تأبين شهداء "بوركينا فاسو"..

تأبين شهداء “بوركينا فاسو”..

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • تأبين شهداء بوركينا فاسو

___

تَضْحِيةُ المُسْلِمينَ الأحمَدِيينَ مِنْ بِقاعِ سيدنا بلال ،

حَلْقَةٌ جَدِيدَةٌ مِن تضحيات أولياء الله

تنويه:  العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية من إضافة أسرة «التقوى»

بعد التشهد والتعوذ وتلاوة سورة الفاتحة استهل حضرته الخطبة بتلاوة الآيات 155 الى 157 من سورة البقرة:

وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة: 155-157).

ينهانا الله تعالى في هذه الآية عن نعت من يضحون بأرواحهم في سبيل الله بالأموات، بل هم أحياء. تُبذَل التضحيات من هذا القبيل في الجماعة الإسلامية الأحمدية في سبيل الله منذ أكثر من مائة عام. أترى  ضاع أيٌّ من هذه التضحيات سُدًى؟! كلا! بل قد ظل الله تعالى يرفع درجات هؤلاء الشهداء وكذلك ظل يهب للجماعة بحسب وعده ترقِّيًا أكثر فأكثر. فمن ناحية أحرز هؤلاء الشهداء مكانة كانت من نصيبهم وحدهم، وإن درجاتهم رفيعة حتمًا في الدار الآخرة، ومن ناحية أخرى دام لمعان أسمائهم في هذه الدنيا أيضا، ولا تزال تضحيتهم بأرواحهم في سبيل الله سببا في إحياء ذكرهم، بل وحياة الجماعة أيضا. وهم الذين يصبحون سببا في حياة وتقدم مَن خلفهم. فأنى لهؤلاء أن ينعتوا بالأموات؟! التضحية بالحياة التي بدأت منذ تضحية الشهيد الصاحبزاده السيد عبد اللطيف كانت من نصيب الأحمديين في أفغانستان والقارة الهندية بوجه عام. وفي أفريقيا أيضا بذل أحمديٌّ مخلص في الكونغو حياته في سبيل الله خالصة في عام 2005م، فداءً للجماعة الإسلامية الأحمدية. ولكن النموذج الزاخر بالعشق والوفاء والإخلاص والإيمان واليقين الذي أبداه الأحمديون مؤخرا في «بوركينا فاسو»، أحد البلاد الأفريقية، هو من العظمة بحيث إنه منقطع النظير. لقد أُعطُوا فرصة لينكروا المسيح الموعود ويقبلوا أن عيسى موجود حيا في السماء وسينزل منها، ولو فعلوا ذلك لعُفي عنهم ونجوا بحياتهم. ولكن هؤلاء الناس الذين كانت قلوبهم مليئة بالإيمان، والذين كان إيمانهم أكثر رسوخا من الجبال قالوا بأن الحياة ستنتهي إمَّا اليوم أو غدا، ولا نستطيع أن نقايض بإيماننا لإنقاذها اليوم، ولا نستطيع أن نترك الحق الذي وجدناه. وبالنتيجة ظلوا يضحون بحياتهم واحد بعد الآخر. كانت نساؤهم وأولادهم يرون هذا المشهد ولكن لم يبكوا ولم يندبوا.

لقد كتب هؤلاء الشهداء بدمائهم، بعد تضحية الصاحبزاده عبد اللطيف التي قدمها في زمن المسيح الموعود ، سجلا جديدا من التضحيات في أفريقيا، بل في تاريخ الأحمدية، وبالتضحية بأرواحهم نالوا حياة أبدية. فقد نذروا أموالهم وأنفسهم ثم وفوا بنذرهم بأسلوب فاقوا به الأوائل مع أنهم جاؤوا بعدهم.

ندعو الله تعالى أن يورث كل واحد منهم بشارات أعطيها الذين يقدمون التضحيات في سبيله.

والآن سأذكر بإيجاز سوانح حياة هؤلاء الشهداء ومنها تتبين قوة إيمانهم.

وقائع الحادث

تقع قرية «مهدي آباد»، وهي قرية حديثة الإنشاء، في مدينة دوري في بوركينا فاسو، حيث أُسس فرع للجماعة. وبحسب التفاصيل الواردة قُتل في ساحة المسجد هناك 9 أحمديين على مرأى من الأحمديين الآخرين وقت صلاة العشاء في 11 يناير/كانون الثاني بسبب إيمانهم بالأحمدية الإسلام الحقيقي، إنا لله وإنا إليه راجعون.

تقول التقارير إن أربعة أشخاص مسلحين جاؤوا إلى المسجد وقت العشاء راكبين دراجات نارية. وكان هؤلاء المسلحون انطلقوا من مسجد الوهابيين الكائن قرب مسجد الجماعة الإسلامية الأحمدية، وقد بقوا في مسجدهم ذاك من المغرب إلى العشاء، دون أن يُلحِقوا به أي ضرر، لأنهم كانوا قد جاؤوا من أجل الأحمديين فقط. عندما جاء هؤلاء الإرهابيون إلى مسجد الجماعة كان أذان العشاء يُرفع، وكان بعض المصلين أيضا أقبلوا إلى المسجد وكان بعضهم الآخر في الطريق.

