دلالة ذِكر إسماعيل وإدريس (عليهما السلام)
ضمن سياق سورة مريم
- فمن هو إدريس عليه السلام؟
- ولماذا ذُكر في هذا الموضع من سورة مريم بعد ذكر إسماعيل (ع)؟
___
التفسير:
لما قال الله تعالى لإسماعيل إني سأُخرج من نسلك قومًا سيكونون حملة لواء الرشد والهدى، صمّم على أن يعلّم أولاده البر والتقوى على الدوام، ليتمّ وعد الله على ما يرام. فكان يأمر أهله بالصلاة والدعاء والزكاة، ويقوم بالمهام التي عهدها الله إليه أحسن قيام، فرضي الله عنه رضوانًا كبيرًا. ورغم هذه الحقائق كلها تقولون أن الله تعالى قد اتخذ المسيح ابنًا، ثم بعثه إلى الدنيا، وأنه لن يبعث الله بعده أحدًا لنجاة الناس؟ هل من العقل والمنطق أن لا تتحقق نبوءاتنا التي لا نـزال نؤكدها باستمرار منذ زمن بعيد؟
إنه لمن المؤسف أن المفسرين لم يدركوا الحكمة وراء ذكر الله تعالى إسماعيل هنا؟ ولماذا ذكر قبله موسى وهارون؟ ولماذا ذكر قبلهما إسحاق ويعقوب؟ ولمـاذا ذكر قبلهما إبراهيم؟ إنما اكتفى المفسرون بقولهم إن الله تعالى قد ذكرهم ذكرًا عشوائيًّا من غير حكمة وغاية. وكأنهم يقولون أن الله تعالى – والعياذ به – قد فعل كما نفعل نحن البشر حيث نذكر بعض الأحيان بالخطأ أسماء القوم ذكرًا عشوائيًّا لا ترتيب فيه ولا نظام. مع أن الواقع أن الله تعالى قد ذكر هنا اسم كل نبي في محله وفق هذا الترتيب لهدف خاص. فكان من المفروض أن يذكر زكريا أولاً، ثم يحيى ثم المسيح ثم إبراهيم ثم إسحاق ويعقوب ثم موسى وهارون، وأخيرًا إسماعيل. ذلك لأنه تعالى استهدف من هذا الترتيب أن يبين أن نـزول البركات في نسل بني إسحاق قد تم وانتهى، فليتّجهوا الآن إلى نسل بني إسماعيل. فالله الذي قد أخرج من الابن الأول هذه السلسلة الطويلة من الأنبياء، ألا يخرج من الابن الثاني سلسلة أخرى طبقًا لما وعد؟
التفسير:
ينشأ حول هذه الآية سؤالان؛ الأول: من هو إدريس ؟ والثاني: لماذا ذُكر إدريس هنا؟
إن أكثر المفسرين متفقون على أن إدريس هو أخنوخ * الذي هو وَلَدُ سِبطِ آدم، وهو جدُّ نوح عليهم السلام أجمعين (فتح البيان، الدر المنثور)؛ واسمه بالإنجليزية Enoch.
ويقول بعضهم إن إدريس هو إلياس. وقد كان السبب الأول الذي حدا بهم إلى اتخاذ هذا الرأي فهو اعتقاد البعض أن إلياس قد رُفع إلى السماء أيضًا. أما السبب الثاني هو أنه كانت هناك نبوءة عن نـزول إيليا من السماء ثانية قبل ظهور المسيح، فهذا التشابه بين المسيح وإلياس جعلهم يظنون أن إدريس هو إلياس. ولكن أصحاب هذا الرأي قلة. ومما يدل على خطأ هذا الرأي أيضًا أن القرآن قد ذكر إلياس في مواضع أخرى، ومن غير المعقول أن يذكر القرآن إلياس هنا باسم آخر. لو كان النطق بلفظ إلياس صعبًا على العرب لقلنا إن أصحاب هذا الرأي على الحق، ولكن ما دام أن القرآن الكريم قد استعمل اسم إلياس في مواضع أخرى فمن الخطأ تمامًا اعتبار إدريس هو إلياس، إذ لا دليل على صحة هذا الرأي.
كما أن هناك تشابهًا بينَ أخنوخ وإدريس من حيث المعنى. فأخنوخ يعني في العبرية Dedication أي وقفُ الشيء، أو Instruction أي التعليم والتدريس (الموسوعة التوراتية مجلد 2: Enoch). أما إدريس فيعني كثير الدارسة والتدريس، إذ هو مشتق من درس. وكأن إدريس يتضمن أيضًا معنى Dedication و Instruction كليهما، لأن المرء إذا عكف على عمل صار ماهرًا فيه، ونذر نفسه لـه. فترى أن «إدريس» يعني في العربية ما يعني «أخنوخ» في العبرية.
