بين النجاح الزائف والفشل الدائم

بين النجاح الزائف والفشل الدائم

التحرير

  • مثالب الغش المجتمعية
  • الإيمان والغش
  • حيل الغش
  • طلب الغش وطلب العلم

__

الغش ظاهرة سلوكية غير أخلاقية تهدد المجتمع على شتى الأصعدة. فهو نوع من أنواع الخيانة حيث إنه إخفاء للواقع وإظهار لخلافه. ويتحقق الغش بإخفاء العيب أو تزيينه بحيث لا يتعرف عليه الطرف الآخر وبالتالي فإن أساسه اللامبالاة وعدم المسؤولية. يمارسه البعض الذين دأبوا على سرقة النجاح بدلا من السعي واكتسابه بعرق الجبين. ومما يؤسف له هو تفشي ظاهرة الغش والخداع بصفة جنونية في مجالات الحياة المختلفة ولا سيما في الأسواق حيث لا تكاد بضاعة تسلم من تلاعب الغشاشين وتدليسهم، وتوسع نطاق الغش ليشمل الأدوية والمستحضرات الطبية، بل إلى المدارس والمعاهد والجامعات أيضا. وسنركز حديثنا في هذه السطور على أضرار الغش على صعيد المؤسسات التعليمية الأمر الذي يجعلك تقف حائرا أمام هذه الظاهرة الفتاكة.

لا شك أن ضعف إيمان المرء هو الذي يدفعه للغش خصوصا أنه يعلم، بمجرد إقدامه عليه، أنه يستجلب غضب الله عليه. فتسوِّل له نفسه العليلة مبررات واهية فيصرف وقتًا طويلاً في اختراع الحيل وطرق الغش خلال الامتحانات ما لو استغل جزءا منه في المذاكرة والتركيز خلال الصف لكان من الناجحين الأوائل. هذا إلى جانب التمادي في اللهو والترح والمرح فلا تجده جادا في ما يفعل أو يقول، فيطغى على شخصيته طابع الكسل في طلب العلم الأمر الذي يُفقده الثقة في نفسه وفي قدراته ويتولد فيه الشعور بالدونية، فيصبح غير قادر على الإنتاج والإبداع وبالتالي يحكم بنفسه على مدركاته العقلية بالإعدام، فيتمكن منه الغش بجميع أساليبه فتصطبغ شخصيته به لدرجة أنه يصبح تجسدا له. وهكذا لا يخلو مجال من مجالات حياته من الغش الذي يتسرب رويدا رويدا إلى علاقاته الاجتماعية والأسرية. وفي محاولة فاشلة لإضفاء الشرعية على غشه يلقبه تارة بالذكاء المعاصر وأخرى بأداة التعامل الحديثة. ولا تتوقف به الوقاحة إلى هذا الحد ولكنه يصرح بأن كل من حوله من أخلاء وأقارب على هذا المنوال فلماذا يكون هو مختلفا؟!

وعند اقتراب الامتحانات تراه يطلب المساعدة ويتطلع للنجاح حتى ولو كان على ظهور الآخرين.

وفي واقع الأمر إن الذي يغش لا يجد الثقة في نفسه بأنه قادر على تجاوز الامتحانات بجهوده ومراجعة دروسه بمفرده ومن ثم يغلب عليه شعور الخوف من الفشل أو بالأحرى الرسوب فيسبب له قلقا مستمرا. والحقيقة التي تغيب عن وعيه وإدراكه أن العيب ليس في الرسوب ولكن العيب كل العيب أن يبقى راسبًا طوال حياته. فالنجاح عن طريق الغش ما هو إلا الرسوب ذاته، وليس رسوب سنة دراسية واحدة بل رسوب إلى آخر الحياة، لأن أساسها نجاح مغشوش.. ويا ليت شعري!

