- تقديم أدلة من القرآن الكريم تتعلق بقضية ولادة عيسى عليه السلام.
- إيراد الأدلة من كتب المسيح الموعود عن الولادة الإعجازية.
- العلم الحديث يؤكد إمكانية الإنجاب العذري ضمن حالات معينة.
__
هنالك إجماع بين الديانات الثلاث على أن حمْل السيدة مريم بالمسيح عيسى بن مريم عليهما السلام كان قبل زواجها. فهذه عقيدة أساسية عند المسيحية استُعملت في غير محلِّها لإثبات ألوهية المسيح، كما يقرُّ اليهود بهذا الحمل قبل الزواج ضمنيا باتهامهم السيدة مريم بالزنا. لذلك فإنه من المستحيل أن يكون المسيح قد ولد بعد زواج السيدة مريم، لأن هذا لو حدث لما كان هنالك من مبرر لتزييف هذه الحقيقة من قبل المسيحيين والوقوع في هذا الحرج الكبير أمام اليهود. ثم لو لم يكن في الأمر حرج جدلا، وكان ضروريا التأكيد أنه ولد بغير أب ليكون ابن الله ولدعم العقائد المسيحية المزيفة، فإن هذا الادعاء سيكون ادعاءً لا يمكن إثباته عند اليهود، لأنهم سيقولون هي امرأة متزوجة، فلا بد أن تكون قد حملت من زوجها! فلو حدث الحمل بعد الزواج لما قامت لدعوى ولادة المسيح من غير أب قائمة لدى المسيحية، ولما نشأت تهمة الزنا مطلقا، ولما احتاج إليها اليهود في بهتانهم.
أما الإسلام فقد جاء ليؤكد حقيقة ولادة المسيح من غير أب، ويضع الأمور في نصابها، ويبطل ما بُني على هذه الواقعة من عقيدة فاسدة عند المسيحية، ويطهِّر السيدة مريم من تهمة الزنا الباطلة التي أطلقها اليهود بأدلة عديدة، لعل أكبرها قول السيدة مريم نفسها في القرآن الكريم:
لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (مريم: 21)
مبرِّءة نفسها من أن يكون قد مسَّها بشر باعتداء أو بزنا عارضٍ أو من امتهان البغاء – حاشا لله؛ ثم تصديق القرآن لها في قولها هذا حيث سماها صدِّيقة.
والخلاصة أن موقف المسيحية واليهودية، رغم ما فيه من تشويه وإساءة، يعتبر دليلا تاريخيا على حدوث واقعة الحمل قبل الزواج، كما تُعتبر شهادة القرآن الكريم دليلا إضافيا حاسما للمسلم على أن الحمل كان قبل الزواج بمعجزة، وعلى طهارة السيدة مريم وبراءتها.
“إن خَلْق إنسانٍ مِن غير أب داخلٌ في عادة الله القدير الحكيم، ولا نسلِّم أنه خارج من العادة ولا هو حريٌّ بالتسليم فإن الإنسان قد يتولّد من نطفة الامرأة وحدها ولو على سبيل الندرة، وليس هو بخارج مِن قانون القدرة، بل له نظائر وقصص في كل قوم وقد ذكرها الأطبّاء من أهل التجربة. نعمْ، نقبل أن هذه الواقعة قليلة نسبةً إلى ما خالفها من قانون التوليد…(المسيح الموعود )
وقد جاء في القرآن الكريم، في سورة مريم، ذِكْر ولادة المسيح بغير أب مرتبطةً بولادة يحيى مع التأكيد على كون هاتين الولادتين إعجازيتيْن. فزكريا عليه السلام كان شيخا هرما خارت قواه، وامرأته كانت عجوزا عقيما لم تنجب في شبابها؛ فالبشرى بولادة يحيى رغم انعدام الإمكانية الأنثوية ظاهريا عند أمه والضعف الشديد للعنصر الذكوري عند أبيه هو معجزة بلا شك. أما مريم عليها السلام فلم تكن قد مسَّها بشر ولم تكن قد تزوجت، فحملُها في هذا الظرف معجزة لانعدام العنصر الذكوري تماما. ولذلك استعجب كلٌّ من زكريا ومريم عليهما السلام من هاتين البشارتين، وجاء الرد من الله تعالى أن حدوث هاتين المعجزتين هيِّن على الله تعالى:
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (مريم: 9-10)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (مريم: 21-22)
وهكذا فقد بيَّن القرآن الكريم على لسان كلٍّ من زكريا ومريم عليهما السلام الأسباب التي تجعل من كلتا الولادتين معجزتين، قبل أن يعلن أن الله تعالى قادر على ذلك، وهو عليه هيِّن، كما قدَّم دليلا على هذه القدرة الإلهية في قصة يحيى لزكريا عليهما السلام:
وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (مريم :10)،
وأشار إلى الهدف الذي من أجله كانت ولادة عيس:
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا (مريم :22)
وقد أكد سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي عليه الصلاة والسلام على هذه الحقيقة، وبيَّن أدلتها من القرآن الكريم، كما بيَّن المغزى والغاية من ولادة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام من غير أب.
فيقول حضرته عليه الصلاة والسلام موضحا أن القرآن ينصُّ على أن كلتا الولادتين كانتا بمعجزة إلهية، ومبينا أن ارتباط القصتين يجعل كلًّا منهما معضِّدة للأخرى وموضحة لها:
“ومِن عقائدنا أن عيسى ويحيى قد وُلدا على طريق خَرْقِ العادة، ولا استبعادَ في هذه الولادة. وقد جمع الله تلك القصتين في سورة واحدة، ليكون القصةُ الأولى على القصة الأخرى كالشاهدة. وابتدأ مِن يحيى وختَم على ابن مريم، لينقُل أَمْرَ خرق العادة من أصغر إلى أعظم”. (مواهب الرحمن، ص 45)
وفي سياق تبيان أن ولادة المسيح الموعود في الأمة المحمدية واستمرار نسله إشارةٌ إلى وجود الخير والبركات ودوامه واستمراره في هذه الأمة إلى يوم القيامة، أكَّد حضرته على الولادة الإعجازية لعيسى ويحيى عليهما السلام بمعجزتين، دون واسطة القوى البشرية لبني إسرائيل، وذلك بسبب فساد تلك الأمة، وأكَّد حضرته بأنهما توفيا ولم يتركا نسلا تأكيدا على انقطاع الخيرات والبركات في بني إسرائيل وانتقالها إلى الأمة الإسلامية، حيث يقول حضرته:
“وكان تولُّدُ يحيى من دون مسّ القوى البشرية، وكذلك تولُّدُ عيسى من دون الأب وموتُهما بدون ترك الورثة علامةً لهذه الواقعة. وأما المسيح المحمدي فله أب ووُلْد من العنايات الإلهية، كما كُتب أنه “يتزوج ويولد له” من الرحمة، فكانت هذه إشارة إلى دوام السلسلة المحمدية وعدم انقطاعها إلى يوم القيامة”. (مواهب الرحمن، ص 49)
ويؤكد حضرته معجزة ولادة المسيح دون أب في مواضع كثيرة، ومنها قوله:
“سيقول الذين لا يتدبّرون إن عيسى علم للساعة: وإنْ من أهل الكتاب إلا لَيُؤْمِنَنَّ به قبل موته (1)، ذلك قول سمعوا من الآباء، وما تدبّروه كالعقلاء. ما لهم لا يعلمون أن المراد من العلم تولّده من غير أبٍ على طريق المعجزة”. (الاستفتاء، ص 62)
أما لماذا كانت هذه المعجزة؛ أي خلْق اللهِ عيسى من غير أب، فقد أوضح حضرته أن هذا سببه ما قاله الله تعالى في القرآن الكريم:
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ (الزخرف: 62)
والمقصود بالساعة التي جاء المسيح علْما لها هي القيامة بعد الموت، إضافة إلى معنى آخر وهو ساعة انتقال النبوة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل وبعثة النبي . فبخصوص كونه علْما للقيامة فهذا لأنه كانت فرقة من اليهود، وهم الصدوقيون، كانوا ينكرون القيامة، فخلق الله تعالى عيسى دون واسطة أب ليبين لهم أنه قادر على البعث بعد الموت؛ والذي هو خلق جديد دون تناسل ودون وسائط وأسباب معروفة دنيوية، وهي آية مستمرة لكل من ينكر القيامة. ويقول حضرته مبينا ذلك:
