الحكمة من بعثة ذي القرنين الثاني

الحكمة من بعثة ذي القرنين الثاني

  • في من تمثل المجيء الثاني لذي القرنين؟
  • ما الحكمة من هذا المجيء الثاني لذي القرنين؟

___

ما علاقة هذا الموعود بزمن يأجوج ومأجوج؟

يؤكد القرآن الكريم والحديث الشريف أن الإسلام سيؤول إلى هذه الحالة في آخر الزمان عند ظهور يأجوج ومأجوج وظهور الدجال؛ وأنهما أهل دين واحد، حيث إن يأجوج ومأجوج لقبٌ يرمز إلى فتنهم السياسية، بينما الدجال لقبٌ يشير إلى فتنهم الدينية.

إذًا فالربط بين هذه الروايات بنوعيها يكشف لنا أن إشاعة الكفر التي ستتم في زمن يأجوج ومأجوج سيقاومها رجل فارسي الأصل، وأن رجالاً آخرين من بني فارس سيساعدونه في ذلك؛ وهكذا بذكر أحوال ذي القرنين بالتفصيل رد الله تعالى الاعتراض الذي كان يَرِدُ على فعل ذي القرنين الأول الفارسي الأصل. كما أنبأ بتسجيل قصته في القرآن أنه سيظهر في آخر الزمان ذو القرنين الآخر الذي سيدفع هجمات يأجوج ومأجوج الدينية ضد الإسلام، مثلما صدَّ ذو القرنين الأول غاراتِهم المادية في الماضي.

والجدير بالذكر هنا أنه كما قيل عن ذي القرنين الثاني بأنه ليس فارسيَ الأصل في الحقيقة حيث نزح آباؤه إلى الأراضي الفارسية من إحدى الولايات الصينية، كذلك ورد في التاريخ أن ذا القرنين الأول كان في الأصل من منطقة ميديا، وإنما سمِّي فارسيًّا لعلاقاته المؤقتة بفارس.

مما لا نقاش فيه أن ذا القرنين هذا ملِكٌ من ملوك ميديا وفارس، لأن رؤيا دانيال النبي تدل جليًّا على أنه واحد منهم. إنما بقي علينا أن ننظر أيًّا من هؤلاء الملوك كان يتحلى بهذه الصفات.

هذا، وأود في هذا المقام دفع شبهة أخرى. يحاول بعض البهائيين عبثًا تطبيق هذه الأنباء على زعيمهم «بهاء الله» لكونه فارسي الأصل؛ ولكنها محاولة باطلة. ذلك أن الأحاديث النبوية تصرح بأن الموعود المذكور هنا سيعلّم القرآن الكريم، وسيكون نائبًا وخليفة لمحمد رسول الله ، ذلك أن ما قاله رسول الله في تفسير آيةٍ من سورة الجمعة يؤكد بكل جلاء أن محمدًا كما يعلّم الأُمّيّين أي العربَ القرآنَ، كذلك سيعلّمه مرة أخرى قومًا آخرين لم يأتوا بعد. إذًا فإن هذا النبأ لا يمكن أن ينطبق على أحد إلا الذي:

  1. يكون فارسي الأصل
  2. ويعلن أنه تلميذٌ لمحمد رسول الله ، ولا يعلّم إلا القرآن
  3. أنه يكون ذا القرنين أي يرى قرنَين من السنين، علمًا أن هذا الأمر مستنبَط بالجمع بين آيات القرآن المختلفة الواردة في هذا الموضوع
  4. وأنه سيقضى على فتنة يأجوج ومأجوج التي أعظم أُسسها عزوُ صفات الله إلى العباد وتأليهُهم.

والواضح الجلي أنه لم يتوافر في «بهاء الله» من هذه الشروط إلا كونه من فارس. فلم يكن تلميذًا لمحمد رسول الله ؛ كما لم يَدْعُ الناسَ إلى القرآن الكريم؛ ولم يجد زمن قرنين من القرون؛ ولم يقضِ على فتنة يأجوج ومأجوج؛ بل على النقيض شبَّ نارَها وأفحلَ شرَّها بقوله عن نفسه أنه إله.

بعد ذكر هذه الأمور التمهيدية وبيان الترتيب الموجود في الواقعات المذكورة في هذه السورة، أذكر بحثي الخاص بصدد ذي القرنين.

لقد ذكرتُ من قبل أنني أرى مع بعض المفسرين السابقين والباحثين الأوروبيين، وكما بيّن أستاذي المكرم المولوي نورُ الدين الخليفةُ الأول لسيدنا المسيح الموعود ، أن ذا القرنين لقبٌ لأحد ملوك الفرس، وكان أستاذي المكرم يرى أن اسم هذا الملِك كيقباد.

