- ما هو تعريف التناص؟
- ما الفرق بين التناص وبين السرقات الأدبية، أو ما يُعرف بـ”التلاص”؟
- هل لجأ فحول شعراء العربية إلى التناص حقا دون أيما حرج؟!
____
قول في السرقات الأدبية
تشهد الساحة الأدبية والفكرية معارك ضارية ليست بأقل ضراوة مما تشهده ميادين القتال المسلح، الفرق بين المجالين هو أن المهزوم في ساحات القتال المسلح قد يفقد حياته، بينما المهزوم في ساحات الفكر والأدب كثيرا ما يفقد شرفه! وبما أن المعارك الأدبية تخاض غالبا لحيازة الرفعة والشرف، لذا فقد باتت مجالا واسعا للطعان، لا بالسيف والسهام، ولكن بأسنة الأقلام..
وكما الحرب العسكرية التي قد يتخلى المتورطون فيها عن أخلاق الحرب أحيانا، فكذلك المعارك الأدبية، طالما يتخلى البعض فيها عن الأخلاق، بغية إيقاع أكبر الضرر بالطرف الآخر، فتارة يدعون عليه الخطأ وتارة يدعون عليه القصور في البلاغة وقلة الذوق، وثالثة يدعون عليه السرقة ممن سبقه.. والاتهام الثالث هو ما نفرد لأجله هذا المقال، كونه قيل في حق سيدنا المسيح الموعود كما سبق وأن قيل في حق سيدنا خاتم النبيين محمد المصطفى ، وهو ما سيأتي بيانه وتفصيله لاحقا.
تعريف السرقة الأدبية
السرقات الأدبية تعبير يُطلق على الاقتباسات المأخوذة من مصدر سابق ما دون إشارة إلى صاحب النص الأصلي، أو مصدر تلك النصوص، وأصبحت فى عصر الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة آفة ربما يصعب التخلص منها.
وقد عبر الباحثون ومؤرخو الأدب ورواته عن هذه الظاهرة، أي السرقات الأدبية، بمصطلحات عدة، أشهرها «النحل الأدبي»، ومعروف أن ظاهرة النحل أو الانتحال ليست بالظاهرة الحديثة، وإن كانت قد أخذت زخما كبيرا في العصر الحديث، بعد نشر طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي»، والذي حاول فيه إثبات أن الشعر الجاهلي أغلبه منحول، مما أثار عليه ثائرة لم تهدأ إلى يومنا هذا.
عند تتبع تاريخ السرقات نجد أن السرقات الأدبية قديمة فى تاريخ الفكر الإنساني، وجدت عند اليونان والرومان، منذ عهد بعيد، وفى تاريخ أدبنا العربي، نجد أن السرقات عرفت منذ العصر الجاهلي وتكاد تكون من أوسع الأبواب فى النقد العربي، فمثل طرفة بن العبد كتب ينفى عن نفسه صفة السرقة، ويعتبرها من الأمور المعيبة إذا قال:
ولا أغير على الأشعار اسرقها
عنها غنيت وشر الناس من سرقا
ويذكر الكتاب أن فى العصر العباسي ازدادت وتعددت وقائع السرقة الأدبية، بسبب تعدد المصادر الثقافية، فأثارت بذلك حركة نقدية واسعة، أفرزت الكثير من المؤلفات والكتب المتنوعة، التي دارت حول شعراء كبار كأبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي.
الاقتباس بين التناص والتلاص
لقد اختلف البعض في وصف الاقتباس أو التناص، فقد اعتبره بعض الجهلة سرقة وعدّه الآخرون صنفًا عاليا من أصناف البلاغة. يميّز النقاد بوضوح بين التناصِّ وبين السرقة الأدبية التي تسمى «التلاص» والتي تعني أن يأخذ أديب عمل غيره وينسبه لنفسه لغة ومعنى، بإجراء بعض التعديلات البسيطة أحيانا. وجوهر التلاص متعلق بالمضمون أساسا، لأن إجراء بعض التعديلات الأسلوبية لا يؤثر على المضمون المتلاصِّ كثيرا.
