- هل تستند هذه العقيدة السائدة إلى مبدأ قرآني؟
- ما هو المفهوم الإسلامي الحقيقي للآية من سورة التوبة قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا
__
إن الصعوبات والنكسات التي تواجهها أمتنا العربية والإسلامية الغالية على قلوبنا جميعًا في الوقت الراهن، تبرهن بشكل جلي على أن انحرافًا كبيرًا في جوهر المفاهيم والقيم الإسلامية قد تمكن من الجسد الإسلامي. فلقد ساقتنا الأقدار إلى زمن أصبح فيه الإنسان المسلم في حالة من التخبط والضياع بحيث أخذ يعلق أخطاءه وزلاته على خالقه متمسكًا بقشور المفاهيم السائدة عوضًا عن الغوص في جوهر وحقيقة الحالة المتردية التي وصل إليها.
ولست أبالغ في ذلك فاليوم أصبحت عبارة (المكتوب على الجبين لابد أن تراه العين) هي المنطق السائد في أذهان العامة. ويبدو أن الناس وجدوا في هذه العبارة خلاصًا من الغموض الذي يحيط بتردي الجانب الروحي في حياتهم وغياب الأجوبة المنطقية عن أسباب نكساتهم. ففي كثير من الأحيان نجدهم يعزون السقطات الروحانية التي يواجهونها في حياتهم إلى أن الله سبحانه قد قدر عليهم فشلهم هذا وتدنيهم في السلم الروحاني وأنه كان مقدرًا من الأزل أن يعيشوا ذلك الواقع المر فالمكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين (كما يرددون)!!! ومن الأمور المؤلمة التي تدل بشكل لا يداخله شك أننا في عالمنا العربي والإسلامي بحاجة إلى وقفة متأنية مع الذات لتدارك أمراضنا، إننا نجد الكثيرين ممن أعطيت لهم الفرصة في هذا الزمن الأخير ليسموا علماء، نجدهم يدعمون هذه الفكرة الحاثة على مبدأ التسيير الإلهي للمخلوق لا التخيير، باستشهادهم بالآية الكريمة من سورة التوبة
وكي أضع القارئ الكريم أمام الصورة المشوهة التي كرسها هؤلاء العلماء سأعود إلى المفهوم الذي جاء به سيدنا الإمام المهدي أحمد ويدرسه علماء الجماعة الإسلامية الأحمدية ويعمل عليه الأحمديون وهو ذات المفهوم الذي فهمه سيدنا الأكرم محمد وأصحابه رضوان الله عليهم كما سيتضح فيما بعد.
إننا إذا عدنا إلى تسلسل السورة الموضوعي وسياقها وسباقها سنجده ينفي تمامًا مبدأ التسيير الذي رسخ في أذهان العامة، بل سنجد أن الآية تتحدث عن أمر آخر وهو حض المؤمنين على مجاهدة المشركين وقتالهم.
ويبدأ هذا الحض على القتال من قوله تعالى:
ثم يضيف سبحانه:
ونفس المغزى نجده في قوله تعالى:
وقوله:
ومن ثم نلاحظ أنه سبحانه يندد بالمنافقين الذين يعرقلون سبل الجهاد خشية عواقبه فيقول تعالى:
ويضيف سبحانه:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا (التوبة: 47).
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُون (التوبة: 50).
فالمنافقون لا يميزون بين غزو الجاهلية والجهاد في سبيل الله وذلك لضعفهم الروحاني فالأمر بالنسبة لهم مجرد ربح أو خسارة غافلين عن صلة الجهاد في الإسلام بوعود الله وأقداره الخاصة التي قضاها بحق رسله وأنبيائه الكرام ومن تبعهم من المؤمنين. إنه ينبه أذهان هؤلاء إلى الفرق الكائن بين الغزو والجهاد وأن النصر معقود لمن آمن به وجاهد في سبيله، وهذا ما تضمنه القانون القدري الخاص الذي يشير إليه سبحانه في قوله:
وهنا علينا أن نتذكر أن القرآن الكريم حين وصف لنا الله تعالى أنّه (رب العالمين) فقد نبهنا إلى عمل ربوبيته حيث أن ربوبيته تقتضي أن يشرف علينا ويطورنا، ويتدخل في مسار حياتنا كما يفعل رب الدار مع أبناء بيته. وأن لفظ (العالمين) يشير إلى احتواء ربوبية الله تعالى على جميع عوالم الجمادات والنباتات والحيوانات والأجرام الفلكية أيضًا. وقد أفهمنا سبحانه من خلال عبارة (رب العالمين) أنه لا يقوم بهذه المهام بنفسه، بل بواسطة أنبيائه ومرسليه وملائكته. وقد اقتضى بعث الأنبياء والمرسلين، سنّ قوانين لحمايتهم، وفق تقدير كوني ليمكنهم من أداء رسالات ربهم، على الوجه الأكمل وذلك لحماية مرسليه من بطش مكذبيهم.