وإنني لا أبالغ حين أقول إن من أهم أسباب تأخر وعدم رقي الأمة هو الغش وذلك لأن أهم وازع لتقدم الأمم هو العلم وبالأحرى الشباب المتعلم. فإذا كان شبابها يحصلون على الشهادات بالغش فأخبرونا بالله عليكم ماذا سوف ينتج لنا هؤلاء الخريجون الغشاشون!

فهَمُّ كل واحد منهم هو وظيفة بتلك الشهادة المزورة ليملأ بطنه. لا هَمَّ له في تقديم شيء ينفع الأمة. هذا في حال كان يعي ماهية الأمة! ومما لا شك فيه أنه يستحيل تقدم أي أمة فيها هذا العدد الهائل من الغاشين المعاصرين. ومن خلال نظرة تأملية لأرض الواقع نرى أن عدد الطلاب المتخرجين كل سنة بالآلاف، ولكن أخبرونا من منهم قدم اختراعا، أو اكتشافا أو قدم مشروعا نافعا للأمة؟ قلة لا تكاد تُذكر. والأمرُّ من هذا أن الغاش قد يتولى منصبا تربويا حساسا الأمر الذي يجعلك تفكر تُرى أي أثر إيجابي سيترك في نفوس طلابه وأي خلق سينقش في نفوسهم  وهو يؤدي هذه الرسالة النبيلة. وكما تعلم فإن الرسول  أضفى على طلب العلم طابعا دينيا بحتا وكأنه أدرجه ضمن العبادات حيث قال : “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”. وفي حديث آخر قال بما معناه أن من يخرج طلبا للعلم فهو في سبيل الله حتى يرجع.  فهل تتصور  أن أحدا يمكن أن يغش في صومه مثلا وإن فعل ذلك فما له من الصوم إلا الجوع والعطش، وهكذا حال من يغش في طلب العلم.  فقد يحصل على وظيفة وقد يؤسس أسرة وقد يشترى عقارا وما إلى ذلك من محصلات الحياة ولكن كل هذا بُنـي على أسس واهية، فيتسرب الغش إلى حياته الزوجية والمهنية وإلى جميع معاملاته اليومية ويعيش حياة تتربع فيها النفس اللوامة على كيانه ومداركه، الأمر الذي يجعله يشك في كل صغيرة وكبيرة تصدر من أفراد أسرته وأصدقائه وكل من حوله فتتحول حياته إلى جحيم. لا يهدأ له بال ولا يتذوق طعم السكون وبالتالي لا يستدعي الأمر عوامل خارجية لتحطيم عالمه المغشوش الذي بناه بالغش والخداع خلال سنين طويلة فيذوب عالمه ببطء مُتناهٍ كما يذوب الشمع تحت تأثير النار.

العيب ليس في الرسوب ولكن العيب كل العيب أن يبقى راسبًا طوال حياته. فالنجاح عن طريق الغش ما هو إلا الرسوب ذاته وليس رسوب سنة دراسية واحدة بل رسوب إلى آخر الحياة لأن أساسها نجاح مغشوش.. ويا ليت شعري!

ذكرني حال هؤلاء وأنا أخطُّ هذه السطور بالراقصات اللاتي يقضين سني شبابهن في الملاهي لا يبالين بحلال أو حرام، حالهنّ  حال الطلبة الغاشين خلال حياتهم الدراسية. فلما تفقد الراقصة أساليب الإغراء وتفقد مفاتنها استقطاب الطامعين تتحجب ثم تعتمر ثم تحج فتصبح شيخة طريقة صوفية تكتب التمائم للمحتاجين وتوضح الطريق للسالكين. وهكذا حال ذلك الطالب الغاش فبعد سنين الغش واللهو والمرح والترح يتخرج ويصبح رجل تعليم وإرشاد. فإذا كان هذا هو صدى شارعنا الإسلامي فلا عجب ولا غرابة أن نبقى في الحضيض بين النجاح الزائف والفشل الدائم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك