من كلام الإمام المهدي
إني قلت في بعض كتبي إن الله يسلب إيمان قوم يعادون أولياءه، فسألني بعض الناس عن علل هذا السلب، وقال إنما الإيمان يتم باتّباع كتاب الله وسنن رسوله، فما ندري أيّ ضرر للإيمان بعداوة أحد من المسلمين، بل نقول إنها أقوال لا أصل لها وإن هي إلا وهم المتوهمين.
فاعلم أن هذا الرأي رأيٌ ركيكٌ أنحَفُ من المغازل، وأضعفُ من الجوازل، وإنما نشأ من قلة التدبر من طبعٍ فَقَدَ دَرَّ الفكر الصحيح، وأكبَّ على الدنيا بالقلب الشحيح، وكان من معارف الدين من الغافلين.
والأصل في هذا الباب أن بني آدم كشخص واحد.. بعضهم كالرأس والقلب والكبد والمعدة والكلية وأعضاء التنفس، وهم سروات نوع الإنسان، وبعضهم كأعضاء أخرى. فالذين جعلهم الله كالرأس أو القلب وغيرهما من الأعضاء الرئيسية، فجعلهم مدارًا لحياة كل من سُمّيَ إنسانا، وكما أن الإنسان لا يعيش من غير وجود هذه الأعضاء، فكذلك الناس لا يعيشون بحياتهم الروحاني من غير وجود هؤلاء السادات من الرسل والنبيين والصديقين والمحدَّثين والشهداء والصالحين. فظهر من ههنا أن الموت الروحاني هو مطرحُ بُغضِ الأولياء، فالذي اشتد بُغضه ومُماراته بهذه الطائفة المقبولة، وتواترت مباراته بتلك الفئة المحبوبة، وما امتنع وما تاب، وما دعا اللهَ أن يتداركه، وما ترَك السبَّ واللعن والطعن والخصومة، فآخرُ جزائه عند الله سلبُ الإيمان، وتركُه في نيران الحسد والفسق والعصيان، حتى يلتحق برهط الشيطان، ويكون من الخاسرين.
والسرّ في ذلك أن أولياء الله قوم يحبهم الله ويُحبونه، ولهم بربهم تعلقات قوية، وله إليهم توجهات عجيبة، وعنايات لطيفة، وبينهم وبين الله أسرار لا يعلمها إلا حِبُّهم، فيُحبّهم الله حُبًّا عجيبا، ويُعادي من عاداهم ويوالي من والاهم، ولا يدري أحدٌ لِمَ أَحَبَّهم إلى تلك المرتبة، ولِمَ أتمَّ لهم وظائف الوداد كلها، ولِمَ صاروا من المحبوبين.
وقد جرت عادة الله تعالى أنه يُفيض الحق على قلوبهم، ويُجري لطائف العلوم في خواطرهم، ويطهّر فكرتهم، ويُنقّح حكمتهم، ويُعطي لهم عِلم تبَصُّر العواقب، واتقاء مواضع المعاطب، ويقود كل خير إليهم، ويطرد كل شر منهم، ويُطلعهم على معارف كتابه وعلوم نبيّه، ويربيهم من عنده، ويهديهم إلى صراطه، وينعم عليهم بنعماه الظاهرة والباطنة، ويحفظهم من مقامات مزلّة الأقدام، ويجعلهم من المحفوظين، ويجعلهم مِن حُماة حوزة الإسلام، ويشرح صدورهم ويوجّههم إلى حضرته التي هي مبدأ الفيوض، فيأتيهم الفيض في كل يوم غضًّا طريًّا، ويُنفَح في صدورهم من ذلك الفيض الإلهي أنواع لوامع. والناس يعملون الخيرات تطبّعا، وهُمْ طباعا، ولا تصدر الأعمال الصالحة منهم تكلفا، بل تقتضيها فطرتهم السليمة، وتجري فيها إراداتُ الصلاح كفوران العين، ولا يتكاءدهم من الأعمال الشاقة ما يتكاءد غيرَهم. تراهم كالجبال عند الأوجال، وتتبين شجاعتهم عند تبيُّنَ الأهوال، يتحلّون بمحاسن الأخلاق، ويتخلّون مما يسمä بالأخلاق، يصبرون تحت مجاري الأقدار حُبًّا ومواطأةً لا لِتنوُّهِ الأقدارِ، ويطيعون ربهم ببذل الروح واقتحام الأخطار، ابتغاءً لمرضاة الله لا لارتفاع الأخطار. لا يريدون مَلل الخلائق، ولا تجد فيهم سوء الطبع وتوشين الخلائق. الراحمون المحسنون إلى عباد الله، مآلُ الأمل وثمال اليتامى والأرامل. يبعُدون عن كل كدُورَة وظلام وعن الهيئة الظلمانية، ويُملأون من الأنوار والجواهر الإيمانية، ويُصيَّر صحنُ صدورهم مسعى للأوابد الروحانية، ويخرّون أمام السُّدّة الربّانية، وتغرق أرواحهم في بحار حضرته ساجدين. ويخرجون من النفس والهواء والإرادة، ولا يدرون النفسَ ولذّاتِها، ويقلّبهم الله يمينا وشمالا حكمةً من عنده، ويجدد لهم إراداتٍ بعد فناء الإرادات النفسانية كلها. ثم يُرسلهم إلى عباده رحمة منه، فيدعون الناسَ إلى الخير والصلاح، والسعادة والنجاح، فالذين يقبَلونهم ويتّبعونهم ويحذون حذوهم في كل أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم، ولا يُفارقون أظلالهم ولا يخرجون عما أمروهم، فينالون السعادة ويفوزون فوز السعداء، ويُرضون الله ورسوله ويكونون مُباركين.
فالحاصل أن خدمة هؤلاء الكرام عنوان السعادة، ومحبتهم استثمار المعرفة، ومصافاتهم مُصافاة الله، وبثّ مدائحهم زمام الفلاح، وتطلُّب مثالبهم من أمارات الطلاح، وتتبُّع عيوبهم مدحض المحسنات، وتكلُّف كَلَفِهم كفّارة السيئات. فالذين ما انتظموا في سمطهم، وما انخرطوا في جماعتهم، وما التحقوا برهطهم، بل عادَوهم وخالفوهم، وتجاوزوا الحد في مَقْتهم عند المخاصمات، وتَعدَّوا الأدبَ في المكالمات، فأحبط الله عملهم، وأرداهم وباءوا بسخط من الله، ورجع إليهم نكالٌ من الله وغضبٌ من عنده، فنـزع الله من قلوبهم كلَّ حلاوة الإيمان ونور العرفان، وتركهم في ظلمات خاسرين مخذولين.
ثم اعلم أن كل ما قلنا هي علل روحانية لسلب إيمان المخالفين، وأما الأسباب الخارجية لخسرانهم وبُعدهم عن الحق، فهي أسباب أعدّوها لهم من عند أنفسهم، فهي أنهم يُخالفون إمام الوقت وخليفة الزمان في كل قوله وفعله وعقيدته، مع أنه على الحق ومؤيَّد من الله تعالى، فكلما يُخالفونه ويتركون طريقه فيَبعدون عن طرق السعادة والصدق والصواب، ويطرحهم شِقوتُهم في فلوات الخسران والتباب فيصيرون من الهالكين.
