناك أدنى فرق بينهما.

يقول ميان عبد الله: لما ذكر لي حضرته هذا الأمر قلت لعله ذكر أحد الملوك، فلم أركز في هذه القصة ولم أتدبرها ولكن لما أعلن حضرته أنه حظي بالنبوة الظلية فهمتُ أنه كان قد ذكر نفسه في هذا المثال. فذكرت هذا المثال لأهل قرية “غوث غرهـ” ومن خلاله أفهمتهم قضيةَ النبوة الظلية فاستوعبوها بشكل جيد. فلما أثار اللاهوريون اختلافَهم في مسألة النبوة لم يحدث أي قلق في جماعة “غوث غرهـ”، بل قالوا: لقد أُفهِمنا هذا الأمر من قبل.

أقول: لا شك أن الميزة التي تفرّد بها المسيح الموعود هي أنه قد صقل لوح قلبه لدرجة انعكست فيه صورة سيد الكون ونقوشه كاملة، ولا شك أن كل من يصفي قلبه فإن نقوش النبي تنعكس في قلبه بحسب كفاءته واستعداده. ليس محمد رسول الله بخيلا، إنما البخل فينا نحن الذين لا نوصل اتِّباعنا له  إلى الكمال.

اللهم صلّ عليه وعلى آله وعلى أصحابه وعلى عبدك المسيح الموعود وبارك وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

انتهى هنا الجزء الأول من سيرة المهدي

Share via
تابعونا على الفايس بوك