وقد أطلعنا على القانون الذي سنّه لحماية أنبيائه ومرسليه، كقدر كوني خاص اتخذه لحمايتهم وذلك في الآية السابقة من سورة المجادلة، فهو سبحانه قال:
أي أن الذين يناصبون الله ورسوله العداء ويغاضبونهما ويخالفونهما، ويرتكبون من المعاصي ما يثير سخطهما ويستهدف غضبهما، لا بد أن يؤول مصيرهم إلى الهوان والمذلة لوجود قانون كوني خاص لحماية المرسلين معبر عنه بالآية:
وقد أضاف سبحانه صفتي (قوي عزيز) تنبيهًا للأذهان إلى أن الذي سنّ هذا القانون القدري هو الله، وقد سنّه من منطلق قدرته على توجيه خواص الأشياء الوجهة التي يريدها، لأنه هو مفوضها إلى الأشياء، وهو المهيمن على نتائجها وآثارها. وهو (عزيز) أي منيع لا يطال ألوهيته ومشيئته شيء من الأشياء، ولا يستطيع أحد الوقوف على طريق إرادته.
ولذلك نجد أنه سبحانه يتوجه بالخطاب إلى رسوله الكريم ليرد على المنافقين ويقول:
والملاحظ أيضًا وجود لفظ (كتب) في الآيتين السابقتين وهي بمعنى قرر وقضى، ولم يستعمل سبحانه لفظ (كتب الله علينا) بل قال (كتب الله لنا) أي لمصلحتنا ولو استعُملَ لفظ علينا لجاز الأخذ بما استدل به أصحاب مبدأ التسيير.
وهو سبحانه ينبه المنافقين في هذه الآية بشكل حاد حين يلزمهم بضرورة الانطلاق في تفكيرهم وخطواتهم من عقيدة القضاء والقدر الإيمانية وإلا فلن يكون هناك فرق كبير بينهم وبين أعداء الإسلام. فالمؤمن ينطلق في قتاله من اعتقاده أن ربه قد كتب على نفسه
إن كلمة (مولانا) في الآية:
لا تعني سيدنا بل إن المولى هو المالك والحليف والشريك والرب والمنعم والمحب. وهذه المعاني كلها تصدق على هذه الآية الكريمة، وكأنه سبحانه يحثُّ رسوله ليقول للمنافقين: إن الله ربي وشريكي في مقاتلة الكفر والشرك، وهو حليفي في هذا الصراع، وهو مالكنا جميعًا، والمنعم علينا، فهل يعقل أن يخذلني حليفي؟ كلا بل يستحيل إلا أن ينصرني على المكذبين. وتأكيداً لهذا المعنى أضاف جل شأنه قوله
ولا يعني التوكل ترك الأمر إلى الله تعالى، بل التوكل معناه أن يثق المؤمن بما عند الله تعالى، فيعتمد على تأييده، وأن ييأس مما في أيدي الناس، ذلك أن معنى التوكل يختلف عن معنى التواكل المذموم.
وأيضًا ليعلم المؤمنين أنه سبحانه هو موضوع ثقتهم وبإمكانهم الاعتماد على تأييده ونصرته لتحقيق الغلبة والنصر على الأعداء. وما يؤكد أن هذا المعنى هو ذات المعنى الذي فهمه الرسول الكريم محمد ، ما قام به محمد عندما أمر أصحابه في معركة أحد أن يردوا على أبي سفيان، الذي كان قد خيل إليه أنه حقق النصر على المسلمين، أن يردوا عليه بملء أفواههم (الله مولانا، ولا مولى لكم). فهو أمر أصحابه أن يرددوا ذات ألفاظ آية سورة التوبة التي نحن بصددها، بقصد تخييب أمل الكافرين بالنصر، وتنبيهًا إياهم إلى أن المسلمين سيقاتلونهم حتى النصر المبين.
وهكذا نجد أن هناك هوة كبيرة بين هذا المفهوم الذي تؤمن به الجماعة الإسلامية الأحمدية والذي ينعكس إيجابيًا على تصرفات أفرادها، وبين المفهوم السائد في أذهان معظم العرب والمسلمين من أن الإنسان مسيَّر في حياته. ومن المحزن حقًا أن يحمّل أناس هذا الزمن الأخير الآية الكريمة من سورة التوبة مالا تحتمل ويحرفونها عن مفهومها الحقيقي الذي جعل المسلمين الأوائل يثقون بالله ويعتمدون عليه لتحقيق نصرهم على أعدائهم وصعودهم درجات الرقي الروحاني.