- الآيات والمعجزات والإشكالات اللغوية
- المعجزة في القرآن المجيد وجناية المصطلح الدخيل
- لماذا تظهر آيات الله
- تنَزُّه الله عن العبث
الآيات والمعجزات والإشكالية اللغوية
يعد اختلاط المفاهيم أحد الأسباب المؤدية إلى اللبس، إن لم يكن أبرزها، في مختلف المجالات، السياسية والفلسفية واللغوية، وبطبيعة الحال المذاهب الدينية أيضا. ومن بين تلك المفاهيم العديدة، التي وقع بينها الخلط، مفهوما الآية والمعجزة، واللذان وإن كانا في نظر الغالبية العظمى من الناس يؤديان نفس الوظيفة، إلا أن ثانيهما (المعجزة) قد اكتسب على مر القرون قوة وحاز مرتبة الأسبقية على المفهوم الأول (الآية)، بحيث ترسخت في العقل الجمعي للأمة عادة السؤال عن المعجزات كإثبات لصدق ادعاء المبعوثين، وإهمال النظر في الآيات التي هي نفسها دلائل تأييد لهم من عند الله تعالى إثباتا لصدقهم. إننا نجد لفظة «الآية» أولى وأجدر بالقبول، لا سيما وأنها كانت الأنسب في التعبير القرآني دون لفظة «معجزة»، فقد يستغرب المرء من حقيقة أن لفظة «معجزة» ليس لها وجود في القرآن المجيد، بينما تتراءى لفظة «آية» و«آيات» بكثرة ملفتة للأنظار. فقد وردت بصيغة الإفراد والجمع والإضافة والتجرد والتعريف والتنكير إجمالا أربعمائة وأربع عشرة مرة بين دفتي القرآن المجيد، وتشير أغلب تلك المرات إلى معنى «العلامة الظاهرة الدالة على أمر أو وجود خفي»، ولهذا سميت جُملُ وعبارات القرآن المجيد بـ «الآيات» من منطلق كون كل جملة منها تشير إلى ذلك الذي لا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.
إننا إذ نعرض إلى التمييز بين مفهومي الآيات والمعجزات لا نهدف إلى نفي ما أجراه الله تعالى على أيدي أوليائه أو لأجلهم من كرامات وأمور تبدو خارقة للعادة، ولكننا نهدف من وراء هذا التمييز إلى وضع كل أمر في نصابه الصحيح، فإن اختزال كل أفعال النبيين المؤيدة من الله تعالى في لفظ «معجزات» يبعد العقل تلقائيا وبمرور الوقت عن فكرة أن لفت الأنظار إلى الله كونه السبب الأول، ولهذا كان السؤال عن الآية هو الأجدر والأكثر اتفاقا مع المنطق، وما مصطلح «معجزة» إلا من جملة المصطلحات الدخيلة على فهم الأمة الصحيح، وهو ماكان له جناياته التي أدخلت ذلك الفهم في دهاليز الخرافة.
جاء في بعض المعاجم المتخصصة عن معنى الآية أنها «العلامة الظاهرة، وحقيقته كل شيء ظاهر هو ملازم لشيء لا يظهر ظهوره فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته إذ كان حكمهما واحدا، ذلك ظاهر في المحسوس والمعقول» (التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي)
كما قلنا، لسنا بصدد تفضيل أحد المفهومين على الآخر، ولكن إذا ما وجدنا أحدهما يستخدمه المصطلح القرآني دون الآخر، فإن هذا يعني ضمنا اشتمال اللفظ المستخدم على معان وأبعاد لا يتضمنها اللفظ الآخر.
المعجزة في القرآن المجيد، وجناية المصطلح الدخيل
إن موضوع بحثنا في هذه الأسطر القليلة يتعدى فكرة المفاضلة بين الألفاظ، وإنما سنتوصل في أثناء المطالعة إلى ما جناه استخدام لفظ غير مناسب على العقل الجمعي للأمم. كذلك سنحاول استكناه فلسفة الآيات الإلهية ودواعي ظهورها.