بعد الأذان أكره الإرهابيون المؤذن على أن يعلن أن يحضر الأحمديون المسجد سريعا لأن هناك بعض الناس قد جاؤوا إلى هنا ويريدون أن يتحدثوا معهم. عندما اجتمع المصلون سأل الإرهابيون: من هو إمام المسجد؟ قال السيد الحاج إبراهيم بيدغا: أنا الإمام في هذا المسجد. ثم سألوا: من هو نائب الإمام؟ فقال السيد عمر بن عبد الرحمن: أنا نائب الإمام. عندما حانت الصلاة قال الإمام الحاج إبراهيم للإرهابيين: اسمحوا لنا بأن نصليّ، ولكنهم لم يسمحوا لهم. طرح الإرهابيون عدة أسئلة على الإمام حول معتقدات الجماعة الإسلامية الأحمدية، ورد عليها الإمام بكل هدوء وشجاعة، وقال بأننا مسلمون ونؤمن بالنبي . سأل الإرهابيون: إلى أية فرقة تنتمون؟ قال الإمام: ننتمي إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية. ثم سألوه عن عيسى ، أهو حي أم في عداد الأموات؟ قال الإمام: لقد مات عيسى . فرد الإرهابيون قائلين بما يعني أنهم لا يزالون ينتظرون نزوله: لا، بل هو حي في السماء وسينـزل منها ويقتل الدجال ويحل مشاكل المسلمين. ثم سألوه: من هو الإمام المهدي؟ قال الإمام: إن سيدنا مرزا غلام أحمد القادياني هو الإمام المهدي والمسيح الموعود. قال الإرهابيون أخيرا بعد سماعهم هذا الكلام: الأحمديون ليسوا مسلمين بل هم كفار بالتأكيد. ثم ذهبوا بالإمام إلى مركز الخياطة الملتصق بالمسجد حيث كانت صور المسيح الموعود والخلفاء معلقة  على الجدران. أخذ الإرهابيون تلك الصور وعادوا بالإمام إلى المسجد، وطرحوا عليه بعض الأسئلة حول الصور. أخبرهم الإمام باسم المسيح الموعود والخلفاء وبيّن تفاصيل كل صورة، وقال بأن سيدنا مرزا غلام أحمد جاء إماما مهديا ومسيحا موعودا. فقال الإرهابيون: إن ادعاء مرزا غلام أحمد النبوة محض كذب، والعياذ بالله. ثم جعلوا من المصلين الموجودين في المسجد مجموعات منفصلة، أي مجموعة للأطفال، ومجموعة للشباب وثالثة لكبار السن ورابعة للنساء. لقد بلغ عدد الأطفال والشباب والكبار والنساء في المسجد السبعين. كانت عشر إلى اثنتي عشرة امرأة جالسة وراء الحجاب في انتظار الصلاة. بعد تشكيل المجموعات بحسب الأعمار أخرج الإرهابيون كبار السن إلى ساحة المسجد. كان عشرة من أعضاء مجلس أنصار الله موجودين حينها فيه وكان أحدهم مُعاقا. وعندما همّ هذا الأخ المعاق أيضا بالخروج من المسجد مع بقية الإخوة قال له الإرهابيون: اجلسْ أنت مكانك لأنك لا تهمنا، وأخذوا التسعة الآخرين وجاؤوا بهم إلى ساحة المسجد. وقالوا للإمام إبراهيم بديغا: لو أنكرتَ الأحمدية لأطلقنا سراحك. قال الإمام: إن إنكار الأحمدية دونه ضرب عنقي وكيف يمكنني أن أترك الحق بعد أن هداني الله إليه؟! إن الحياة بلا إيمان لا معنى لها. وضع الإرهابيون سكينا كبيرا على عنق الإمام وأرادوا أن يتلُّوه للجبين، فأبى الإمام إلا أن يقضي نحبه منتصبا، فأردوه شهيدا بإطلاق الرصاصات عليه. فكان الإمام إبراهيم بيدغا أول شهيد. ظن الإرهابيون بعد قتل الإمام بدم بارد أن الآخرين سيرتدون عن دينهم فزعين، فقالوا لأحمدي آخر: هل تريد أن تترك الأحمدية أو نعاملك أيضا كما عاملنا الإمام؟ قال الأحمدي بكل شجاعة وبسالة: إن ترك الأحمدية مستحيل، بل سأسير على الدرب الذي ساره إمامنا، فأطلق الإرهابيون رصاصا في رأسه وأردوه شهيدا. ثم عرضوا على كل واحد من الأحمديين الآخرين الطلبَ نفسه وطلبوا منهم أن ينكروا الإمام المهدي ويتركوا الأحمدية، وإن فعلوا ذلك سيُطلق سراحهم فينجوا بحياتهم. ولكن جميع الأحمديين أبدوا ثباتا ورسوخا كالجبال وقبلوا الشهادة بكل شجاعة وبسالة ولم يُبد أي واحد منهم أدنى ضعف ولم ينكروا الأحمدية. ظل الشهداء يسقطون واحدا بعد الآخر ولم يتزعزع إيمانهم قط بل أبدى كل واحد منهم يقينا تاما وشجاعة أكبر من غيره وضحّوا بحياتهم في سبيل الله رافعين علَم الإيمان. لقد أُطلق على كل شهيد ثلاث رصاصات على الأقل. كان من بين هؤلاء الشهداء التسعة أخَوان توأمان أيضا، فحين استُشهد ثمانية أشخاص بقي في الأخير عمر ابن عبد الرحمن وكان عمره أربعا وأربعين سنة، وكان أصغر الشهداء سنًّا، فقال له الإرهابيون إنك شاب وتستطيع أن تنجو بنفسك بإنكار الأحمدية، فقال لهم بكل شجاعة، إن الطريق الذي بسلوكه قدَّم التضحية من كانوا أكبر مني، لَطريق الحق وأنا الآخر مستعد لأضحي بحياتي من أجل الإيمان مقتفيًا أثر الإمام والصلحاء الآخرين، فقَتلوه بكل وحشية، وأردوه شهيدا.

قال الإمام: إن إنكار الأحمدية دونه ضرب عنقي وكيف يمكنني أن أترك الحق بعد أن هداني الله إليه؟! إن الحياة بلا إيمان لا معنى لها. وضع الإرهابيون سكينا كبيرا على عنق الإمام وأرادوا أن يتلُّوه للجبين، فأبى الإمام إلا أن يقضي نحبه منتصبا، فأردوه شهيدا بإطلاق الرصاصات عليه. فكان الإمام إبراهيم بيدغا أول شهيد.

نبوءة المسيح الموعود عن استمرار مسلسل التضحيات

لقد كتب سيدنا المسيح الموعود على ذكر حضرة الصاحبزاده عبد اللطيف الشهيد في كتابه تذكرة الشهادتين رؤيا وكتب بعد إيرادها إن الله سيخلق كثيرا من أمثاله، حيث استنتج من رؤياه أنه يأمل أن الله بعد شهادة الصاحبزاده سيخلق كثيرا ممن يخلفونه ويقتفون أثره. واليوم نحن نشهد أن سكان أفريقيا قد قدموا هذا النموذج بشكل جماعي وأدَّوا حق هذه الخلافة. من وصول الإرهابيين إلى المسجد ونقاشهم حول المعتقدات بالتفصيل وهذه العملية البشعة حتى خروجهم من هناك استغرق ساعة ونصف ساعة تقريبا. وخلال ذلك كان الألم والكرب يعتصر الأولاد وأبناء الجماعة الآخرين، بما يمكن تصوره بكل سهولة، فقد كان كبارهم يُقتلون أمام ناظريهم. وبعد الخروج من المسجد لم يهرب الإرهابيون المسلحون فورا بل بقوا مدة لا بأس بها في مهدي آباد ثم هددوا الأفرادَ في المسجد أنهم إذا لم يتركوا الأحمدية أو حاولوا فتح المسجد من جديد فسوف يعودون ويقتلونهم جميعا، فالأفضل لهم أن يرتدُّوا عن الأحمدية.

