البعد المأساوي في قصة حمل عيسى إلى السماء

البعد المأساوي في قصة حمل عيسى إلى السماء

حلمي مرمر

كاتب
  • ما الإشكالات التي تفرضها خرافة حمل عيسى بن مريم في جو السماء؟
  • إذا كانت أسباب بقاء المسيح بن مريم في الجو قد انتفت منذ زمن بعيد، فعلام مكثه فيه إلى الآن؟

 __

من تساؤلات الطفولة

طالما كنت أطرق متسائلا منذ الصغر في نفسي: ما حال سيدنا عيسى الذي يعيش في السماء الآن؟ كيف يعيش؟ وماذا يأكل؟ ومن أين؟ وهل هو على علم بما يحدث على الأرض؟ وعلى أي دين هو؟ هل هو على دين موسى الذي جاء ليكمل رسالته ويهدي من ضل من قومه؟ أم أنه على دين الإسلام؟ وإن كان على دين موسى فهل هو مطالَب بإقامة الشعائر؟ وكيف سينزل للمسلمين وما سَمع عن الإسلام وما عرفه وما درسه وما مارس طقوسه وشعائره؟ وإن كان على دين محمد فمن أخبره ومن علمه وكيف يصلي ويصوم ولمن يُخرج زكاته وكيف يعرف مواقيت الصلاة؟ أولم يقل الله حكاية عنه في القرآن الكريم في سورة مريم:

وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (1)؟

إذن كيف يستقبل الإنسان القبلة وهو في السماء التي هي خارج نطاق الكرة الأرضية التي فيها الكعبة المشرفة التي نتوجه إليها في الصلاة لأننا وهي على نفس الكوكب ونفس الأرض؟ كيف يستقيم أن يتوجه توجها ثابتا إلى مكان هو بالنسبة له غير ثابت ودائم الحركة، وليس له مكان ولا اتجاه ثابت؟ فكيف يتجه نحو الكعبة في صلاته، وهل هو ذو استطاعة على الحج؟ وإن كان مستطيعا هل نزل من السماء وحج البيت؟ أم أنه من الأساس غير مستطيع لأنه لا يملك مالا في السماء؟ ومن أين يأتيه المال؟! وربما قال قائل أنه ليس في حاجةٍ إليه لأن المال وسيلة وسبب وهو عند مسبب الأسباب! ثم إنه من الأساس لماذا صعد إلى السماء، إذا كان صعوده هربا من سطوة اليهود وشوكتهم ورغبتهم في قتله، فقد ظل اليهود من حينها أزمنة مديدة أذلاء مهانين ليس لهم شوكة ولاقوة، وقد استطاع هتلر الألمانيّ أن يقهرهم، بل كاد يُفنيهم عن آخرهم، إذن لم يعد لهم أي سلطان في أي مكان، فلماذا لم ينزل المسيح عيسى بن مريم إلى الأرض وقد انتفت أسباب بقائه في السماء؟

إشكالات أخرى لا تُحصى

ومن ناحية الفساد لم تشهد الأرض منذ رفعه صلاحا يساوي ما شهدت من فساد؟ فلماذا هو جالس في السماء صامتا راضيا تماما عما يحدث؟ ومتى ينزل إذن إن كان ما يحدث يحدث، وهو لم ينزل بعد؟ أينزل بعد خروج روح الناس جميعا شركا وكفرا وحربا لله ورسله، ثم يعيد هو تلك الروح مرة أخرى؟ تلك ليست سُنة الله في إرسال الأنبياء، ولا في حمايتهم، إنها خصوصية خص الناس سيدنا عيسى بها، إلى أن جعلوه إلها أو نصف إله، ولا أجد أي فارق بين من يقولون ذلك وبين النصارى الذين لم يرفعوه إلى تلك المنزلة التي رفعه المسلمون إليها، فلم يثبت أن نسب إليه النصارى أنه تكلم وليدا ما زال دم المخاض على جسمه لم يُغسل بعد، ولا نسبوا إليه أنه شارك اللهَ في خلقه وخلق طيرا ما تزال تحيا وتتناسل حتى اليوم، ولا يستطيع أعلم الناس أن يفرّق بينها وبين الطيور التي خلقها الله بيده، ومن جهةِ رفْعِه بجسده إلى السماء خشية إيذاء اليهود له، ألم يكن في الأرض متسع له حتى يستره الله عن أعين الذين أرادوا أن يصلبوه؟ هل سيطر هؤلاء الأعداء على الأرض حتى هذه الدرجة بحيث لم يأمن الله أن يتركه على الأرض ومع ذلك يحميه منهم؟ ولماذا يحفظه الله حيا بروحه وجسده ولم يكن ذلك لأيٍّ من الناس من قبل؟ أليس بقادر على أن يخلق مثله إن كان هو طفرة من الطفرات غير المسبوقة ومن المستحيل خلق إنسان مثله في ذاته وصفاته، وهو القائل سبحانه:

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (2)؟

أيخلق الله سماوات وأرضين آخرين بهذا الإعجاز الهائل، ولا يخلق عيسى كعيسى، فيُضطر والعياذ بالله إلى حفظه في السماء حتى ينزله هو هو بعد آلاف السنين؟ لو عددنا الإشكاليات التي كانت تداعب فكري أولا ثم باتت تمضغه بين فكيها بعد ذلك ما انتهينا.