“فاعلم أنه تعالى قال وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ، وما قال إنه سيكون علمًا للساعة، فالآية تدل على أنه علم للساعة من وجه كان حاصل له بالفعل، لا أن يكون مِن بعدُ في وقت من الأوقات. والوجه الحاصل هو تولُّده من غير أب، والتفصيل في ذلك أن فرقة من اليهود.. أعني الصدوقيين.. كانوا كافرين بوجود القيامة، فأخبرهم الله على لسان بعض أنبيائه أن ابنًا من قومهم يولد من غير أب، وهذا يكون آيةً لهم على وجود القيامة، فإلى هذا أشار في آية: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ، وكذلك في آية: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ، أي للصدوقين.”. (حمامة البشرى، ص 159)
أما فيما يتعلق بالمعنى الثاني؛ الذي هو ساعة انتقال النبوة من بني إسرائيل ومجيء النبي ، فيقول حضرته:
“وما كان له أب من بني إسرائيل إلا أُمّه، وكذلك خلَقه الله مِن غير أب وأومى فيه إلى ما أومى. وكان ذلك آيةً وعِلْمًا لليهود وإخبارًا لهم في رمزٍ قد اختفى، وإرهاصًا لظهور نبينا خير الورى”. (الخطبة الإلهامية، ص 25)
ويقول حضرته أيضا:
“فأولُ ما فعل لهذه الإرادة هو خلق عيسى من غير أب بالقدرة المجردة. فكان عيسى إرهاصًا لنبينا وعَلَمًا لنقل النبوة، بما لم يكن من جهة الأب من السلسلة الإسرائيلية. وأما يحيى فكان دليلا مخفيا على الانتقال، فإن يحيى ما تولّد من القوى الإسرائيلية البشرية، بل من قدرة الله الفعّال. فما بقي لليهود بعدهما للفخر مَطرَحٌ، ولا للتكبر مَسرَحٌ. وكان كذلك ليقطع الله الحِجاجَ، وينقّص التصلفَ ويسكّن العَجاجَ”. (مواهب الرحمن، ص 46)
أما القول بأن ولادة عيسى من غير أب تدعم ألوهية المسيح، فهذا ليس صحيحا، ولا تصلح لأن تكون حجة بيد المسيحيين، لأنها ليست أمرًا تفرد به المسيح، والله تعالى ذكر في القرآن الكريم ردا على هذه العقيدة أن للتولُّد من غير أب مثيلا، بل مثيل أقوى وهو آدم؛ الذي تولَّد دون أب أو أم! أما الصعود والنزول من السماء فهو الذي ليس له مثيل من سنن الله، ولو ثبت وكان حقا لكان أمرًا تفرَّد به المسيح دون شك وأصبح هنالك شبهة حول ألوهيته إن لم يذكر الله تعالى مثيله من سننه. ويقول حضرته في ذلك:
“وإذ قالت النصارى إن عيسى ابن الله بما تولّد من غير أبٍ، وكانوا به يتمسّكون، فأجابهم الله بقوله: إِنَّ مَثَلَ عيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1)، ولكنا لا نرى جوابَ خصوصيةِ رفعِ عيسى ونزوله في القرآن، مع أنه أكبر الدلايل على ألوهيّة عيسى عند أهل الصُّلبان. فلو كان أمر صعود عيسى وهبوطه صحيحًا في علم ربّنا الرحمن، لكان من الواجب أن يذكر الله مثيل عيسى في هذه الصفة في الفرقان، كما ذكر آدم ليبطل به حُجّة أهل الصلبان. فلا شك أن في ترك الجواب إشعار بأن هذه القصّة باطلة لا أصل لها وليس إلا كالهذيان. أتعلمون أيّ مصلحة منعت الله من هذا الجواب؟ وقد كان حقًّا على الله أن يجيب ويجيح زعم النصارى بالاستيعاب”. (الاستفتاء، ص64)