مهدي آباد، وقصة إنشاء فرع الجماعة بها

لقد اُفتتح مركز الجماعة رسميا بقرية مهدي آباد في أواخر عام 1998 ثم تقدمت الجماعة هناك بسرعة، وفي عام 1999 قبلتْ غالبية سكان قرية تكني ويل الأحمديةَ وبذلك أقيم فرع مخلص للجماعة، وكان إمام تلك القرية السيد الحاج إبراهيم بيدغا أكبر إمام وهابي في تلك المنطقة قبل انضمامه إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية. وكان قد بايع بعد بحث طويل، وبعد البيعة برز بصفته داعية باسلا ومتحمسا وجنديا شجاعا، فكان قد قال عند المبايعة ردًّا على بعض العلماء الذين قالوا له لماذا تريد أن تَقبل الأحمدية؟ فقال لقد وجدت الكنز، الذي سبق أمر الله بشأنه وتحقق ما ورد عنه في الأحاديث وشهد له القرآن الكريم فأنى لي أن أرفضه وأبقى محروما؟! باختصار كان الإمام عالما كبيرا. إن جميع سكان هذه القرية ينتمون إلى قبيلة تماشك، ويتكلمون بلغة تماشك، ويقدَّر عدد أفراد هذه القبيلة بمائتي ألف نسمة، متوزعين على رقعة مترامية الأطراف تشمل بوركينا فاسو ومالي والنيجر والجزائر، و99.9 منهم مسلمون. ومعظمهم يعتقدون بمعتقدات وهابية متطرفة، لم يقبل كثير من أفراد تماشك الأحمديةَ عموما، إلا أن سكان مهدي آباد في بوركينا فاسو من تماشك قد سبقوا غيرهم في الإيمان بالمسيح الموعود ، وأحرزوا لهم مقاما خاصا بعد تقديم هذه التضحية العظيمة. في عام 2004 تم اكتشاف مناجم كثيرة للذهب هناك، فنقلت شركة التنقيب سكان القرية إلى مساكن جديدة بنتْها لهم قريبا من تلك القرية، وكانت غالبية هؤلاء الذين انتقلوا إلى هناك أحمديين بالإضافة إلى بعض العائلات الأخرى. فكانت القرية جديدة وكانت للأحمديين تقريبا، فاقترح الإمام إبراهيم أن يسموها باسم جديد، فكتبوا إلي أن أسمي هذه القرية الجديدة، فسميتْ مهدي آباد. ثم في عام 2008 عُمرت هناك قرية نموذجية أيضا بإشراف منظمة جمعية المهندسين الأحمديين IAAAE. حيث كان يتوفر الماء والكهرباء، فكان هذا أول مشروع في بوركينا فاسو بل في العالم بأسره لبناء قرية نموذجية، حيث تم توفير الكهرباء والماء، وفُتحت مدرسة الخياطة أيضا.

مراسم دفن الشهداء

جاء في التقرير عن دفن هؤلاء الشهداء أن الإرهابيين قد أشاعوا جوًّا من الخوف والفزع في المسجد ببقائهم فيه قرابة الساعة والنصف، فظلت جثامين الشهداء طول الليل في مكانها، إذ كان يُخشى أن الإرهابيين لم يغادروا القرية بعد، وإذا توجه أحدٌ إلى الجثامين لحملها فيُقتل هو الآخر. وكان بالقرب من القرية قاعدة عسكرية فتم إبلاغهم ولم يأت أحدهم لا منها ولا من دوائر الحرس والأمن، فدُفنوا صباح الثاني عشر من يناير في مهدي آباد.

تأبين الشهيد المرحوم الحاج إبراهيم بيدغا

الآن أتناول تعريف كل واحد منهم بإيجاز. المرحوم الحاج إبراهيم بيدغا الذي ذكرته آنفا، كان عمره ساعة استشهاده ثمانية وستين عاما، وقد درس في السعودية، وكان خبيرا بلغة تماشك، وقد فسَّر بها القرآن الكريم، بايع المرحوم الحاج إبراهيم بيدغا في عام 1999 وقبل قبوله الأحمدية كان كبير الأئمة في إقليم يضم قرًى عديدة، وكان العلماء الآخرون من الإقليم يتشرفون بمجالسته واكتساب العلم منه، فكانوا يقصدونه كل سنة مرة واحدة على الأقل، ويقيمون عنده ويتعلمون على يديه، وكان عددهم في بعض الأحيان يبلغ الخمسمائة، وكانت إقامتهم تمتد إلى أسبوع، ويمكن القول إن اجتماع العلماء والأئمة السنوي في الإقليم كان يقام عنده.

يقول تلامذته إن الإمام المحترم كان يقول في تلك الأيام أن الحق لم يظهر بعد، لأن من يقبلونه قلَّة. فكما يأتيني مئات العلماء ليجلسوا عندي وهم يعدُّون بعضَهم بعضًا مسلمين، إلا أن الحق حين يظهر لا يتبعه إلا قليل، فالذين يجلسون عندي الآن سينفضُّون عني! فكان عنده صلاح وورع وعلم لذا قد قدر نظرا إلى تردِّي الحال أن الحق لا محالة سيظهر، وحينها لا بد أن يعارضه هؤلاء بحسب سنة معارضي الأنبياء، فما كان من المرحوم إلا أن عزم في نفسه على قبول الحق حال ظهوره.

ثم حين أقيم مركز الجماعة الأحمدية في دوري تناهى إلى مسمعه خبر رسالة الأحمدية، وكان قد طرق اسمُ الأحمدية أذنه أول مرة في السوق أثناء حملة التبليغ، فعرف أن الأحمديين يعتقدون بوفاة المسيح الناصري، وأن المسيح الموعود والإمام المهدي قد جاء، فقصد مركز الجماعة في دوري على رأس نفرٍ يتألف من سبعة أشخاص تحريًا عن الأمر، ثم قبِل الأحمدية بعد طول بحث، وأحرز شرف أن كان أول أحمدي في الإقليم. والجدير بالملاحظة أن ما يشيعه المعارضون من أن الأحمديين يُطمِّعون هؤلاء الفقراء الذين لا علم لهم بالدين فيسوقونهم إلى البيعة، قد أفحمهم هؤلاء الشهداء، حيث كانوا قد قبلوا الحق بعد الفهم ثم أظهروا أروع مثال للتضحية أيضا.

