
- ما هي يا ترى مبادئ العلم الحديث تلك؟
- كيف نجد لتلك المبادئ تأصيلا في القرآن الكريم؟
- أي وزر يتحمله المسلمون بهذا الصدد؟
____
في بدء رحلة الإنسانية الضاربة في القدم إلى آلاف السنين كان الدين مصدر العلم الأول، ولا نعني بالدين هنا ما قد يتبادر إلى أذهان البعض من أنه الفكر الديني بمدوناته وتفاسيره وآرائه الفقهية وما إلى ذلك، إنما نعني به جوهر الوحي تحديدا، والذي هو قاسم مشترك بين كل مظاهر الخلق بحسب الرتبة، فالله خالقنا أعطى كل الخلائق ما يلزمها لبدء سلسلة وجودها، كما نصت آي الذكر الحكيم:
، إذن فالحجر، والشجر، الحيوان والانسان، كلٌّ ينال من فيوض الوحي الرباني بحسب تقبله، وأعظم المخلوقات تقبلا لتلك الفيوض النورانية الكائن البشري، وعلى قمة الهرم البشري، يتربع الإنسان الكامل، ممثلا أعلى الخلائق على الإطلاق تقبلا للوحي، وهذا الوحي هو علم صاف، بل هو العلم الحقيقي.
ومن هذا المنطلق ننقاد إلى نتيجة مفادها أن سلسلة العلوم الإنسانية بدأت دون تمييز بين المعارف الدينية والعلوم الدنيوية، وكان المُشْتَغِلُ بهذا المحتوى ككل يوصف بالحكمة، فيقال له كاهن، أو حكيم، أو فيلسوف(2). فإذا كان الوحي، كما نقول، علمًا صافيًا حقا، لزمنا إثبات أن مبادئ العلم ومنطلقاته متضمَّنةٌ ومنصوصٌ عليها فيه، أي في الوحي، وأصفى أنواع الوحي التي نعرفها، كمسلمين أحمديين، تتمثل في القرآن الكريم، لذا فمن الأنسب إثبات صدق ادعائنا السالف من خلال الاستشهاد بالقرآن وحده، فهل تُرى القرآن ينص حقا على مبادئ العلم كما نقول؟ وأين تحديدا؟ ثم ما هي مبادئ العلم المتحدَّث عنها أصلا؟! كل هذا وأكثر، تفصيله فيما يأتي من سطور هذه الكلمة.
ومجرد دعوة القرآن إلى استكشاف الكون من حولنا هو بحد ذاته المبدأ الثالث من مبادئ العلم، وكان هذا كافيا لطمأنتنا بأن أسرار ذلك الكون قابلة للقراءة وفك الألغاز، وأن لا شيء يستعصي على الاكتشاف، لا سيما إذا كانت عملية الاستكشاف مؤيدة من الله تعالى
وعلى المسلمين دراسة الكون مع كل ما يتضمنه القرآن الكريم من أمور تتسق مع مكتشفات العلم الحديث، وعلى رأس تلك الأمور جملة من المبادئ الأساسية، أجملها حضرة المصلح الموعود في ثلاثة مبادئ علمية(3)، أولها مبدأ الزوجية، ومفاده أن كافة عناصر الخليقة تعمل بصورة الأزواج، وما من كائن منقطع النظير إلا الخالق سبحانه لا شريك له، وينص القرآن الكريم على هذا المبدأ في قوله تعالى:
فمن الزوجية على الجانب الحيوي المتمثل في الذكورة والأنوثة، إلى الزوجية على المستوى الذري المتمثل في صورتي الشحنة الموجبة والسالبة، إلى الزوجية على المستوى التركيبي العام لكافة مظاهر الخلق، والذي نلحظه في تألُّف كل ما حولنا من أشياء من مادة وطاقة، يتفاعلان معًا كزوجين تسير بهما حركة الكون، وهي زوجية عبرت عنها نظرية الكم بالمقولة العلمية الشهيرة:
ومن مبادئ العلم، التراكمية، فسلسلة العلوم ممتدة لأن الباحثين في كل عصر لم يبدأوا بحوثهم العلمية من الصفر في كل مرة، وإنما يبدأ كل باحث بحثه من حيث انتهى سابقوه، فالنتائج العلمية الحديثة مترتبة على ما قبلها. بل وسلسلة الخلق نفسها قائمة على مبدأ التسلسل وتراكم التغيرات ذاته، حتى إننا لا نراها الآن، وإنما ما نراه هو خَلَفُها بعد تراكم التغيرات، إن ظاهرة تراكم التغيرات هذه مذكورة في القرآن الكريم في قول الله تعالى:
وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى يتجلى في كل وقت بجلال وجمال جديدين، فسبحان ذلك الإله الذي لا تتعطل صفة من صفاته الحسنى! ومنها صفة «الخالق»! لقد عدَّ المصلح الموعود هذا المبدأ منة من خاتم النبيين ﷺ على الحركة العلمية الإنسانية ككل، إذ ارتبط دعاء ﷺ «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا»، في إشارة إلى أن زيادة العلم هذه أبرز مظاهر التراكم وتسلسل النتائج.