ويؤكد حضرته أنَّ خلْق المسيح من غير أب ليس خارجا من السنن الإلهية، حيث يقول حضرته:
“إنْ قيل إنّ المسيح قد خُلق من غير أب من يد القدرة، وهذا أمر فوق العادة… قلنا إنّ خَلْق إنسانٍ مِن غير أب داخلٌ في عادة الله القدير الحكيم، ولا نسلِّم أنه خارج من العادة ولا هو حريٌّ بالتسليم فإن الإنسان قد يتولّد من نطفة الامرأة وحدها ولو على سبيل الندرة، وليس هو بخارج مِن قانون القدرة، بل له نظائر وقصص في كل قوم وقد ذكرها الأطبّاء من أهل التجربة. نعمْ، نقبل أن هذه الواقعة قليلة نسبةً إلى ما خالفها من قانون التوليد… ولا شك أن هذه الواقعة نادرة نسبة إلى الطريق المتعارف المشهور”… (الخطبة الإلهامية، حاشية ص 26)
أما الذي يدعي أن خلق المسيح من غير أب مخالف للسنن فيؤكد حضرته أنه يسيء إلى الله تعالى، ويريد أن يحدَّ قواه وقدراته، ويدعي تعسُّفا الإحاطةَ بسننه تعالى، فيقول حضرته في ذلك:
“وللهِ تصرّفاتٌ في مخلوقه بالأسباب ومن دون الأسباب ويعلمها أولو النهى. بل هذا كاللُّب وذاك كالقشْر، فلا تقنع بالقشر كالقَدريّة، واطلُبْ سرَّ أقداره ليُعْطَى. إنّ الله يفعل ما يشاء، ولا تُدْركه الأَبْصار، ولا تحدّه الآراء، ولا يحتاج إلى مادةٍ وهَيُولَى. وإنّه قادرٌ على أن يشفي المرضى من غير دواءٍ، ويخلق الوُلْدَ مِنْ غَيْرِ آباءٍ، ويُنْبِت الزّرع مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْقَى. وما كان لدواءٍ أن ينفع من غير أَمْر ربّنا الأَعْلى. يودع التأثيرَ فيما يشاء، وينزع عما يشاء، وله الأمر في الأرض والسماوات العُلَى. ومن لم يؤمن بتصرفه التّام، ولم يعرف أمره الذي لم يَأْبَه ذرّةٌ من ذرّات الأنام، فما قدَره حق قدره، وما عَرفَ شأنه وما اهتدى. ومَن ذا الذي حَدَّ قوانينَ قدرته، أو أحاط علمُه بِسُنّته؟ أتعلم ذلك الرجل على الأرض أو تحت الثرى؟” (مواهب الرحمن، ص 6)
ولم يقتصر توضيح حضرته على أن الأمر ليس خارجا من السنن نظريا بناء على الاعتقاد بقدرة الله تعالى المطلقة فحسب، بل أوضح حضرته أن هذا الأمر من الأمور الطبيعية النادرة التي يعرفها أهل العلم والخبرة في الطب والتاريخ، فبعض النساء يتمتعن بهذه الخاصية التي تجعلهن قادرات على إنتاج بويضات ملقحة في حالات نادرة جدا. يقول حضرته في ذلك ما تعريبه:
فكما كانت ولادة عيسى نادرة… ولقد استخدمتُ كلمة الندرة لأن ولادة المسيح بلا أب أيضا من الأمور النادرة وليست مخالفة لقانون الطبيعة؛ لأن الأطباء اليونانيين والهنود والمصريين قد كتبوا نظائر كثيرة لولادة أولاد من دون أب. فبعضُ النساء يتمتعن -بحكم القادر المقتدر- بكلتا القوتين العاقدة والمنعقدة، ومن ثم توجد في بذرتهن خصائص الذَكر والأنثى كليهما. ولقد ذكر اليونانيون نظائر هذه الولادة كما قدم الهندوس أيضا أمثلة، وسُجِّلت هذه الظواهر بتحقيق