- وضع القضاء في أيام نشأة الإسلام
- إنشاء ديوان القضاء في عهد حضرة عمر الفاروق رض
- ثم تطوره في عهد حضرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
__
نظرًا إلى أن استقرار المجتمع مَرهونٌ بشيوع حال العدل فيه، بل العدل أساسه، حيث بيـَّن الله تعالى في القرآن الكريم هذا المبدأ العام: .
وفي زمن الجاهلية لم يكن ثمة قانون سائد سوى قانون القبيلة، والذي ما كان لتستسيغه قبيلة أخرى فتطبقه إلا تحت حد السيف، فالشريعة الغالبة حينذاك كانت شريعة الغاب، والقبيلة الغالبة هي التي تفرض قانونها، بغض النظر عمّن كان المعتدي ومن المعتدى عليه، ومن ثم نشأت أحلاف قبلية كالتي نراها اليوم بين الدول، فكانت رَحى العدوان تدور والظلم يستشري، لا بين قبيلة وقبيلة، بل بين حِلْفٍ وحِلف، حتى ما كان العرب يلقون سلاحهم ويجتمعون إلا في الأشهر الحرم وموسم الحج.. وبمبعث سيدنا محمد المصطفى ونزول شريعة القرآن، أصبح للناس قانونًا عامًّا يُحتكم إليه، ولم يعد هناك مجال للظلم مهما كان المرء ضعيفًا. كان الرسول هو الذي يتولَّى الفصل في المنازعات، ومن بعده كان الخلفاء الراشدون في صدر الإسلام يُبَاشِرُونَ القضاء بأنفسهم، وعندما اتَّسَعَت رقعة الدولة الإسلامية، واختلط المسلمون بغيرهم، وكَثُرت مهامُّ الخليفة، استدعى الأمر تخصيص المهام والمسؤوليات، شأن كل مجتمع أو أية مؤسسة آخذة في النمو، فتم تعيين قضاة مستقِلِّينَ ينوبون عن الخليفة في الفصل بين الخصوم وفض المنازعات..
بدء عهد الخلافة بتعهد بالعدل
حرص صديق الأمة أبو بكر الصديق على تطبيق العدالة وإحقاق الحق دومًا دون خوف أو تحيز لأي شخص كان. وعلى الرغم من رقته بالغة المنتهى قبل خلافته، إلا أنه تحول تحولًا جذريًّا إلى إنسان حازم لا يشق لحزمه غبار، وذلك فور توليه الخلافة بعد وفاة سيدنا محمد وكانت أفعاله مطابقة لتعاليم الإسلام، وقد استهل عصر خلافته ببيان تاريخي قال فيه: «الضعيف فيكم قوي عندي حتى أُرجع إليه حقَّه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله»، فهو بهذا البيان أعلن أن الدولة مسؤولة عن تطبيق العدالة. لقد طبّق سيدنا أبو بكر الصديق ما قاله بكل صرامة وحزم، وحَكَم بكل عدل وإنصاف. ونتيجة لتلك السياسة العادلة، بقي مجتمع المدينة المنورة خلوًا من الخصومات والنزاعات إلى حد بعيد. كما اتبع نهج رسول الله في الشورى، فكان يستشير الصحابة في القضايا المهمة. إذن فقد أدرك خلفاء النبي الخاتم أهمية هذا المبدأ، فأَوْلُوا القضاء الاهتمام الكافي لإرساء العدل، بل لم تكن المظالم أيضًا بالشيء الملحوظ، نظرًا إلى حداثة عهد الناس بنبوة سيدنا محمد الذي لم تنقضِ بعد على وفاته سوى بضع سنوات.