ومجرد دعوة القرآن إلى استكشاف الكون من حولنا هو بحد ذاته المبدأ الثالث من مبادئ العلم، وكان هذا كافيا لطمأنتنا بأن أسرار ذلك الكون قابلة للقراءة وفك الألغاز، وأن لا شيء يستعصي على الاكتشاف، لا سيما إذا كانت عملية الاستكشاف مؤيدة من الله تعالى. لقد وعد القرآن الكريم بأن أولئك الذين يتفكرون في القوانين الإلهية ويسعون إلى اكتشاف الحكمة المتأصلة في الكون سوف يمنحون بالتأكيد مفاتيح أسراره. سيفتح لهم طريق النجاح حتى يتمكنوا من فهم تعقيداته.(7) وإن النبي الكريم ﷺ هو أول من دعا إلى المبدأ القائل بأن الدين هو كلام الله والعالـَم هو فعل الله تعالى(8)، وكما أن المسلم يتعبد بتلاوة كتابه المسطور، فينبغي أن يتوازى ذلك مع قراءة الكتاب المنظور، أي النظر في الخليقة من حولنا، بحسب قول الله تعالى وإرشاده الواضح:
قارئ التقوى العزيز، يأتيك عدد هذا الشهر، ديسمبر 2024، محمًّلا بطاقة نورانية مركزة، إذ انبنت مواضيعه على القرآن الكريم ودعوة الإسلام وأثرهما في الثقافة العربية والعالمية، وفي أنفسنا والمحيط من حولنا، سواء كان ذلك المحيط ثقافيا أو اجتماعيا أو غير ذلك، فنتعرف ونُعرِّف العالم من حولنا، من خلال خطبة خليفة الوقت (أيده الله تعالى بنصره العزيز) بمَذْهَبِنَا وَاعْتِقَادِنَا في القُرْآنِ الكَرِيمِ، اسْتِنَادًا إِلى أَقْوَالِ سَيِّدِنَا المَسِيحِ المَوْعُودِ ، ثم ننطلق في جولة استكشافية في عمق الحضارة والثقافة العربيتين، والتي كان القرآن الكريم راسم ملامحهما ومحدد هويتهما منذ نزل، داعين الله تعالى أن يلهمنا خير ذلك الكتاب المبين، ويرزقنا ثمرات البحث فيه، وهو الرازق والمعين.
الهوامش:
- (طه: 50-51)
- «من نماذجِ إِحسان محمد ﷺ إِلى الإنسانية.
- المبادئ الثلاثة المذكورة في القرآن الكريم هي أساس العلم
- الذاريات
- Feynman، Richard (1964). The Feynman Lectures on Physics; Volume 1. U.S.A: Addison Wesley. ISBN:0-201-02115-3.
- (الرحمن 03)
- المبادئ العلمية (الثلاث) الأساسية المذكورة في القرآن الكريم، مرزا بشير الدين محمود أحمد
- مرزا بشير الدين محمود أحمد (رحمة للعالمين ص 16 – 36)
- (آل عمران: 191-192)