كبير أيضا في الكتب الطبية التي أُلفت مؤخرا في مصر. إن الكلمتين “شندر بنسي” و”سورج بنسي” في الكتب الهندوسية أيضا تشير في الحقيقة إلى هذه الأمور. فهذا النوع من الولادة يتضمن الندرة فقط… فلا يمكن القول: إن الولادة من غير أب أمر خارق للعادة يخص عيسى وحده فقط. فلو كان ذلك ميزة خاصة بعيسى لما قدَّم الله في القرآن الكريم نظيره الأكثر ندرة، ولما قال: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (آل عمران: 60)، … خلقه من التراب الذي هو أُمُّ جميع الناس ثم قال له كن فكان، أي صار حيا يقظا. فواضح أنه إذا ظهر نظير شيء ما فلن يبقى منقطع النظير، وإذا عُثر على ميزة لأحد فلا يسعه القول إنها تخصه وحده. (التحفة الغرولوية، حاشية ص 72)
ومسألة التوالد العذري، التي أشار إليها حضرته فيما سبق، هي مسألة أصبحت من مسلَّمات العلم الحديث، والبحوثُ المتعلقة بذلك كثيرة ومعروفة. وقد أورد حضرة الخليفة الرابع رحمه الله في كتابه “المسيحية رحلة من الحقائق إلى الخيال” أمثلة من مراجع وبحوث علمية حول ظواهر حدثت ووثَّقها العلماء. حيث يقول حضرته:
التوالد العذري هو تطور غير جنسي أو غير تزاوجي لبويضة الأنثى يؤدي إلى إنتاج الوليد دون وساطة الذَّكَر… كما جاء في دراسات حديثة أنه يمكن تنشيط عملية تكوين أجنّة بشرية أحيانًا بطريقة التوالد الذاتي باستعمال “الكالسيوم أيونو فور” كمادة محفِّزة.
إن مثل هذه الأبحاث تدعم فكرة أن بعض حالات الإجهاض المبكر أثناء الحمل البشري قد تكون بسبب أن الجنين قد تشكل فيها بطريق التوالد العذري.
على أية حال، أثبتت البحوث التجريبية الحديثة أن الولادة العذرية ممكنة من الناحية العلمية، حيث نشر في مجلة “مورِّثات الطبيعة”Nature Genetics) ) عدد أكتوبر/ تشرين الأول 1995م تقرير يبحث في حالة غير عادية لطفل عمره ثلاث سنوات؛ نتج من بويضة غير ملقّحة. وقد فحص الباحثون ترتيب ( DNA) في كل الكروموسومات الجنسية (X) في خلايا جلد الولد ودمه، واكتشفوا أن الكروموسومات X في جميع خلاياه كانت متطابقة بعضها مع بعض، وجميعها مشتقّة من أمّه فقط. وهكذا فإن المكونات الوراثية لـ أزواج الكروموسومات الـ 22 الأخرى في دمه كانت أيضًا متطابقة ومشتقة بكاملها من أمّه. (المسيحية رحلة بين الحقائق والخيال، ص 7)
التوالد العذري هو تطور غير جنسي أو غير تزاوجي لبويضة الأنثى يؤدي إلى إنتاج الوليد دون وساطة الذَّكَر… كما جاء في دراسات حديثة أنه يمكن تنشيط عملية تكوين أجنّة بشرية أحيانًا بطريقة التوالد الذاتي باستعمال «الكالسيوم أيونو فور» كمادة محفِّزة.» (الخليفة الرابع رحمه الله)