لقد شاع استخدام لفظة «المعجزة» طوال قرون بعد عصر النبوة، فحتى النبي الخاتم لم يؤثر عنه التلفظ به، على الأقل فيما بين أيدينا من الصحاح الستة. فلم يُذكر هذا المصطلح في القرآن ولا في حديث النبي، ولا في كلام الصحابة والتابعين، وكانت تستعمل كلمة «آية» مكان «المعجزة» و«الإعجاز»، ثم نشأ هذا المصطلح في نهاية القرن الثالث الهجري في بيئة المتكلمين ثم البلاغيين الذين كانوا يدافعون عن القرآن الكريم ويردون أباطيل الملاحدة والزنادقة وأهل الزيغ والأهواء. وأول من استعمل مصطلح الإعجاز كان محمد بن يزيد الواسطي المعتزلي، وكان هذا بعد منتصف القرن الثالث الهجري؛ فهو أول من ألف في الإعجاز، وقد فُقِد تأليفه هذا في جملة ما فقد من كتب التراث وإنما علمنا به من تأليفات معاصريه، وتوفي الواسطي سنة 306 هـ. منذ ذلك الحين ظل مصطلح «المعجزة» قيد الاستعمال، ثم بدأ ذلك المصطلح في إزاحة مفهوم «الآية» حتى حل محله تماما في القرون المتأخرة قبل مبعث المسيح الموعود حضرة مرزا غلام أحمد القادياني على رأس القرن الرابع عشر الهجري.
لسنا بصدد تفضيل أحد المفهومين على الآخر، ولكن إذا ما وجدنا أحدهما يستخدمه المصطلح القرآني دون الآخر، فإن هذا يعني ضمنا اشتمال اللفظ المستخدم على معان وأبعاد لا يتضمنها اللفظ الآخر.
لماذا تظهر آيات الله؟!
بطبيعة الحال فإن كل عناصر الوجود تشير إلى الموجود الأول سبحانه جل في علاه، وبالتالي وبناء على ما تقدم فإن الخليقة في حد ذاتها آيات مشيرة إلى الحق المطلق (الله سبحانه وتعالى)، وذلك على اعتبار أن الآية هي العلامة الظاهرة والملازمة لشيء لا يظهر كظهورها، فمتى أدرك المرء الظاهر منهما انتقل بذهنه إلى إدراك الآخر الخفي الذي لم يدركه بذاته.
إذًا، فعناصر الوجود جميعا من مخلوقات وظواهر كونية ووعي وأحاسيس نفسية، كل ذلك يُعد آيات لله سبحانه وتعالى، وهي تكفي لفطين، فمن آياته سبحانه على سبيل المثال فقط لا الحصر:
1. وَمِنْ آيَاتِهِِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (الروم: 21)
2. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: 22)
3. وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (الروم: 23)
4. وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (الروم: 24)
5. وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (الروم: 25)
6. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (الروم: 26)
7. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (الروم: 47)
فتلك الآيات السبع المتعاقبة من سورة الروم تكفي لالتفات العاقل إلى ذلك الواجد والمتحكم الخفي الأعظم، ولذا رأينا على مر التاريخ نماذج لحالات إيمان تمت بدون تقديم آية إلجائية ودافعة إلى الإيمان، نعرف جميعا قصة إيمان حضرة الصديق أبي بكر وحضرة الحكيم نور الدين (رضي الله تعالى عنهما)، إنهما لم يسألا سيديهما تقديم آيةٍ إثباتا للصدق، لقد اكتفى كل من هذين الصدِّيقين بالإنسان الكامل كآية في حد ذاته.
ولأنَّ الناس متفاوتون في مراتبهم العقلية وإدراكهم وسرعة بديهتهم، فكذلك هم متفاوتون في سرعة استجابتهم للآيات، وكما أن منهم من يكتفي بما يقدمه الله تعالى بيده إليهم من آيات مبثوثة في الوجود المشهود، فأيضا هناك من هم أدنى مرتبة، وأقل إدراكا وفهما، ويحتاجون إلى إعادة التفهيم، فيقدم الله تعالى إليهم آية تناسبهم، ولكن هذه المرة على أيدي أوليائه ومبعوثيه (عليهم السلام)، حتى إذا ما ثبت لهؤلاء القوم صدق المرسلين انتبهوا إلى حقيقة المرسِل الذي أرسلهم سبحانه. فالآيات إذا في هذه الحال تظهر للناس العاديين الذين لم يستوعبوا درس الوجود الطبيعي الذي يقدمه المربي الأعظم عز وجل، لذا استدعى رحم ذلك المربي عليهم أن يعاد الدرس لهؤلاء الناس على يد معلم مرسل من ذلك المربي الأعظم.