أما التناصّ، وعلى نقيض التلاصّ، فإنه عمل لا يقدر عليه إلا كبار الأدباء والكتاب والشعراء من أبناء اللغة واللسان، ممن لديهم اطلاع واسع ومعرفة عميقة باللغة والأساليب والأدب والثقافة وانسجام كامل معها، بحيث يوظِّف الكاتب بعض الأساليب والمصطلحات والتعابير والأمثال في نصِّه ليقدِّم معانٍ جديدة، ويضفي على النصِّ عراقة وتواصلا مع التراث والأدب والثقافة، ويلفت الانتباه أيضا إلى بعض المعاني التي قد يختزلها أيضا في لفظ أو لفظين يشيران أحيانا إلى قصة طويلة أو عبرة يعرفها أهل اللغة والثقافة بمجرد أن يسمعوا هذين اللفظين.
وبالنظر فيما اشتمل عليه كلام المسيح الموعود من اقتباس أو مظاهر التناص فإن ما يميزها عن غيره من الأدباء والكُتاب فهو مبيّنٌ في دعوى حضرته أن علمه ليس مكتسبًا بحيث لم يتعلم مناهج البلاغة ولم يملك الأدب واللغة بجهده الذاتي وإنما هو مما علّمه الله تعالى فكمّله في هذه اللهجة، وجعله واحد الدهر في مناهج البلاغة. ونتيجة لذلك فإنه يقول «لا أعرف عند الكتابة ما إذا كانت بعض الفقرات والعبارات واردة في كتاب قديم أو كتبها مؤلف من العلماء القدامى، لأنها بالنسبة لي علم الغيب الذي يفتحه الله تعالى عليّ، فأكتب بالقوة والقدرة الإلهية وبمننه وأياديه عليّ». ولم يحظ أحد الأدباء قط بهذه الميزة الفريدة.
فخلاصة القول، إن الأدباء يكتسبون مهارة الاقتباس بالعلم المكتسب وبالتالي يعرف الكاتب كم من كلامه يقتبس، وممن يقتبس، ولكن حضرته عُلِّم من الله تعالى هذه العلوم كلها لذلك يكتب بناء على ما حباه الله تعالى من تلك العلوم، قد حاز مقدرة عظمى في مثل هذا التناص وتوظيفه في كتاباته الرائعة، وهذا مما لا يقدر عليه إلا كبار الأدباء والكتاب. ولكن مع فارق هام جدا عن غيره، وهو أن هذا التناص لم يكن مقصودا أو متكلَّفا، بل كان موحى به ومتواردا، بحيث استخدمه حضرته دون أن يعرف به، وربما اطلع لاحقا على أنه كان قد ورد مسبقا في أدب العرب أو شعرهم، وليس ضروريا أن يكون قد اطلع على هذا التوارد كله. ولكن هذا التوارد سيستفيد منه كل من سيعرفه من القراء والمتلقين.
التناص بين بعض كتابات المسيح الموعود ومقامات الهمذاني الحريري
لقد وردت في كتب المسيح الموعود بعض الجمل المشابهة لما ورد في مقامات الحريري أو بديع الزمان الهمذاني وغيرهما من الأدباء والشعراء، ويعترض عليها المعارضون منذ عصر المسيح الموعود . لقد ردّ المسيح الموعود عليها ردًّا علميًّا بليغًا مختصرًا ومفحمًا، غير أن المعارضين وبسبب جهلهم وعنادهم ظلّوا يثيرون الاعتراضات نفسها دون التفكير والتدبر فيما قدّمه المسيح الموعود من براهين قاطعة لتوضيح موقفه. ونجمل فيما يلي بعض النقاط الواردة في ردود حضرته.