وقال البعض الآخر إنه كان داريوس الأول. (بيان القرآن مجلد 2 ص 842)

وعندي أن علينا أن ننظر قبل كل شيء في صفات ذي القرنين التي ذكرها القرآن الكريم، وهي كالآتي:

  1. أنه كان يتلقى الإلهام أو يرى رؤى صادقة من الله تعالى.
  2. أنه خرج من بلاده يفتح الممالك متجهًا إلى الغرب حتى وجد الشمس تغرُب في عينٍ حَمِئَةٍ.
  3. ثم توجّهَ إلى الشرق وفتح الممالك الشرقية.
  4. ثم ذهب إلى منطقة متوسطة حيث كان يأجوج ومأجوج يُغِيرون ويهاجمون، فجعل هناك سدًّا.

لا بد لنا أن نرى هل توجد هذه الأمور الأربعة في الرجل الذي نظنه ذا القرنين، ولا سيما فيما إذا كان ملهَمًا من الله تعالى ومقبولاً عنده أم لا؟

مما لا نقاش فيه أن ذا القرنين هذا ملِكٌ من ملوك ميديا وفارس، لأن رؤيا دانيال النبي تدل جليًّا على أنه واحد منهم. إنما بقي علينا أن ننظر أيًّا من هؤلاء الملوك كان يتحلى بهذه الصفات.

لا جَرَمَ أن صفة الإلهام هي أهمّ هذه الصفاتِ. وحين نتصفح التاريخ من هذا المنظور نجد بين ملوك فارس ملِكًا كان ملهَمًا من الله تعالى، وقد أثنى عليه الأنبياء الآخرون أيضًا لبِرِّه وتقواه؛ وذلك الملِك هو «كُورش» ويسمى بالإنجليزية «Cyrus.» يقول إشعياء النبي عنه ما نصه: «هكذا يقول الرب لمسيحِه لكُورشَ الذي أمسكتُ بيمينه لأدوسَ أمامه أُمـمًا وأَحْقاءَ ملوكٍ، لأفتح أمامَه المِصراعينِ والأبوابُ لا تُغلَق. أنا أسيرُ قُدّامَك، والهِضابَ أُمهِّدُ. أُكسِّر مِصراعَي النُّحاسِ، ومَغاليقَ الحديدِ أقصِف، وأُعطيك ذخائرَ الظلمة وكنوزَ المخابئِ، لكي تعرِف أني أنا الربُّ الذي يدعوك باسمك إلهُ إسرائيل. لأجلِ عبدي يعقوبَ وإسرائيلَ مختارِي دَعَوتُك باسمك. لقّبتُك وأنت لستَ تعرِفني» (إشعياء 45: 1-5).

يظهر من إلهام إشعياء هذا أن كورشَ ملِكَ ميديا وفارس قد بورك من قبل الله تعالى حيث سمّاه الله المسيحَ – مع الملاحظة أنه كما لُقِّب كورش، الذي هو ذو القرنين، بالمسيح، كذلك سُمِّيَ المسيح الموعود ذا القرنين. ويتضح أيضًا من هذا الإلهام أن الله تعالى قد منح كورشَ الحُكمَ بفضل خاص منه. وهذا ما يقوله القرآن أيضًا عن ذي القرنين حيث ورد فيه:

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا .

كما نقرأ في كلام إشعياء: «أنا أسير قُدّامَك، والهِضابَ أُمهِّدُ.» وفيه إشارة إلى كثرة أسفاره كما قال القرآنُ الكريم.

ونقرأ في إلهام إشعياء: «أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك، إلهُ إسرائيل.» ويماثله قولـه تعالى في القرآن:

قُلْنا يا ذا القرنين ..

أعني أن الله تعالى دعاه بذكر اسمه «ذي القرنين».

ثم ورد في إلهام إشعياء: «دعوتُك باسمك، لقّبتُك وأنت لستَ تعرِفني.» وفيه إشارة إلى أنه ما كان يعبد الله تعالى بأسمائه المذكورة في التوراة بل بأسماء أخرى. والثابت من التاريخ أن كُورش كان من أتباع زردشت النبي.

والكتب التاريخية كلها تذكُر كُورشَ ذكرًا حسنًا، حتى ورد فيها أن أعداءه أيضًا كانوا يحبّونه، وأنه كلما هاجم بلدًا فتح أهله لـه الأبواب والتحقوا به ضد ملكهم، وذلك لما سمعوه من بِرِّه وعدلِه. وهذا ما يؤكده أيضًا إلهامُ إشعياءَ النبيِّ حيث ورد فيه: «القائل عن كُورشَ راعِيَّ، فكُلَّ مَسرّتي يُتمِّم» (إشعياء 44: 28).