وكما يشهد واقع الحال، فحتى الرسل لا يكونون بمنأى من المعاندة والتكذيب بطبيعة الحال، فهنا يأتي دور الآيات من الله تعالى كنوع من الإلجاء، غيرة منه سبحانه وتعالى على أوليائه الذين لا يلبث الناس أن يكفروهم ويكذبوهم فور دعواهم. فالآيات إذًا لا تظهر هكذا اعتباطا أو كيفما اتفق، وإنما هي تتبع قانونا وشروطا لا تظهر إلا بتحققها. وفي المقتبس الآتي يقدم حضرة المسيح الموعود جانبا من قانون الله تعالى في إظهار الآيات على أيدي المبعوثين، فيقول:
“فواضح جدا أن آيات الله تظهر تصديقا لرسله ومبعوثيه ليُعرفوا، وهي تظهر في وقت يواجهون فيه أشد التكذيب إذ يعدون من المفترين والكفار والفساق، فتهيج لهم غيرة الله فيريد أن يظهر بآياته صدق الصادق، باختصار، إن الآيات السماوية دوما بحاجة إلى محفز. وإن الذين يكذِّبون مرارا وتكرارا هم الذين يمثلون ذلك المحفز، فهذه هي فلسفة الآيات”. (التحفة الغولروية ص109)
تنزه الله عن العبث
ككل عناصر الوجود وظواهره، الآيات الإلهية في تأييد المبعوثين تكون وفق قانون، وهو ما بيناه في المقتبس آنف الذكر لحضرة المسيح الموعود . وعلى ذكر القانون الخاص لظهور الآيات على أيدي المبعوثين، أو لأجلهم، يستبعد العقل أن تظهر آية هكذا اعتباطا دون وجود المحفز الداعي إلى ظهورها.
من العوائق الكامنة في سبيل إيمان الكثيرين شعورهم بتراخي الزمان، وأنه ما زال لديهم متسع من الوقت، وبالتالي فكلما جاءهم مبعوث من الله في وقته وأوانه ردوه قائلين (بلسان حالهم): إنه ليس أوانك، وما زالت هناك فسحة من الزمان حتى تأتي أنت.. إنَّ حال هؤلاء هي نفسها حال السادر في غيِّه زاهيا بصحته وماله ناسيا لحظة انقضاء الأجل، بل ومستبعدا لها..
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (الكهف: 36-37)
ومسألة الشعور بتراخي الزمان هذه كانت السبب الرئيس في إنكار المنكرين للآيات وللمرسلين، فبما أن كل شيء بأوان، حتى أن هذا القول صار جاريا بين الناس مجرى المثل السائر، فكان إنكار مصلح ومجدد الوقت غير ممكن إلا بإحدى طريقتين:
1. إما أن ينكروا المبعوث نفسه قائلين له أنه منتحل، وهذا يكون متعذرا في الأغلب، إذ لا يكون ثمة مدعين غير ذلك المبعوث.
2. أو إنكار الوقت نفسه، وبالتالي فمن جاء في غير وقته فليس هو المقصود، لأن الرجل المناسب يأتي دائما في الوقت المناسب.
ولا يلبث المنكرون أن يتخذوا من الطريقة الثانية مرتكزا لإنكار المبعوث من الله عز وجل، لذا نرى الله تعالى يفضح كذب هؤلاء بآياته التي يجريها على أيدي النبيين، ولتقريب المسألة ننظر في واقع الأمة وكم ترقبت بزوغ القرن الرابع عشر الهجري موعدا لظهور مهديها المسيح! وذلك بناء على عدة قرائن، منها ما ورد في حديث الدارقطني من أن ادعاء المهدي المنتظر سيعقبه وقوع خسوف للقمر فكسوف للشمس في نفس الشهر من رمضان، فهذا ما حدث بالضبط، غير أن طائفة من المكذبين من مشايخ وعلماء السوء أضلوا العوام بفكرة أن آيتي الخسوف والكسوف حدثتا بالفعل، ولكن هذا ليس معناه أن مرزا غلام أحمد هو المهدي فعلا، بل إن المهدي الحقيقي لم يأتِ بعد، فارقبوه لاحقا، ربما في القرن الخامس عشر، ولكن ليس الآن، وليس هذا الرجل.
ويقول المسيح الموعود دحضا لمثل هذا الاعتراض السخيف:
«ولماذا تسرع الله إذ قد أظهر الآية في زمن لا يوجد فيه أي أثر لمدَّعٍ، بل لم يكن لأبيه وجده أي أثر؟…..ثم لما لم تظهر إلى الآن أمارات ظهور المهدي القادم وتأجل الأمر إلى مائة عام على الأقل، فأي فائدة ترجى من آية الخسوف والكسوف الباطلة هذه؟…..باختصار؛ لو فُصل بين المهدي وآيته فهذا تشاؤم كريه، مما يُفهم منه أن الله تعالى أصلا لا يريد أبدا أن يُثبِت بآيات سماوية دعواه بأنه المهدي» (التحفة الغولروية ص110 )