لقد طبّق سيدنا أبو بكر الصديق ما قاله بكل صرامة وحزم، وحَكَم بكل عدل وإنصاف. ونتيجة لتلك السياسة العادلة، بقي مجتمع المدينة المنورة خلوًا من الخصومات والنزاعات إلى حد بعيد. كما اتبع نهج رسول الله في الشورى، فكان يستشير الصحابة في القضايا المهمة. إذن فقد أدرك خلفاء النبي الخاتم أهمية هذا المبدأ، فأَوْلُوا القضاء الاهتمام الكافي لإرساء العدل، بل لم تكن المظالم أيضًا بالشيء الملحوظ
ديوان القضاء
لما أخذت مؤسسات الدولة الإسلامية الناشئة تتخذ طابع التخصص والتنظيم، وكان ذلك في عهد سيدنا عمر بن الخطاب ، أُنشئت دواوين حكومة الدولة الإسلامية، ومن بينها ديوان القضاء، الذي عني ببعثات القضاة إلى الأمصار والبلدان المفتوحة، لا سيما بعد أن دخل أهل تلك البلدان بأعداد ضخمة في دين الله أفواجًا، فمِمَّا ذكره المؤرخون المعتبرون بهذا الشأن مثلًا «ولَّى أبا الدرداء معه بالمدينة، وولَّى شريحًا بالبصرة، وولَّى أبا موسى الأشعري بالكوفة، وكَتَبَ له في ذلك الكتابَ المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة» (2).
ومما يؤثر عن حضرة الفاروق عمر أنه أنشأ نظامًا قضائيًا فعَّالًا مستمًدا تفاصيله من تعاليم الإسلام. لقد عيّن قضاة على المستويات كافّة. وكان أول من فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية. كما اختار القضاة على أساس الاستقامة والنزاهة والمعرفة في التشريع الإسلامي. لقد حصل القضاة في زمن سيدنا عمر على رواتب عالية لكي لا يخطر ببال أحدهم أن يلجأ إلى الرشوة أو إلى أي طريق ملتو آخر كسبًا للمال. واختير القضاة أيضًا مِن الشخصيات الاجتماعية المرموقة للسبب نفسه ولكي لا يؤثِر عليهم أحدٌ من علية القوم. لم يسمح للقضاة العمل في التجارة مطلقًا، وذلك إبراء لذمتهم أمام القانون.. لا جرم إذن أن حضرة عمر لإسهاماته البارزة تلك في سبيل إرساء شريعة القرآن بشكل نظامي، قد نال مِن لقبه (الفاروق) حظًّا وافرًا.
لقد أرسى سيدنا عمر مبادئ النظام القضائي عبر مجموعة مراسلات رسمية، وفي إحدى تلك المراسلات بينه وبين قاضيه المبتعث إلى أحد الأمصار، وهو أبو موسى الأشعري في عام 14 هـ، تضمنت الرسالة تفاصيل وشروط القضاء، والمبادئ التالية حيث قال: «بسم الله الرحمن الرحيم.. إنَّ القضاء فريضةٌ محكمةٌ وسُنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، ونفذ إذا تبيَّن لك؛ فإنَّه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له. وآس بين النَّاس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيفٌ في عدلك. البيِّنة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائزٌ بين المسلمين إلَّا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، ولا يمنعك قضاءٌ قضيته بالأمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهُديت فيه إلى رشدك، أن ترجع إلى الحق؛ فإنَّ الحقَّ قديم، ومراجعة الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك ممَّا ليس في كتابٍ ولا سنَّة، ثُمَّ أعْرِف نفسك الأشباه والأمثال، وقِس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق. واجعل لمن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بيِّنةً أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بيِّنةً أخذْت له بحقِّه وإلا وجَّهت القضاء عليه؛ فإنَّه أنفى للشكِّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلَّا مجلودًا في حدٍّ أو مُجرَّبًا عليه شهادة زور، أو طنينًا في ولاءٍ أو نسب» (3).
لقد حفظ التاريخ أسماء العديد ممن تولوا مناصب قضائية مرموقة خلال خلافة سيدنا عمر فمنهم:
-زيد بن ثابت، قاضي المدينة
-كعب بن سور الأزدي، قاضي البصرة
– عبادة بن الصامت، قاضي فلسطين
– عبد الله بن مسعود، قاضي الكوفة
– القاضي شريح، قاضي الكوفة
طلب القاضي من حضرة علي أن يُحضر دليلًا على امتلاكه الدرع، فجاء علي بابنه وعبدٍ له ليشهدا أن ذلك الدرع له. فرفض القاضي تلك الشهادة، مما أثار إعجاب وتقدير سيدنا علي بنزاهة القاضي وعدله.
نمو منظومة الحكم في عهد حضرة علي بن أبي طالب
تطورت مؤسسة الدولة بشكل عام في عهد حضرة علي بن أبي طالب ، وأخذ ذلك التطور يتجه نحو نظام اللامركزية في كل شيء، وحتى اللامركزية في القضاء. فعلى حين كان الخلفاء قبل حضرة علي يبتعثون القضاة إلى الأمصار، أسند حضرة علي مسؤولية تعيين القضاة إلى ولاة الأمصار، على أن يتخذوا كافة الاحتياطات لضمان نزاهة القضاة المعينين، وعهده (كرم الله وجهه) إلى مالك الأشتر وثيقة باقية تشهد على حسن سياسة الخليفة الرابع لجماعة المؤمنين الأولى، ويبلغ طول تلك الوثيقة أكثر من ثلاثة آلاف كلمة كُتبت في بضع عشرة صفحة، مما يعطينا تصورا عما تناوله سيدنا علي (كرم الله وجهه) من تفاصيل الحكم. ومما جاء في ذلك العهد المطوَّل والمفصل إلى مالك الاشتر حين تولى ولاية مصر:
«وفي عهد الإمام عليه السلام لمالك الأمر بإنصاف الناس في سياسته وإنصافهم من خاصة أهله والتابعين له، فإن ذلك من أسمى ألوان العدل الذي تبناه الإمام في حكومته، فجاء في عهده: «أنصف الله تعالى، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله تعالى، كان الله عز اسمه خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله تعالى أدحض، وكان لله تعالى حربًا حتى ينزع أو يتوب وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله تعالى وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله تعالى سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد»(4). فحكى هذا المقطع العدل الصارم في سياسة الإمام التي تسعد بها الأمم والشعوب وتكون آمنة من الظلم والاعتداء.
ومن المؤكد أن حضرة علي أرسل بتعليمات مشابهة إلى كافة ولاته الذين عينهم على الأمصار. هذا إلى جانب ممارسته مهام القضاء بنفسه في مركز الخلافة مرات عدة، كما كان الحال مع الخلفاء الراشدين السابقين (رضي الله عنهم أجمعين).
بعد معركة صفّين، فُقِد مِن سيدنا علي درعُه، ثم وجده بحوزة رجل مسيحي. وعندما طلب من الرجل أن يعيد الدرع، أصرّ الرجل على أن الدرع له. فرفع حضرة علي ذلك الأمر لقاضي الكوفة ليبُتَّ بالأمر. طلب القاضي من حضرة علي أن يُحضر دليلًا على امتلاكه الدرع، فجاء علي بابنه وعبدٍ له ليشهدا أن ذلك الدرع له. فرفض القاضي تلك الشهادة، مما أثار إعجاب وتقدير سيدنا علي بنزاهة القاضي وعدله. وبعد ذلك، جاء الرجل المسيحي لعلي وأعاد إليه الدرع معترفًا أنها له. كما أعجب ذلك الرجل بما جرى وقَبِل رسالة الإسلام على يد سيدنا علي فأهداه الدرع وحصانًا أيضًا.
-
(النساء: 59) -
ابن خلدون، العبر، وباب المبتدأ والخبر، 1-221 -
محمود شريف بسيوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، المجلد الثاني، دار الشروق، القاهرة، 2003 -
نهج البلاغة