ومن المعلوم أن الرجل الذي خالف الحق وخالف الذي يدعو إلى الحق على بصيرة، فلا بد له أن يقع في هوة الخطايا، فإنه خالف المحفوظَ المصيب المؤيَّد من الله. ثم معلوم أن المخالفة إذا بلغت منتهاها، فتزيد شقاوة المخالف يوما فيوما، فيكون حريصا على رد كل كلمة الحق والحكمة والصداقة التي أُعطيت لإمام الزمان، بل هذا هو النتيجة الضرورية اللازمة لكمال العناد، فإن العناد إذا بلغ كماله فيجترئ المعاند لشدة عناده يوما فيوما على المخالَفة حتى يقع يوما في مخالفة عظيمة تُهلِكه وتسلب إيمانه، فيلحق بالمخذولين. ألا ترى أنك إذا اخترت طريقا على وجه البصيرة وتعلم أنه طريق مستقيم يُوصلك إلى منـزلك ودارك سالما غانما، ومعك في سفرك عدو شقي، فحمَله عداوتُك على أن يختار لنفسه طريقا آخر يُخالف طريقك مع أن فيه قطاعَ الطريق وسباع وأفاعي وآفات أخرى، فلا شك أنه ألقى نفسه إلى التهلكة، فإن هلك فما كان سبب هلاكه إلا مخالفتك، فتَدبَّرْ واتّق الله ولا تكن إلا مع الصادقين. ولا تؤذ صادقا ولا تُعِنِ الذي أبلى في هيجائه، بل لا تكنْ من الذين هم نَظّارة ذلك الحرب، ورضوا بالطعن والضرب، وأفاضوا في سماع كلمات فيها استخفافه، وتُبْ مع الذي تاب، فإن الصالحين قوم إذا أراد الله نصرهم فيخلُق مِن لدنه الأسباب ويُبدي العُجاب، ويأتي المعادين من حيث لا يعلمون، ولا يُخزي عباده المحبوبين. فأوصيك أن لا تُمارِهم، ولا تخالِفْ قولهم بفهمٍ أنحَلَ وعقلٍ أقحَلَ، ولن تبلغ أفهامَهم وعلومهم، ولو كان عندك جبل من الكتب، فإنهم يُؤتَون علمًا وفهمًا مِن لدن ربهم، وتُنوَّر أفهامهم، وتُصفَّى عقولهم، وتُوسَّع مَداركهم، ويعصمهم يدُ الرب من مزلّة، وربما تسمع من أفواههم كلماتٍ هي عندك كلمات الكفر وأقوال الارتداد، وأما إذا فكّرتَ أنت وأمثالك في كلماتهم بقلب سليم ورأي حُرّ، ودعوتَ الله أن يفهّمك، فإذا هي معارف الحكمة ولآلئ المعرفة، فإن كنت سعيدا فتقبَلها بعدما فهمتَها، وإن كنتَ شقيًّا فتبقى على إنكارك وتجحد وتختار التكذيب لنفسك، فتسفِك دمَ إيمانك بيديك، وتلحق بالذين هم ضيّعوا إيمانهم، وهم يعلمون وما كانوا مهتدين.
يا مسكين! لا تعجَلْ.. ولا تُكفِّرْ عبداً اصطفاه الله وتراه يصلّي ويصوم ويستقبل القبلة، وتجد فيه سِمة الصلحاء واتّباع السُنّة، ولا تعجَلْ على ما ادّعى من الكمالات والمعارف، فإن في الإسلام قوما يُؤتَون حكمةً روحانية من ربهم، لا يفهم أقوالهم كلُّ غبي وبليد. فراستهم قد أوتيت من الإصابة، وعقولهم فاقت عقول العصابة، وفهمُهم يُفصِح عن كلِّ مُعَمَّى، ولا يطيش سهمهم في مرمَى، وما يضرّهم شيطان فيتبَعه الشهابُ، وما يصل إليهم سهم وإن تخلو الجِعابُ. يُؤتَون من لطائف العرفان، ولهم يد طولى في البيان، وتعريضهم أدلُّ من تصريحِ غيرهم، وكلامهم تتجلى² في الألوان، ويسمح خواطرهم للإفاضات، وهم أعمدة الدنيا وعُمَدُ الدّين، وللخَلق وجودُهم كروح الحياة، ومن عاداهم فقد بارزه الله للحرب، فتارة يأخذه من غير إمهال، وتارة يؤجله أجلا ويُرخي له طولا، حتى إذا جاء وقته فيحرق كُثْبَته صاعقةُ العذاب، ويجعله كأن لم يكن من العائشين. (حمامة البشرى)
ä يبدو أنه سهو من الناسخ، والصحيح: “يصم”. (الناشر)
يبدو أنه سهو من الناسخ، والصحيح: “الهوى”. (الناشر)
² سهو، والصحيح: “يتجلى”. (الناشر)