باختصار قد كتبوا عن المرحوم إبراهيم أنه كان جنديا أحمديا لا يعرف الخوفُ إلى قلبه طريقا، فكان يدعو إلى الله بلا خوف، وكان أحمديا مخلصا بكل ما تحمله كلمة الإخلاص من معنى، فبمساعيه ودعوتِه انتشرت الأحمدية في الإقليم كله، فأقيم عدد من فروع الجماعة. كان سباقا في الاشتراك في برامج الجماعة وأنشطتها، قبل قبول الأحمدية كان يرى بحسب معتقدات الوهابيين أن سائر الفرق كافرة، فكان يرى يُحرِّم، كما هو ديدن الوهابيين، مشاهدةَ التلفاز ولعب كرة القدم والذهاب إلى المدرسة، والتصوير، بيد أنه حين قبل الأحمدية نَفَضَ عن عقله تلك العقائد البالية، ثم لم يكتف بذلك، بل شرح الحقيقة لعوام الناس أيضا.

في عام 2000 وُفق لحضور الجلسة السنوية في بريطانيا في عهد سيدنا الخليفة الرابع رحمه الله، وكان لديه ولع بنشر الدعوة،  كان المرحوم ذا جاه قبل الأحمدية كما أسلفنا، وبعد انضمامه إلى الجماعة وقف نفسه للتبليغ، فكان يبدو أنه لا يُهمه أمر آخر، كان قد هيَّأ فرقا للتبليغ على الواتس آب، وكان منها فريق لأفراد قبيلة تماشك، وكان هذا الفريق يضم أشخاصا من مالي والنيجر وغانا والسعودية وليبيا وتونس وساحل العاج وغيرها من البلاد، فكان ينشر فيهم الدعوة بانتظام، حيث كان يبعث إليهم ليلَ نهارَ برسائل صوتية مسجلة، لقد كان هذا شغله الشاغل على مدار اليوم. وكان المعارضون يردون عليه برسائل مِلْؤها السباب، والمعارضة حتمية في كل حال،فأخذ المعارضون يهددونه بالقتل، ولكنه لم يكن يغضب على أحد قط، بل كان يقول للذين يهددونه: لو شئتم دفعتُ لكم أجرة السفر لتأتوني وتقتلوني. كان يحث الدعاة والمعلمين على تبليغ الدعوة، وينهاهم عن التكاسل متذرعين بأن الظروف غير مواتية، بحيث لا يخرجون في الجولات التبليغية!. ومنذ أن ساءت الظروف الأمنية، كان يقول لهم: عليكم بنشر الدعوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإذا كان أحدكم لا يملك مالا لشراء خط الاتصال لهاتفه فليأخذ مني النقود، ولينشئ ْمجموعة على وسائل التواصل الاجتماعي ليساهم في جهاد نشر الدعوة جالسا في بيته. كان لديه ولع وشغف بنشر الدعوة.

باختصار قد كتبوا عن المرحوم إبراهيم أنه كان جنديا أحمديا لا يعرف الخوفُ إلى قلبه طريقا، فكان يدعو إلى الله بلا خوف، وكان أحمديا مخلصا بكل ما تحمله كلمة الإخلاص من معنى، فبمساعيه ودعوتِه انتشرت الأحمدية في الإقليم كله، فأقيم عدد من فروع الجماعة.

وكتب داعيتنا في تلك المنطقة السيد ناصر سدهو: جئت إلى بوركينا فاسو في عام 1997، وأَوكلَ حضرة الخليفة الرابع إليّ مهمة الدعوة إلى الله. كنت لا أعرف اللغة المحلية، فقضيت ثلاثة أشهر في التخطيط للدعوة. ثم بدأت أجوب القرى، وذهبت إلى قرية الإمام إبراهيم بيدغا، ولما بلغه خبر عقيدتنا في المسيح بأنه قد توفي، وأن الإمام المهدي قد جاء، لم يلبث إلا أن زار مركزنا في دوري مع سبعة أفراد، فانعقد مجلس أسئلة وأجوبة بين الطرفين، ومكث هؤلاء عندي ثلاثة أيام، لم ينم الإمام إبراهيم ولم يتركني أنام أنا أيضا خلالها، وكان النقاش يبدأ من الصباح الباكر ولا ينتهي إلا في المساء، ثم رجع هؤلاء إلى قريتهم، ثم جاء الإمام إبراهيم ثانية في الأسبوع التالي وبرفقته أئمة آخرون، واستمرت سلسلة البحث والتحقيق هذه ثلاثة أشهر. كان قد عَلِمَ الرد على معظم الأسئلة، ولكنه لم يُبْدِ فكرةَ الانضمام إلى الأحمدية قط. يتابع داعيتنا فيقول: وظللت أكتب إلى حضرة الخليفة الرابع طالبا منه الدعاء. فجاءني الإمام إبراهيم ذات يوم، وملأ استمارة البيعة. فقال بعض الأحمديين أين الإخوة الآخرون الذين كانوا يأتوننا معك دون انقطاع، ومتى يقبلون دعوة الأحمدية؟ قال الإمام: إنهم جميعا سيقبلون الدعوة، ولكني أريد أن أسبقهم إلى البيعة، ولذلك جئتكم. كان شديد الولاء والوفاء للخلافة.

أما أمير الجماعة ببوركينا فاسو فكتب: كانت حوالي أربع قرى تحت إمامة الإمام إبراهيم. خلال إقامته في السعودية للدراسة حجّ بيت الله. كان يتقن العربية ويتحدث بها بطلاقة. وعمل كثيرا  على نشر الدعوة في هذه المنطقة كلها. كان يخرج على الدراجة إلى القرى، وقد نوّر كثيرا من أهالي هذه المنطقة بنور الأحمدية بفضل الله تعالى، ودخل على يده في الأحمدية كبار علمائها. وتأسست بدعوته معظم فروع الجماعة فيها. يقول الداعية: كلما سافرت إلى لندن كان الإمام إبراهيم يسألني دائما عن حال الخليفة ويُعبِّر عن عظيم حبه لحضرته، ومن مظاهر حبه للخليفة أنه كان يشاهد بكل تركيزٍ درسَ اللغة الأردية الذي يلقيه حضرته على قناة ام تي اي وكأنه يفهم كل ما يجري، مع أنه لم يكن يعرف اللغة الأردية على الإطلاق، وكان يقول يكفيني مشاهدة هذا الدرس لأنه يزيدني إيمانا على إيمان!