فمما سجّله المؤرخون القدامى عن حسن أخلاقه ما قاله دنيوفين المؤرخ الشهير وتعريبه: ذات مرة تدبرتُ في الفطرة الإنسانية فتوصلت إلى أن من السهل على الإنسان بفطرته أن يحكم على الحيوانات الأخرى، ولكن من الصعب جدًّا أن يحكم على بني جِلدته. فكم مِن سيدٍ يوجد في بيته قليل أو كثير من الخدَمَ، ولكن ليس بوسعه أن يجعلهم يطيعون طاعة صادقة. فاستنتجتُ من ذلك أنه لا يوجد في الدنيا رجل واحد قادر على أن يحكم على الإنسان، وإن كان كثير منهم يحكمون الحيوانات الأخرى. وبينا أنا هائم في تفكيري هذا إذ تذكّرتُ كُورشَ الملِكَ، الذي جعلني أعدِّل رأيي هذا، فقلت: نعم، ليس صعبا أن يحكم أحدٌ الناس، إذ وجدتُ الناس قد قبلوا حكم كورش عليهم عن طواعية، مع أن بعضهم كانوا يسكنون على مسيرة شهرين منه، وبعضهم مسيرة أربعة أشهر؛ وبعضهم لم يروه قط، وبعضهم ما كانوا ليتوقعوا حتى رؤيته.

لا جَرَمَ أن صفة الإلهام هي أهمّ هذه الصفاتِ. وحين نتصفح التاريخ من هذا المنظور نجد بين ملوك فارس ملِكًا كان ملهَمًا من الله تعالى، وقد أثنى عليه الأنبياء الآخرون أيضًا لبِرِّه وتقواه؛ وذلك الملِك هو «كُورش» ويسمى بالإنجليزية «Cyrus.»

ثم يستطرد قائلاً: لقد ولّد كورشُ في قلوب الناس رغبةً شديدة في أن يُرضوه، وأن يدوم حكمُه عليهم. لقد حكَم شعوبًا كثيرة يصعب إحصاؤها حيث كان ملكه ممتدًّا من الشرق إلى الغرب.

(Historian’s History Of The World: The History of Persia Vol. 2 p. 596-597)

ثم لخّص هذا الكتاب آراء المؤرخين المعاصرين بما تعريبه: إذا كانت العظمة تعني القتالَ دفاعًا عن العدل وكونَ الإنسان مستعدًّا لفداء النفس في هذا السبيل فلا شك أن كورش كان ملكًا عظيمًا.

ثم يقول: لم يعمل كورش شيئًا خالصًا لنفسه. لما تحالفت حكومات ميديا وبابل ومصر ضده وهاجمته، لم يرفع سيفه خلافهم إلا من أجل الدفاع. وفوق كل شيء إنه كان رحمةً متجسدةً. لم تقع على تُرسه قطرةُ دم سفَكها حرامًا، ولم يصبغ يديه بالانتقام المخيف والاعتساف الغاشم. ولم يحرّق البلاد كما فعل ملِكُ مقدونيا. ولم يكسِر أيدي الملوك المنهزمين وأرجلَهم كما فعل الملوك الفاتحون الآخرون، ولم يسحَبهم على الحيطان كما فعل ملوك اليهود، ولم يشنقهم كما فعلت الروم؛ ولم يسفك الدماء كالإسكندرِ إلهِ اليونان المجنونِ.

بالرغم من أنه كان آسيويًّا لكنه كان من أولئك الرجال الذين يظهرون قبل أوانهم بكثير. كان أكثر الناس حِلمًا. سبَق قومه خارجًا على تقاليدهم وعاداتهم؛ وبلغ قمة الرقي الإنساني قبل أن يبلغها أحد بأمد بعيد. كانت مملكته القوية تتأسس على مبدأِ رفعِ مستوى الممالك المفتوحة ومنحِ أهلها الحقوقَ على قدم المساواة. لم تستسلم مدينة «تائر» لنبوخذنصّر ولا للإسكندر إلا بعد مقاومة شديدة وحصار طويل، ولكنها فتحت أبوابها لكُورش عن طيب نفس…

وفوق كل شيء إن الشعب الصغير الذي يسمّى اليهودَ استقبلوه على نهر بابل بحماس لم يستقبلوا به أحدًا من الغابرين…

لم يخلُقه الزمان بل إنه خلق الزمانَ وكان أباه. كان، ولا ريب، ملكًا فريدًا لا مثيل لـه في التاريخ الإنساني.

(Historian’s History Of The World: The History of Persia Vol. 2 p. 597-600)  (يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك