الحياة بعد الموت

العلم الحقيقي عن الحياة بعد الموت يمكن الحصول عليه بواسطة الوحي فقط. وقد وصف النبي الحياة بعد الموت بقوله: هي “ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر” (البخاري). وحتى بواسطة الوحي يحصل الإنسان على علم الحياة بعد الموت بلغة المجاز والرموز. وكل توضيح عن حالات تلك الحياة يرتكز على المشابهة فقط.
وحياة الإنسان على الأرض ليست بحد ذاتها حياة متكاملة وتامة. وكثيراً ما يبدو عند الموت وكأنها قد انتهت كما لو قطع شريط وظل طرفاه يلوحان في الفضاء بلا وظيفة. ولو لم يكن هناك شيء لاحق وتابع فإن تناسق القيم في هذه الحياة سيخلو من أي معنى ويصبح في الحقيقة غير عملي أبداً، ولن يكون هناك حساب ولا مسؤولية، وفوق ذلك لن يكون هناك كمال أو تمام لتطلعات النفس البشرية وحنينها العميق، وكل إدراك أو فهم ممكن في هذه الحياة لا يتجاوز أن يكون بصيصاً من الاختبار.
إن الإسلام يصر على الإيمان بالحياة بعد الموت، هناك معتقدات يعتبرها الإسلام أساسية، لكن الإيمان بالحياة بعد الموت يعتبر ملازماً بوجود الله تعالى: فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:
فبدون الإيمان بالحياة بعد الموت لا يبقى معنىً للإيمان بالمرة، وإن غياب مثل هذا الإيمان لا يتفق مع الإيمان بالله بل يعتبر بمثابة إنكار لوجوده تعالى.
ولطالما قال الإنسان لنفسه:
ثم جاء:
والحقيقة أن الإنسان بل الكون بأسره قد خُلق من لا شيء. وإنه لمن الخطأ القول، بناءً على اختباراتنا الشخصية، بأن الإنسان يموت ويفنى جسده، وأن وجُوده وشخصيته ينتهيان بموته. إن في خلق الإنسان وحياته لبرهاناً على أن هناك إمكانية الاستمرار.
وحينما نلاحظ عملية خلق الإنسان الطويلة بالمقارنة مع نصل إلى النتيجة الحتمية بأن الإنسان إنما خُلق لغاية، وأن تحقيق تلك الغاية يتطلب استمرار الحياة. فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز:
إنه لمن الخطأ القول إن استمرارية الحياة بعد الموت عبارة عن جمع عظام الأجساد وعناصرها بعد أن بَلِيَتْ وانحلتْ ثم إنشاء جسد جديد منها. فالجسد الذي أُنشئ من أجل الحياة الأرضية مهيّأٌ ومُعَدٌ لهذه الحياة. وإن الحياة بعد الموت لا تعني، ولا تعني، بأن الأموات سيُحشرون وينشؤون بأجسادهم ثانيةً على الأرض. وحتى لو سلمنا بإمكانية ذلك فإن الكرة الأرضية لا يمكن أن تستوعب أو تتسع لواحد من مليار منهم. لذا فالنتيجة هي أن فساد وانحلال الجسد البشري لا علاقة له، ولا يمكن ربطه بإمكانية الحياة بعد الموت.
يلفت القرآن الكريم الانتباه إلى ظاهرة النوم والأحلام ليبين لنا أن الإنسان قابل لتلقي الاختبارات والانطباعات بدون مشاركة جسدية سواء في المكان أو الزمان. ولكون هذه الاختبارات جزءاً من هذه، فإن الصلة ما بين الروح والجسد قائمة دون شك، ما دامت هذه الاختبارات قائمة، إلا أن علاقتها الفيزيولوجية قد تحولت، وهناك إدراك تام أن الجهاز بكامله، أي الجسد والروح، مشترك في هذه الاختبارات. فالقرآن الكريم يقول:
إن التحذير والطلب لأن نتدبر في الآيات التي تشير إليها هذه الظاهرة يتضمنان إشارة واضحة أن الإنسان بمقدوره أن يصل إلى إدراك طبيعة النفس وتفاعلها وحالتها بعد الموت، وذلك بالتفكير والتأمل في اختباراته أثناء النوم.