كان مضيافا وقليل الكلام بطبعه، ولكنه كان إذا اضطر إلى الكلام من أجل الجماعة فكان يتكلم بعاطفة وحماس شديدين. كان داعية متكاملا. خاض مناظرات كثيرة مع غير الأحمديين على الصعيد الفردي والجماعي، وعقد معهم مجالس الأسئلة والأجوبة.

وكتب داعية آخر في تلك المنطقة وهو السيد محب الله: أعرف كبار الجماعة هؤلاء معرفة شخصية، إذ كنت دائم الزيارة لقريتهم. كانوا يحبون الخلافة حبا شديدا، وكانوا أهل ضيافة وكرم ووفاء. كان الشباب كلهم يَغْدون إلى أعمالهم، أما هؤلاء الكبار فكانوا يجلسون تحت العريش المُقام أمام المسجد ويشاهدون قناة ايم تي اي طول النهار. ويقول الداعية أيضا: بعد استشهادهم فورا اتصل بي شاب بالهاتف وأبلغني بما جرى من استشهاد هؤلاء الكبار. لقد قيل لهم لو تركتم الأحمدية أطلقنا سراحكم، ولكنهم فضّلوا الشهادة على ترك الأحمدية. وقد علَّق هذا الشاب قائلا: إن هؤلاء الشهداء هم من أنصار الجماعة (من كبار السن)، ولو أنهم قتلونا جميعا نحن الخدامَ (الشباب) ولجنة إماء الله (السيدات) فلن نترك الأحمدية أبدا، إن شاء الله.

فهذه هي الروح التي بثَّها الإمام إبراهيم في هؤلاء المخلصين للجماعة. إذا تربى كبار الجماعة جيدا، فهكذا يتولد الحماس والإيمان في باقي أبنائها.

وكتب الداعية المحلي، السيد مائيغا تيجان، يقول: أخبرني الإمام إبراهيم قبْل استشهاده بأيام بأنه يتلقى تهديدات بالقتل منذ فترة، وأعرب عن توقعه بأن سيقتلونه هؤلاء.

وكتب الداعية معددا فضائله فقال: كان يحسن معاملة أهله وأقاربه، ومن شمائله البارزة مواساة الناس، والتضحية لأجلهم وإيثار الآخرين على نفسه. كان من كبار شرفاء المنطقة، وكان أهلها يكنون له احتراما كبيرا. لو أصدر قرارا أو قال شيئا احترمه الجميع وقبلوه. عدد تلاميذه كثير جدا، وبعضهم يعملون كأئمة ومعلمين في بلاد مجاورة، وكثير منهم يعملون معلمين ودعاة محليين في بوركينا فاسو أيضا.

وأضاف الداعية وقال: كان الإمام إبراهيم مثلا يحتذيه الآخرون في الصلاح والتقوى والتسابق إلى الخير. كلما دعا أفراد الجماعة إلى أمر بادر بالعمل به قبْل الآخرين، ولو حث الإخوةَ على تضحية مالية ساهم فيها قبْل غيره. لم يتخلف قط عن أعمال الجماعة واجتماعاتها ونشاطاتها الأخرى.

كان يحضر الصلوات الخمس في المسجد، ويواظب على صلاة التهجد. لم يكن ليتخلَّف عن أي من أنشطة الجماعة إلا إذا كان مريضا أو على سفر. ما كان يبالي بالنفقات من أجل المشاركة في أعمال الجماعة. له زوجتان وقد رزقه الله منهما أحد عشر ولدا.

وكتب الداعية خالد محمود يقول: كان هؤلاء الشهداء عظيمي الإخلاص والوفاء. كانوا أحمديين محبين ولهين وفدائيين من أجل الخلافة.

في عام 2008 عام يوبيل الخلافة زرت غانا، وحضرتُ الجلسة هناك، فجاء للقائي آلاف الأحمديين من بوركينا فاسو ومالي وغيرهما. كانت جماعتنا في غانا قد رتبت أمور الضيافة والسكن بشكل جيد، ومع ذلك حصل تأخير في تقديم الطعام للإخوة القادمين من جماعتنا من منطقة دوري أيضا، بل يمكن القول أنهم لم يجدوا الطعام أصلا، فجُلب الطعام من السوق بعد تأخير كثير وقُدّم إليهم. فقلت لهذا الداعية عند اللقاء: عليك أن تعتذر لهؤلاء الإخوة وتواسيهم نيابة عني. وكان الإمام إبراهيم من بينهم، فقال مع الآخرين بصوت رجل واحد: إنما جئنا هنا لرؤية الخليفة وزيارته، وما دمنا قد رأيناه ولقيناه فقد زال عنَّا التعب والجوع أيضا، وليس عندنا أدنى شكوى، بل كنا نتحدث الآن جالسين عن لقائنا بالخليفة مسرورين.

وكنت قلقا لأن هؤلاء الإخوة قد جاؤوا من مكان بعيد، وأكثرهم جاؤوا على الدراجات، ولم يُقدَّم إليهم القِرَى، فسعينا لتدبيره إليهم فورا. ولكن انظروا إلى إخلاصهم ووفائهم المحيرينِ، حيث وصلتني منهم هذه الرسالة، وكنت متحيرا من قوة إيمانهم في ذلك الظرف أيضا.

وكتب المعلم الحاج محمود ديكو: عندما جاء السيد شريف عودة لزيارة بينين، كان الإمام إبراهيم في بوركينا فاسو، فسافر إلى بينين على متن حافلة، ووصل في الساعة الثالثة صباحا بعد أن قطع مسافة ألف كيلومتر في سفر مرهق استغرق ثلاثين ساعة، علمًا أن الطرق هناك ليست جيدة، ولكنه كان بشوشا، مع أنه كان عليه أن يخرج في جولة طويلة أيضا بعد ذلك السفر، فخرج في جولته تلك مع السيد شريف، واشترك في كل البرامج. كان شديد الحماس لخدمة الجماعة. وقد سُرَّ جدا برؤية مساجد الجماعة في بينين، وكان يقول إن هذا دليل على صدق المسيح الموعود . وكان يلقي الخطب بلغة عربية فصيحة وبليغة خلال النقاشات مع غير الأحمديين. وقد جرى هنالك نقاش بين السيد شريف عوده والمشايخ، فتكلموا بكلام غير لائق، فقام الإمام إبراهيم غاضبا وأراد الرد عليهم، فلما أُمر بالسكوت أذعن للأمر وجلس فورا. فقال أحد الحاضرين من غير الأحمديين إذا كنتم تعدوننا مسلمين فصلوا وراءنا. فقام الإمام إبراهيم ورد عليه وقال إن الذين يكفروننا وينكرون إمام الزمان كيف يمكن أن نصلي وراءهم؟! لو أقررتم بأن حضرة المسيح الموعود هو إمام العصر لصلينا وراءكم.