وبصفة عامة، فإن الفارق بين الجنسين هو في كروموسوم واحد؛ حيث إن الذكر يحتوي على كروموسومَيْ XY بينما تحتوي الأنثى على كروموسومَيْ XX، ولكن هنالك حالات لذكور وإناث يحتوون على XXY، بل وهناك بعض الحالات النادرة لتركيب XXXY بل و XXXXY، ولكن هؤلاء عادة يكون لديهم تشوهات خلقية ومشاكل عضوية كالضعف في العضلات وإمكانية تطوير سرطانات. أما فيما يتعلق بالإناث فقد ثبت علميا أن بعض الإناث اللاتي يحملن XXY يمكن أن يكنَّ إناث كاملات الأنوثة، دون أي اضطراب أو تشوه خلقي، وقادرات على الإنجاب. وهنالك حالات مسجّلة وموثَّقة لإناث من هذا النوع قد حملن وأنجبن إناثا XX كاملات وذكورا XY كاملين1. ولعل السيدة مريم كانت من هذا النوع، حيث كانت أنثى كاملة بهذا التركيب الكروموسومي، وبهذا فإن توالد المسيح منها ذَكَرًا كاملَ الذكورة توالدا عذريا يحمل XY هو احتمالٌ ممكنٌ قابلٌ للحدوث وطبيعي فيما لو تنشطت بويضتها لا جنسيا، وبهذه الصورة فإن حقيقة تولُّد المسيح عليه السلام ولادة عذرية قد أصبحت الآن إمكانية علمية لا سبيل إلى إنكارها، سواء بهذه الصورة المكتشفة الحديثة من التوالد العذري أو بغيرها من الاحتمالات الأخرى.
وأخيرا، فقد تبيَّن أن ولادة المسيح من غير أب هي حقيقة تاريخية يقرُّها تاريخ المسيحية واليهودية كلٌّ بطريقته، وهي إمكانية علمية يقبلها العلم الحديث، وهي حقيقة أقرَّها القرآن الكريم ثم أكَّد عليها إمام الزمان عليه السلام وبيَّن المغزى من ورائها. أما إنكار هذه الحقيقة من قِبل بعض أنصاف المثقفين المتأثرين ببعض الأفكار الإلحادية الساذجة إنما هو مخالفة للتاريخ والعقل والعلم الحديث، وهو إنكار لبينات القرآن ولقدرة الله تعالى غير المحدودة بالنسبة لأي مسلم يدعي الإيمان بالقرآن الكريم، وهو تكذيب صريح لإمام الزمان أيضا لمن يدَّعي الإيمان به. ولهذا فلا عجب أن يقول حضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عن هؤلاء المنكرين، الذين يخالفون القرآن الكريم مع مخالفتهم العقل والعلم بداية، أنهم خارجون من الإسلام. حيث يقول حضرته ما تعريبه:
إنما إيماننا وعقيدتنا هي أن المسيح – – كان بدون أب، وأن الله تعالى يملك القدرة كلها. وأما الطبيعيّون الذين يحاولون أن يثبتوا أن المسيح كان له أب فقد ارتكبوا خطأً كبيرًا، وإلهُ مثلِ هؤلاء إله ميت، ولا يمكن أن يُستجاب دعاء القوم الذين يظنون أن الله تعالى لا يقدر على أن يخلق أحدًا بدون أب، وإن هؤلاء عندنا خارجون عن الإسلام. (جريدة الحَكم 24 يونيو/ حزيرا1901)
أما لو قال البعض بهذه العقيدة ظنا منهم أنهم يخدمون التوحيد ويبطلون دليلا قويا بيد المسيحيين على ألوهية المسيح فهم يرتكبون خطأ فادحا. فلا شك أن المسيحيين مخطئون في اتخاذ ولادة المسيح دون أب دليلا على ألوهيته، ولكن لا يليق بنا أن نقول إفحاما لهم بأن للمسيح أبا، فهذا ليس بدليل، بل هو مخالفة للقرآن الكريم وأيضا لقول الحكَم العَدْل المسيحِ الموعود عليه الصلاة السلام.