يقول صاحب أقرب الموارد عن إدريس إنه «عَلَمٌ أعجميٌّ». ذلك أن العَلم إذا كان غير منصرف كان أعجميًّا. فلولا أنه عَلَمٌ غير منصرف لكان عربيًّا.
أما ابن السكيت فيرى أنه غير منصرف ولكنه عَلم عربي. وقد تمسك برأيه هذا بشدة وهو يدّعي أن لإدريس معنى في العربية. فهو مشتقّ مِن الدرس مثل إبليس الذي اشتُقّ من الإبلاس، ويعقوب من العقب، وإسرائيل من الإسرال.
وأقول: إن هناك أسماء أخرى أيضًا – لم يذكرها ابن السكيت – قد اشتُقت من الكلمات العربية مثل إضحاق من الضحك وإسماعيل من السمع.
غير أن رأي ابن السكيت هذا مرفوض عند اللغويين الآخرين، وحجتهم في ذلك أنه لو كان لفظ «إدريس» لفظًا عربيًّا لما كان غير منصرف، فمنعُ صرفه دليل على عجمته، لأن العَلم العربي يكون منصرفًا.
ويرى الأصمعي والقرطبي وصاحب الكشاف أنه يجوز أن يكون معنى «إدريس» في تلك اللغة الأجنبية قريبًا من ذلك، فحسِبه ابن السكيت من الدرس خطأً، وظنّه عربيًّا. (تفسير القرطبي)
ولكنني أرى أن كلا الفريقين على الخطأ. لقد أخطأ ابن السكيت حين اعتبر «إدريس» عربيًّا، إذ لو كان عربيًّا لما كان غير منصرف بحسب قواعد اللغة. أما العلماء الآخرون الذين قالوا إن إدريس لفظ أعجميّ ولذلك صار غير منصرف، فهم أيضًا لم يدركوا الحقيقة المبتغاة. ذلك لأن هؤلاء أيضًا يعترفون أن اسمه أخنوخ. إذًا فإدريس ترجمة لِـ «أخنوخ». وما دام هذا الاسم اسمًا مترجَمًا فإنه لم يعد عَلَمًا، وبالتالي لم يعد غير منصرف، لأن الاسم ُيمنع من الصرف إذا كان عَلمًا أعجميًّا. إذا كان إدريس ترجمة لِلفظ «أخنوخ» فقد زالت عنه العَلَمية، ولو كان إدريس عَلمًا فليس هو اسمًا للنبي أخنوخ، بل هو اسم نبي آخر. أما إذا كان إدريس اسمًا لأخنوخ نفسه فثبت أنه ترجمة لأخنوخ، وبالتالي فإنه يفقد العَلَمية. إذًا فالذين قالوا أن إدريس غير منصرف قد وقعـوا في الخطأ يقينًا، إذ ليس هنــاك سبـــب ظاهر لاعتباره غـــــــــير منصرف.
تعالوا نتدبر الآن فيما جعل العربَ يعتبرون إدريس غير منصرف مع أنه ترجمة للفظ أخنوخ. لا شك أن اسم إدريس كان متداولاً بين العرب، وقد اعتبروه ممنوعًا من الصرف حتى قبل نـزول القرآن الكريم. إذًا فعلينا أن نعرف السبب الذي دفعهم إلى اعتباره، خطأً، ممنوعًا من الصرف؟
الواقع أن علماءنا ما زالوا منخدعين أن لهم باعًا طويلة في دراسة اللغات الأجنبية مثلما أنهم أساتذة اللغة العربية. لقد كانوا جهابذة اللغة العربية بلا مراء، ولكن دراستهم للغات الأجنبية كانت محدودة جدًّا، كما كانت معلوماتهم عن الأديان الأخرى ضئيلة وسطحية للغاية. فعندما نطالع التفاسير، ونقرأ ما نقلوا فيها عن الكتاب المقدس من أحداث ومعلومات ينتابنا الخجل الشديد؛ لأن ما عزوه إلى التوراة والإنجيل خلاف للواقع ولا يوجد لـه فيهما من أثر. لقد ذكروا في تفاسيرهم أمورًا كثيرة لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة. يقولون هذا ما ورد في التوراة وهذا ما يقول الإنجيل، مع أن هذه الأقوال لا يوجد لها أصل لا في التوراة ولا في الإنجيل. ذلك لأنهم أثبتوا في تفاسيرهم ما سمعوه شفاهةً من أفواه اليهود. كان هؤلاء اليهود يتلاعبون معهم، ويمدّونهم بمعلومات زائفة، ولكنهم كانوا يصدّقون اليهودَ، دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء البحث والتحقيق، ظانين أنهم لا بد أن يكونوا أمناء فيما يخبرونهم عن ديانتهم،. فكلما أرادوا معلومة تتعلق بالعهد القديم ذهبوا إلى أولئك اليهود، فنسجوا لهم قصصًا ملفقة، فأثبتوها في تفاسيرهم، مما كان يجعل اليهود يضحكون على سذاجتهم ساخرين.