سنة الله في خلقه وإرسال رسله

إن قوله تعالى:

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ

فيه حل كل الإشكاليات السالفة، فالذي خلق عيسى الأول قادر و شك أن يخلق مثيله، لا سيما إذا كان حفظ النموذج الفردي لعيسى بن مريم الأول ينافي سنة الله القائلة:

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (3)

فما بالنا لا نرى من نموذج عيسى إلا فردا واحدا؟!

كل ما سبق يقودنا إلى الإقرار بأن سيدنا عيسى الناصريّ الذي كان رسولا لبني إسرائيل لم يعد له وجود في دنيا الناس، إنما هو مع النبيين في سماوات الرفعة والقرب من الله العليّ شأنه شأن كل من خلا من النبيين والمرسلين الذين سبقوه، وأنه ليس خارجا عن سنة الله في الخلق وما كان ينبغي له أن يخرج عنها، وكان ينبغي على عامة الناس فضلا عن العلماء أن يكونوا على يقين أنه قد مات لأنه هكذا هي الحياة وهكذا سنة الله، وعلى من يخالف ذلك أن يثبت هو أن عيسى عليه السلام حيٌ، وليس بميت وليس أن يثبت من يقولون بموته أنه ميت لأن ذلك هو الحال الطبيعي الذي بلغت طبيعيته أنه لا يحتاج دليلا، بل إن منكره هو الذي تَعُوذُه الأدلة التي إن انتحر في سبيلها ما وجدها يوما..

والوقوف عند رواية البخاري عن ابن عباس في بيان معنى قوله تعالى:

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ (4)

قال ابن عباس حسب ما أورد الإمام البخاري في كتاب التفسير معناها (مميتك)، ألم يقرأ ذلك أحد؟ ألم يدرس ذلك أحد؟ أأورد البخاري الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله القرآنِ هذه الرواية عبثًا؟ أم أنها كانت عقيدته التي آمن بها هو؟ ولذلك أورد هذه الرواية في صحيحه؟ أم تُراه يعتمد حديثا هو نفسه لا يؤمن بما فيه؟!

ألم يكن في الأرض متسع له حتى يستره الله عن أعين الذين أرادوا أن يصلبوه؟ هل سيطر هؤلاء الأعداء على الأرض حتى هذه الدرجة بحيث لم يأمن الله أن يتركه على الأرض ومع ذلك يحميه منهم؟ ولماذا يحفظه الله حيا بروحه وجسده ولم يكن ذلك لأيٍّ من الناس من قبل؟

فلما توفيتنـي.. شهادة المسيح بن مريم نفسه في القرآن!

ثم يأتي بعد ذلك السيد المسيح عليه السلام يؤكد وفاته يوم يسأله ربه عن قومه ماذا حل بهم بعده وكيف اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، فيؤكد أنه لا علم له بما أحدثوا بعده لأنه يوم توفاه انتقل إلى العالم الآخر ولم يعد يعلم عن أهل  الدنيا شيئا، وأنه سبحانه هو الذي يعلم كل شيء لأنه علام الغيوب، فلو لم يمت حتى الآن لم يكن جوابه هكذا، ولو كان يعلم وكان جوابه هكذا يكون كاذبا والعياذ بالله في حضرة ربه، وهذا ما يستحيل، ولو كان قد عاد للحياة مرة أخرى وعلم ما أصبح عليه قومه من الشرك والتأليه له ولوالدته عليهما السلام لكان جوابه منتهى التدليس، وحاشا له أن يكون كذلك، فخلاصة الأمر أنه مات وأجوبته كلها صحيحة لأنه حقا لا يعلم، ومن مات لايعود بنص القرآن في آيات عديدة، ولم يبق إلا أن المسيح المعنيَّ في أحاديث النزول هو رجل من الأمة المحمدية يخلع الله عليه خلعة ابن مريم ويعطيه صفاته حتى يصبح كأنه هو، مصداقا لأحاديث رسول الله أن المسيح القادم سيكون منكم، «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم، وفي رواية وأَمَّكم منكم.» (5) وتقول آيات سورة الجمعة (وآخرين منهم)، الآتي لا محالة منكم وليس من خارجكم، حتى يظل ختم النبوة وقفا على محمد ، ولا يكون ختم النبوة صحيحا إلا إذا ظهرت له علامات وأمارات متجسدة في شخص، يُثبت ببيان عمليٍّ حوزة محمد على جميع كمالات الجنس البشري، الذي نالها بفضل من الله تعالى، وبفضل فطرته النقية الصافية، التي كانت أهلا لاستقبال فيوضات صفات الله الأعظم، فما فائدة ادعائي أنني أنا المعلم الأكفأ، ولا يكون متعلم على يدي الأكفأَ بين كل المتعلمين لدى المعلمين الآخرين، وما فائدة أن تكون الخاتَمية هي مجرد الآخرية، وما الفضل في كوني الأخير إن لم أكن الأفضل والأكفأ والأكمل والأطهر والأفضل والأعظم ، كل ذلك وأكثر في معنى ختم النبوة للحبيب محمد .

الهوامش:

  1. (مريم: 32)
  2. (يس: 82)
  3. (الذاريات: 50)
  4. (آل عمران: 56)
  5. صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم
Share via
تابعونا على الفايس بوك