يقول عنه معلم محلي متقاعد في بينين بأنه كان تجسيدا حيًّا لعلاقة الحب مع خليفة الوقت. كان يقول بأنه صار أحمديًّا منذ اليوم الذي تلقى فيه دعوة الأحمدية عن طريق داعية باكستاني، وطالما تحدث عن أن فلاح العالم منوط بنظام الخلافة حصرا، وإنها السبيل الحقيقي، لذا فسيبقى ملتزمًا بهذا السبيل إلى آخر رمق في حياته. ويُردف هذا المعلم بقوله أن الشهيد ممن قضى نحبه حقًّا.

ثم يقول معلم محلي آخر من بينين، ويدعى السيد عيسى: كانت بيني وبين الشهيد علاقة وثيقة منذ فترة طويلة. كان أحمديًّا طيبًا بحيث لم يكن بينه وبين أي أحد أدنى خلاف. كان أحمديًّا حقيقيًّا وسبّاقًا في كل أعمال البر مثل تبليغ الدعوة والتبرعات وغيرها، ولأجل ذلك تبعه ثمانية أنصار آخرين ملبين نداء الله ومضحين بنفوسهم في سبيله تعالى.

يقول عميد الجامعة الأحمدية في بوركينا فاسو: ذات مرة قص أحدهم رؤيا على الخليفة الرابع رحمه الله وأرسل حضرته إلى أمير الجماعة تعليقه عليها قائلا أن هذه رؤيا مباركة ومعناها أن أرض بلدكم خصبة لقبول الحق وستشرق بنور الصدق بعد زيارتي لها إن شاء الله، أدعو الله تعالى أن يحقق ذلك.

أرى أنه لم تتم بعد ذلك جولة الخليفة الرابع رحمه الله إلى تلك البلاد، إلا أنني قمت بزيارتها في عام 2004م.

يقول لي عميد الجامعة: وبعد زيارة حضرتكم تلك كتبتم أيضًا: «أنا على يقين كامل بأن شجرة الأحمدية التي غُرِست في أرض بوركينا فاسو ستُثمر سريعًا، إن شعب بوركينا فاسو شعب عظيم، وإنني مسرور لأن الله تعالى نوّرهم بنور الأحمدية، والهِمَّة التي لاحظتها لدى أفراد الجماعة في بوركينا فاسو محيّرة للغاية. وآمل أن النتائج العظيمة لهذه الزيارة ستظهر خلال سنتين أو ثلاث، وستحقق الجماعة ازدهارًا وَرُقِيًّا بسرعة كبيرة، إن شاء الله».

هذا الذي كتبتُ إليه بعد زيارتي. وقد لاحظت سمة عجيبة في الأحمديين من بوركينا فاسو من بين فروع الجماعة في أفريقيا كلها، فجميعهم كانوا يسعون إلى معانقتي عند الملاقاة، ثم كانت مشاعر حبّهم جديرة بأن تُرى رأي العين.

كتب عميد الجامعة: لقد صدّق هؤلاء المخلصون من مهدي آباد، بتقديمهم تضحية نادرة، ما كتبتم أنهم حقيقة رجال عظماء.

الشهيدان المرحومان «الحسن وحسين أغ مالي آيل»

السيد «الحسن أغ مالي آيل» هو الشهيد الثاني، وكان عمره وقت الاستشهاد يناهز عامه الحادي والسبعين. كان يمتهن الفلاحة، وقَبِلَ الأحمدية في عام 1999م، وكان من أوائل الأحمديين في قريته، كما كان ضمن الوفد المرافق للسيد إبراهيم إلى «دوري» من أجل البحث في أمر الأحمدية. ومنذ أن بايع ظل يتقدم على درب  الإخلاص والوفاء. كان يرتبط بالخلافة بأواصر الإخلاص. كان مواظبًا على الصلاة بالجماعة وعلى صلاة التهجد، وعلى التبرعات، وقد ترك بعده أسوة حسنة لأهله. وما قدّمه من تضحية النفس والمال والوقت للجماعة لهي تضحية غير عادية حقًّا. كان يتكلم أربع أو خمس لغات محلية في بوركينا فاسو مما وسّع حلقة أحبائه لتشمل جميع فروع الجماعة في البلد. كان يختلط مع الوافدين للجلسة السنوية من جهات مختلفة بسبب معرفته لغاتهم، وكان الناس يحبونه حبًّا كبيرًا وكانوا يستمتعون بمجالسته. كلّما كانت هناك دعوة للاشتراك في مشروع ما، كان الشهيد سبّاقا في المساهمة فيه. ولما دُعي الإخوة في فرع الجماعة في مهدي آباد إلى أن يقدّموا أنفسهم للوقف المؤقت كان الشهيد أول من سجَّل اسمه لهذا الغرض. لقد استشهد أخوه التوأم السيد حسين أغ مالي آئل أيضا في حادثة مهدي آباد.

كما أخبرتُ أن السيد حسين أغ مالي آئل هو الأخ التوأم للحسن أغ مالي آيل، وكان عمره أيضا 71 عامًا، وكان هو الآخر وفّق للبيعة في عام 1999م، وكان كذلك من أوائل الأحمديين في قريته، وكان مرافقًا للحاج إبراهيم في الوفد الذي ذهب إلى مركز الجماعة في دوري للتحقيق في أمر الأحمدية، وكان يخدم الجماعة في مهدي آباد بصفته رئيس مجلس أنصار الله. بارعا تنظيم أمور الأنصار بطريقة رائعة، فكان يحمسهم من خلال اشتراكهم في برامج الجماعة ونشاطاتها، كما كان يعقد لهم العديد من البرامج التربوية، وكان يدعوهم للعمل التطوعي من أجل تنظيف المسجد والأماكن الأخرى. كان مواظبًا على التبرعات وعلى إقامة الصلوات الخمس في المسجد وعلى صلاة التهجد. وكما ذُكر أن أخاه التوأم قد استُشهد في حادثة مهدي آباد. وهكذا فقد جاء الأخوان في هذا العالم معًا في يوم واحد وغادراه معًا في يوم واحد.