لقد وضح المسيح الموعود موقفه بخصوص موضوع التناص متهما القائلين بالسرقة لمجرد وجود تشابه في بعض المقاطع، متهما إياهم بالجهل، وأورد حضرته حادث ارتداد عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وقد كان أحد كتبة الوحي، حين نزلت آية:
والقصة مشهورة
وفي موضع آخر قال بهذا الصدد:
وبالفعل بسبب وجود بعض تعابير الشعر الجاهلي في القرآن الكريم، يطعن أعداء الدين الإسلامي، وبخاصة النصارى، في النبي محمد ويتهمونه بالسرقة من هذه القصائد. ومن أمثلة افتراءاتهم الكثيرة، ما أوردوه من مظاهر تناص لغوي زعموا أنها سرقات أدبية موجودة في القرآن، مثل:
الآية التالية: وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ (2) والتي قيل إنها مسروقة من كلام امرئ القيس الذي قال:
وَمِنَ الطَّرِيْقَةِ جَائِرٌ وَهدى
قَصْد السَّبِيْل، وَمِنْهُ ذُو دَخل
كذلك قيل أن تعبير «قاصرات الطرف» في آية:
مسروق من بيت شعر لامرئ القيس حيث قال:
مِن القاصِراتِ الطَّرفِ، لو دبَّ مُحوِلٌ
من الذرِّ فوقَ الإتبِ مِنها لأثَّرَا
وقيل أن تعبير ما يبدي وما يعيد في:
مأخوذ من قول ابن الأبرص:
أَقْفَرَ مِن أَهْلِهِ عَبِيدُ
فاليومَ لا يُبْدِي ولا يُعِيدُ
وقيل أن:
مأخوذ من قول أبي حازم حين قال:
وَيَوم النسَارِ وَيَوم الجفَارِ
كانَا عذابًا وكانَا غرامًا
وقيل أن:
مأخوذ من قول أمية بن أبي الصلت الآتي:
كَيْفَ الجحُودُ، وَإِنَّما خُلِقَ الْفَتَى
مِنْ طِيْنٍ صَلْصَالٍ لَهُ فَخَّار
وقيل أن:
مأخوذ من قول زهير بن أبي سُلمی الآتي:
ثم قيل عن قوله تعالى:
أنه ورد في شعر قس بن ساعدة أيضا:
كَلّابَلْ هُوَ اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ
لَيْسَ بِمَولُودٍ وَلَا وَالِد
ورد في القرآن الكريم
وقيل أن امرؤ القيس قد قال قبل نزول القرآن:
يَتَمَنَّى الْمَرْءُ فِي الصَّيْفِ الشِّتَا
فَإِذَا جَاءَ الشِّتَا أَنْكَرَه
.
فَهُوَ لَا يَرْضَى بِحَالٍ وَاحِدٍ
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَه
النقد الأدبي قديمه وحديثه ينتصر للمسيح الموعود
لقد وجد في كلام العرب بكثرة اشتراك الكلمات والتضمين والتوارد، ولا دخل للسرقة فيها يثبت هذا مما ذكره واحد من أعلام النقد الأدبي العربي القديم، وهو ابن رشيق صاحب كتاب «العمدة»، والذي أورد قولا لأبرز الرواة العرب القدامى، وهو أبو عمرو بن العلاء، قال فيه:
إن التأمل في هذه الأمثلة يُسفر عن بطلان اعتراضات السرقة للمعترضين على كلام المسيح الموعود .
ومن هذا نعلم أنه ليس من الغريب أن يتضمن الوحي الإلهي كلمات واقتباسات من البيئة الثقافية للنبي، إذ في ذلك عنصر إيجابي وهو مخاطبة الناس بما يفهمونه، وتكريس هذه العبارات لما هو أنفع في مصلحة الناس؛ ولذلك قال الله تعالى:
فكان أن من اعترضوا على ما في كلام المسيح الموعود من تناص، هم من حكموا على أنفسهم بالضلال، بحسب منطوق قول الله تعالى في سورة إبراهيم، ناهيك عن أن الله تعالى هو مالك الملك فهو من علّم كل هؤلاء الشعراء مثل هذه الألفاظ وهي ليست حكرا عليهم، وبما أنه تعالى هو مالك الملك فبإمكانه أن يعلّم نفس هذه الأمور لرسله وأنبيائه.
كذلك لا بدّ من التنويه إلى أن القرآن الكريم قد توارد مع كلام البشر في عدة مواضع، حيث توافق مع ما قاله كاتب الوحي عبد الله بن أبي السرح حيث قال:
، وكان هذا مدعاة لفتنته وردته.
وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ :
فهل كان الرسول والعياذ بالله يسرق من البشر كلامهم ويعزوه إلى الوحي؟ أم أنه لا غرابة في أن يتضمن الوحي كلام البشر أيضا؟!
فعل رب قادر؟ أم مكائد الإنسان؟!