وفّق الله تعالى المسلمين في يوم من الأيام لتطهير تفاسيرهم من الإسرائيليات لكان هذا حدثًا في غاية الأهمية، وجديرًا بأن يخلّصنا مما نتعرض له الآن من الحرج أمام أتباع الديانات الأخرى. ذلك لأن تفاسيرهم مليئة بالكثير من الأمور الخاطئة المتعلقة بالتوراة والإنجيل. لقد ورد في كتب الحديث أن أحدًا سأل ابن عباس مسألة، فقال سأجيبك غدًا. ويقول الراوي: لما ذهب السائل دعاني ابن عباس وقال: اذهب إلى فلان اليهودي واسأله: ماذا ورد في كتبهم بصدد هذا السؤال؟
لا جرم أن هذا الأمر كان دليلاً على طيبة علمائنا وصفاء قلوبهم، ولكنه يكشف لنا أيضًا أن معلوماتهم عن الديانات الأخرى كانت ناقصة ومحدودة جدًّا. وإنْ وفّق الله تعالى المسلمين في يوم من الأيام لتطهير تفاسيرهم من الإسرائيليات لكان هذا حدثًا في غاية الأهمية، وجديرًا بأن يخلّصنا مما نتعرض له الآن من الحرج أمام أتباع الديانات الأخرى. ذلك لأن تفاسيرهم مليئة بالكثير من الأمور الخاطئة المتعلقة بالتوراة والإنجيل. لقد ورد في كتب الحديث أن أحدًا سأل ابن عباس مسألة، فقال سأجيبك غدًا. ويقول الراوي: لما ذهب السائل دعاني ابن عباس وقال: اذهب إلى فلان اليهودي واسأله: ماذا ورد في كتبهم بصدد هذا السؤال؟ فقصّ عليه اليهودي قصة سخيفة للغاية. ولما حضره السائل في اليوم التالي حكى لـه ابن عباس نفس القصة التافهة التي ذكرها اليهودي. فلا شك أن الذنب هنا ذنب اليهودي، ولكن قد حصل تقصير من ابن عباس أيضًا – رضي الله عنهما – حيث صدّق اليهوديَّ الكافر الخبيث من غير تحرٍّ وفحص. لا شك أن ما فعله ابن عباس إنما فعله لصفاء قلبه وحسن نواياه، ولكن وجود مثل هذه القصة في تفاسيرنا لعار كبير علينا. إننا في هذا التفسير أيضًا نقوم بالبحث، ولكننا نستعين فيه بالمصادر العربية وغيرها من الكتب العبرية واليونانية، ونقلب المعاجم، ونتصفح التاريخ، ثم نثبت وندون ما خلصنا إليه. ومن الممكن تمامًا أن تظل بعض الأخطاء في بحوثنا، إلا أن ما نقوله يكون أقرب إلى الحق والصواب، لأن بحثنا مبني على حقائق اللغة وأسرارها ووقائع التاريخ. ولكن تفسير بعض هؤلاء المفسرين مبني على أحداث ملفقة وقصص سخيفة فارغة. إذًا فهناك بون شاسع بيننا وبينهم. إذ كان بعضهم يذهب إلى اليهود ويسألهم في بعض القضايا، فكان اليهود يتكلمون معهم مستهزئين، فكانوا يصدّقون قول هؤلاء الأشرار. فمثلاً عندما أراد بعضهم تفسير كلمة «الرعد» ذهب إلى حبر من أحبار اليهود فسأله عن الرعد. فقال لـه ساخرًا: إن الرعد ملاك في السماء، لـه كذا من الأجنحة. وكلما حرَّك أجنحته خرج من كل جناح صوت كصوت الصفّارة. ثم يتحول الصوت طاؤوسًا، تخرج من جناحه نار، ومن تلك النار يتولد الرعد والبرق. فكان هذا كله استهزاءً وسخرية مِن قِبل الحبر اليهودي، ولكن صاحبه المسلِم صدّقه لسذاجته، وظن أن هذا هو تفسير الرعد. وقد حطّ هذا الأسلوب تفاسيرنا جدًا من الناحية العلمية.
وقصارى القول إنه من الحقائق الثابتة أن إدريس كان اسمًا متداولاً بين العرب قبل الإسلام، وأن هناك تشابهًا بين إدريس وأخنوخ من حيث المفهوم. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا أطلقوا على أخنوخ اسم إدريس؟ (يُنبع)