الشهيد المرحوم حميدو أغ عبد الرحمن

السيد حميدو أغ عبد الرحمن هو الشهيد الرابع، وكان عمره 67 عامًا. كان يمتهن الفلاحة، وقد قبل الأحمدية في عام 1999. كان طيب القلب وحليم الطبع، وكان يعدّ من الصف الأول في المشتركين في برامج الجماعة، بحيث إذا لم يحضر أي برنامج كان يُظنّ بأن ظروفًا طارئة أو وعكة صحية ألمَّت به، مما حال دون حضوره، وإلا فما كان يغيب قط. كان الشهيد معينا للإمام إبراهيم، وكان ينصح أهله بالارتباط بنظام الجماعة والاشتراك في برامجها. كانت تربطه بالخلافة الأحمدية أواصر الإخلاص والوفاء، ويقضي كثيرًا من أوقاته في المسجد حيث كان يشاهد برامج الفضائية الأحمدية، وكان يواظب على الاستماع لخطبة الجمعة بكل تركيز وإنصات.

الشهيد المرحوم صلح أغ إبراهيم

هذا الشهيد الخامس كان بالغا وقت استشهاده عامه السابع والستين. كان هو الآخر يمتهن الفلاحة. كان مواظبًا على الصلاة مع الجماعة وعلى التبرعات، وكان عضوًا فعّالا في مجلس أنصار الله، وعظيم الإخلاص للجماعة. كما كان الساعد الأيمن للإمام إبراهيم. كان عالمــًا بفضل الله تعالى، وكان من عادته التكلم بحديث علمي. كلما جرى نقاش علمي بين أعضاء مجلس أنصار الله وُجد الشهيد فيه. كان حليم الطبع ونبيلا. كان من صفاته الحسنة المعاملةُ الطيبة مع كل صغير وكبير. إذا رأى بين الراغبين في الاشتراك في الجلسة السنوية أو الاجتماع مَن لا يملك نفقات السفر أو ينقصه شيء منها كان يعينه من ماله الخاص ليشترك هو الآخر.

كان من الصعب في هذه الأيام الخروج من منطقة «دوري»، والسفر منها إلى مناطق أخرى، كان ذلك يتطلب همة كبيرة لأن الإرهابيين منتشرون في كل مكان وقد بثّوا الرعب في المنطقة كلها، ولكن مع هذه المخاطر كلها خرج الشهيد من مهدي آباد واشترك في الجلسة السنوية لبوركينا فاسو المنعقدة في الأسبوع الأخير من ديسمبر الفائت.

الشهيد المرحوم عثمان أغ سودي

السيد عثمان أغ سودي هو الشهيد السادس، كان يبلغ من العمر تسعة وخمسين عامًا. وكان أحمديًّا مخلصًا ومضحيًّا، كان يبذل ماله ووقته في سبيل الجماعة، وفي النهاية وفقه الله تعالى لبذل نفسه أيضا. عند إنشاء المسجد في «مهدي آباد» كان يجلب الماء ويساعد في أعمال البناء، وكان سباقا في المساهمة فيها. كان مواظبا على الصلوات وعلى التبرعات. وكلما كسب مالا دفع التبرع المستحَق منه أولا.

ألمن يتبنى مثل هذا الفكر أن يبايع طمعًا في المال، كما يزعم المعارضون؟!

كان الشهيد تاجرا يبيع الأحذية، وإذا أتاه أحدٌ لا يقدر على شراء الحذاء أو لا يملك ما يكفي من المال لشرائه لم يكن يُرجعه صفر اليدين وحافي القدمين، بل كان يقول له لا بأس، يمكنك أن تؤدي الثمن لاحقًا.

الشهيد المرحوم أغ علي أغ مغوئيل

وهو الشهيد السابع. وُلد في عام 1970م. وبايع مع والده في عام 1999م. كان يمتهن الفلاحة، وكان مؤذّنا في مسجد الجماعة في منطقة «بيلاري». فلما اضطرّ قبل فترة قصيرة إلى مغادرة قريته جراء وطأة الإرهاب، انتقل إلى مهدي آباد وسكن فيها. كان أحمديًّا مخلصًا. كان مواظبًا على الصلوات ودفع التبرعات. وكان سبّاقا في الاشتراك في جميع نشاطات الجماعة.

الشهيد المرحوم موسى أغ أدراهي

الشهيد الثامن هو السيد موسى أغ أدراهي، وكان عمره يناهز الثلاثة وخمسين عامًا عند استشهاده. كان يعمل فلاحا. وكان سباقا في المساهمة في أعمال الجماعة. قبل قبوله الأحمدية كان عضوًا فعالا في فرقة وهابية. كان ملتزما بالصلوات ومواظبًا على صلاة التهجد. كان يأتي لصلاة المغرب ويرجع إلى بيته بعد صلاة العشاء حيث كان يقضي الوقت ما بين المغرب والعشاء في المسجد منشغلا في الذكر الإلهي. الجميع يشهدون بأنه كان مؤمنا أحمديًّا حقيقيًّا ونموذجًا للأحمدي المخلص والمضحي. كان يراسلني باستمرار ملتمسا الدعاء، وكان يقول بأنه يداوم على الدعاء لخليفة الوقت.

الشهيد المرحوم أغ عمر أغ عبد الرحمن

وهو الشهيد التاسع. وكان عمره يناهز الأربعة والأربعين عاما وقت استشهاده، وهو الأصغر سنّا من بين هؤلاء الشهداء كما ذُكر. لقد دخل الأحمدية في عام 1999م، وبعد ذلك ازداد وفاء وعلاقةً مع الجماعة، وكان عضوا مخلصا جدا للجماعة في مهدي آباد، وكان المساعدَ الأول للإمام إبراهيم ونائبا له في إمامة الصلاة في مهدي آباد. حين دخل الإرهابيون المسجد سألوا أولا عن الإمام ثم سألوا عن نائبه؟ فقال بلا تردد أنا نائب الإمام. كان من الذين يأتون المسجد أولا دوما، وكان يؤدي الصلاة بغاية التضرع والخشوع، ويلتزم بصلاة التهجد، ويحضر المسجد بأولاده أيضا، ويهتم بتربيتهم ويواظب على مراسلتي، وكان يقطع بالدراجة النارية مسافات طويلة ويجوب المنطقة كلها، وحضر اجتماع خدام الأحمدية أربع مرات على الدراجة بقطع مسافة 265 كيلومترا من «دوري» إلى «واغادا». وكان من بين الوفد الذين جاؤوا في 2008 من بوركينا فاسو إلى غانا على الدراجات ليحضروا الجلسة السنوية فيها بمناسبة اليوبيل المئوي للخلافة.