التنقيب في مناجم الذهب لا شك أنه يؤتي أكله في كل الأحوال، سواء كان المنقب عاملا أم سارقا، ولقد كلّف بعض المعترضين أنفسهم عناء كبيرًا بالتنقيب في كتابات المسيح الموعود حيث بحثوا في كل جملة من كتب المسيح الموعود عولذلك وحاولوا إيجاد نظائرها في الكتب الأدبية القديمة وحيثما وجدوا تواردا نعقوا بتهمة السرقة. وكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له شاغل سوى الاطلاع على الكتب القديمة واستلال عبارات منها وتضمينها في كتبه، مع أن القاصي والداني يعلم تمام العلم أن الوضع الصحي لحضرته لم يكن يسمح له ببذل مثل ذلك المجهود الذي يعجز عنه حتى الأصحاء في كثير من الأحيان.
ثم لنلقِ نظرة على أحوال حضرته حين ألف هذه الكتب. كان حضرته مصابا بالسكري والصداع منذ 1883، وكان الأحمديون وغيرهم من المسلمين وغير المسلمين يزورونه يوميا فكان يؤمّن لهم المبيت والطعام ويوفّر لهم أسباب الراحة أثناء قيامهم عنده، ثم كان يتبادل معهم الحديث ويحاورهم ويرد على أسئلتهم وتساؤلاتهم، ثم كان يستلم الرسائل من الموافقين والمعارضين يوميا، وكان يقرأ مقالاتهم أو يستمع إلى من يقرأها عليه، ويملي الردود على تلك الرسائل وكان الرد على رسالة واحدة يكون أحيانًا مقالا طويلا، وكان إضافة إلى ذلك يكتب المقالات والإعلانات ويرد على المسيحيين والهندوس وكل من يهاجم الإسلام، ويؤلف كتبا بالأردية ويخوض في المناظرات والمساجلات ويقوم بالأسفار وبأعمال إنسانية أخرى كثيرة. وإلى جانب ذلك يؤلف كتبا عربية جالسا، وكل ذلك في قرية ليست بها كهرباء فكانت الحرارة تشتد صيفا وكان البرد قارسا شتاء، فإن تأليف الكتب باللغة العربية في سن الشيخوخة رغم الإصابة بالأمراض والضعف والأشغال الكثيرة بحد ذاته معجزة. كان حضرته مثقل بأعمال كثيرة بحيث لم يكن يجد فراغًا للرجوع إلى الكتب ناهيك أن يُتصور أنه يجلس ويفتح حوله كتب المقامات وغيرها ويأخذ جملة من هذا الكتاب وأخرى من كتاب آخر ثم يقلب الصفحة ويختار جملة من هنا وأخرى من هناك. هل يمكن لأحد أن يكتب موضوعًا علميا من خلال الجمل المسروقة؟! فلما عجز المعترضون عن قبول تحدي حضرته وتأليف كتب مليئة بالمعارف وتفسير الفاتحة باللغة العربية الفصيحة؟ قالوا إن كتب حضرته مليئة بالأخطاء، ولغتها ضعيفة، غير أنهم نقضوا أنفسهم حين قالوا إن هذه الكتب مليئة بالتعابير والجمل القوية والتراكيب البليغة من الكتب القديمة، فلما رأوا أن هذه الحجة أيضا غير نافعة قالوا إن هذه الكتب ليست من تأليف حضرته بل كتبها شخص عربي يقيم عنده أو ساعده في تأليفها بعض أصحابه، فردّ عليهم المسيح الموعود بما يلي:
«إن معارضيّ محقّون تماما في قولهم إن ذلك ليس من صُنْعه (يعني نفسه ) بل هناك مَن يساعده سرًّا. وإنني لأشهد أن هناك مَن يساعدني حقيقة، ولكنه ليس بَشرًا، بل هو ذلك القادر القدير الذي رؤوسُنا خاضعةٌ على عتباته».
وقال أيضا ردًّا على التهمة نفسها في أبيات شعرية تالية:
اُنْظُرْ إِلَى أَقْوالِهِمْ وَتَناقُضٍ
سَلَبَ العِنادُ إِصابَةَ الْآرَاءِ
.
طَوْرًا إِلَى عَرَبٍ عَزوْهُ وَتَارَةً
قَالُوا كَلامٌ فاسِدُ الإِمْلَاءِ
.
هَذَا مِنَ الرَّحْمنِ يَا حِزْبَ العِدا
لَا فِعَلَ شَامِيٍّ وَلَا رُفَقَائِي
فليس رد أبلغ مما ضمنّه حضرته في هذه الأبيات الشعرية، دحضا لفرية الاقتباس من أمهات الكتب العربية، مهما بلغت من حسن السبك والحبك والقيمة الأدبية البلاغية.