توضيح عن أسماء الشهداء

هنا أوضح حسب ما فهمت من التقارير أن كلمة «آغ» الواردة مع كل اسم استخدمتْ بمعنى «ابن»، فحين يقال «آغ فلان» يعني «ابن فلان». على كل، جاء في التقرير أنه حين قتل الإرهابيون ثمانية أشخاص وبقي آغ عمر آغ عبد الرحمن، وكان أصغرهم سنًّا، قالوا له: إنك شاب فيمكنك أن تنكر الأحمدية وتُنقذ حياتك، فرد عليهم بكل بسالة: سأسلك السبيل نفسه الذي سلكه كبار قومي وضحوا بأرواحهم وإنني مستعد للتضحية بروحي اقتداء بإمامي وكبار قومي. فقتلوه بمنتهى القسوة والبشاعة بإطلاق النار في وجهه.

تعليق على الأوضاع السائدة

الظروف في بوركينا فاسو سيئة عموما، الإرهابيون منتشرون في المنطقة كلها. قبل أيام جاء قائد الخدام في جماعة «دينيا» إلى دار التبشير في مركز الجماعة، وأخبر أنه يدير دكان البيع بالمفرَّق في قريته، -وهذه منطقة مختلفة تماما- وذات يوم جاء أحد الإرهابيين في دكانه لشراء شيء، فظل ينظر إلى هنا وهناك، وكانت في محله صورا للمسيح الموعود والخلفاء، فسأل الإرهابي قائد الخدام مَن هؤلاء الذين علّقت صورهم في محلك؟  فقال القائد: هذه صور المسيح الموعود وخلفائه. فقال الإرهابي: هو ليس المسيح الموعود بل الحقيقة أنهم بعض الناس الذين اجتمعوا وشكلوا حزبا وهم كفار. ثم هدد القائدَ قبل عودته قائلا: عليك أن تزيل هذه الصور من الدكان وإلا سأعاملك معاملة سيئة للغاية إن وجدتها هنا في المرة القادمة. ولكن القائد أبقى الصور في مكانها، وبعد أيام جاء الإرهابي مرة أخرى فرأى الصور ثم عاد. قال القائد بعد سرد هذه الواقعة: قد علّقت بعض الصور الأخرى أيضا مع هذه الصور. أي بدلا من أن يخاف منه قال سأضع الصور في أماكن أخرى أيضا.

المهم أن الإرهابيين مسيطرون على المنطقة كلها منذ فترة طويلة ولا سلطة للحكومة هناك، وحدود هذه المنطقة تتصل بحدود «مالي»، وفي طرف آخر تتصل منطقة «دوري» مع «النيجير»، فهذه المنطقة كلها تقريبا هي تحت سيطرة الإرهابيين.

باختصار، هؤلاء الشهداء هم نجوم الأحمدية وتركوا لمن خلفهم نموذجا عظيما، ندعو الله تعالى أن يزيد أولادهم وأجيالهم أيضا إخلاصا ووفاء.

يحسب العدو أنه بهذه الاستشهادات سيقضي على الأحمدية في هذه المنطقة ولكن الأحمدية سوف تنمو وتزدهر أكثر من ذي قبل هناك بفضل الله تعالى. على المسؤولين وأمير الجماعة هناك أن يرسموا خطة التبليغ بحكمة كما يجب أن يطمئنوا هؤلاء الناس. ألهم الله ذوي الشهداء الصبر والسلوان ووفقهم لإدراك أهمية الهدف الذي من أجله ضحى كبارهم بأرواحهم. باختصار، علينا أن نعمل هناك بحكمة وبتخطيط. وقد قلت للمسؤولين سلفا أن يذهبوا هناك.

ولتسديد حاجات أُسر الشهداء ولتحقيق الاكتفاء الذاتي لها قد أنشأ الخليفة الرابع -رحمه الله- صندوقا باسم «صندوق سيدنا بلال» ومنه يُنفَق على أسر الشهداء. وبعد هذه الواقعة يرسل أفراد الجماعة والتنظيمات الفرعية للجماعة وبعض فروع الجماعة أيضًا بعض المبالغ إلى المركز لتسديد حاجات ذوي هؤلاء الشهداء. ولأن صندوقا قائم لهذا الغرض سلفا لذا يجب على الجميع أن يدفعوا ما يريدون في «صندوق سيدنا بلال» ويخبروا المركز أنهم دفعوا كذا من المبلغ بهدف الإنفاق على شهداء مهدي آباد في «دوري» بوجه خاص، ثم سيقرر المركز بحسبه. إن المركز سيهتم بحاجات هؤلاء الناس وسيسددها بفضل الله سواء جاءت هذه المبالغ أم لا. ولكن الذين يريدون أن يدفعوا فعليهم أن يدفعوا في هذا الصندوق. وهذه ليست منّة على أسر الشهداء بل من واجبنا أن نهتم بهم ونلبي حاجاتهم.

وفي الأخير أريد أن أقرأ مقتبسا لحضرة المسيح الموعود حيث قال: «لا تظنوا أن الله تعالى سوف يضيعكم، أنتم بِذْرةٌ بَذَرَها الله تعالى في الأرض بيده. يقول الله تعالى: إن هذه البِذْرة سوف تَنْمُو وتَزْدَهِرُ وتَتَفَرَّعُ في كل طرف، ولَسَوْف تصبح دَوْحَة عظيمةً. (إن شاء الله) فطوبى لمن يؤمن بقول الله تعالى ولا يخاف الابتلاءاتِ العارضة، لأنه لابد من الابتلاءات أيضا لكي يختبركم الله.» (الوصية)

فهؤلاء الشهداء نجحوا في هذا الامتحان، والآن هناك امتحان التقدم في الإيمان واليقين لمن خلفوا. ندعو الله تعالى ليوفقهم وإيانا أن نظل ثابتين على الإيمان واليقين الكامل. وأن يرفع الله درجات هؤلاء الشهداء دوما ويجعل تضحياتهم تثمر وتزهر بحيث نرى انتشار رسالة سيدنا محمد رسول الله الحقيقية في الدنيا عاجلا غير آجل، وأن يزول الجهل من الدنيا وأن يقوم فيها ملكوتُ الله الواحد الحق.

Share via
تابعونا على الفايس بوك