أثناء النوم يسترخي الجسد في السرير لكسب الراحة، ويكون في حالة من الحيوية المنخفضة. بينما تجتاز النفس اختبارات وتتلقى انطباعات تترك أثرها عليها بحسب ضخامة الاختبارات ومداها، وبعض هذه الاختبارات تكون واضحة جلية بحيث تترك أثراً دائما على الشخصية. وهذه الاختبارات لا تقتصر على الأحلام حين تكون فعالية الجسد قد انخفضت إلى الحد الأدنى وحين لا يكون الإنسان الذي يجتاز الاختبار على وعي مما يجري خارج نطاق الاختبار، بل وفي حالات عديدة يمر الناس باختبارات متشابهة حتى في حالة اليقظة التامة، رغم أنه في تلك اللحظة يكون هناك تراجع عن فعاليات أخرى سواء كانت عقلية أو جسدية. وهذه على العموم يطلق عليها اسم تنبؤات. والأحلام والتنبؤات يجب ألا نخلطها بالأثر الذي يحدث على وعي الإنسان بتأثير التنويم المغناطيسي. فذلك الاختبار من نوع آخر يختلف كليةً بحيث أصبح من المسلّم به اليوم أن مثل هذا الأثر أو التسلط يمكن إحداثه وتطويره من خلال التركيز والممارسة كأي مهارةٍ أو قدرة أخرى. والقرآن يستدعي انتباهنا إلى ولادة الإنسان الجسمانية في هذه الحياة ليشرح لنا عملية الولادة من جديد، تلك التي تنتقل فيها الروح بعد الموت. يقول الله تعالى بهذا الصدد في كتابه العزيز:
وهناك يلفت الله تعالى الانتباه إلى عملية خلق الإنسان في هذه الحياة. فاللحم والعظام والعضلات والدم والمخ بل جميع القوى وكل الجهاز البشري المعقد المنسق بدقة كلها تكون عالَماً كاملاً، وجميعها مشتملة عل ما هو أقل من جزء من مليون من قطرة سائل. فالخلّاق الحكيم يعلم ما يفعل. وحسب القواعد العديدة التي وضعها سبحانه فإن هذه القطرة من السائل تمر بخلق جديد حين ولادتها ثم تنمو لتصبح إنسانا عاقلا قادراً لأن يرتقي إلى أعلى الدرجات في جميع المجالات وميادين الحياة، بينما تكون النفس مركز هذه العملية كلها. والجسد جزء أساسي في هذه الحياة بأحوالها الخاصة. وإلى حد معين يظل الجسد والنفس وحدة لا تتجزأ، ثم تأتي ساعة الموت، فيحدث الانفصال ما بين الجسد والروح وتنتهي الحياة على الأرض. لكن ذلك لا يعني نهاية الحياة نفسها. في ساعة الموت ينتهي عمل الجسد. ولولا الاعتبارات الأخلاقية والأدبية واحترام الميت فإنه ليس من الأمر المهم بذاته كيف يكون التخلص من ذلك الجسد الميت. عندها تدخل الروح في عملية ولادة جديدة تأخذ خلالها شكلاً جديداً، ويتكون جهاز آخر يتناسب مع أحوال ومتطلبات الحياة الجديدة. وهكذا “تُحيا العظام” ولكنها تحيا من الروح ذاتها. وقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يشير إلى أن “إحياء العظام” سيكون خلقاً من نوع جديد. فالخلّاق الحكيم القدير الذي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، وخلق الكون بأسره من اجل تحقيق الغاية لخلق الإنسان، قادرٌ على أن يهب النفس البشرية الإمكانية لأن تتطور إلى بنية جديدة، وهو سبحانه قادر على نقل هذه الروح إلى عالم آخر تحقّق فيه غايتها.
يقول الله تعالى:
وقوله تعالى: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ يشير إلى المرحلة التي يتم فيها التحام الجسد بالروح. وبعد الموت تمر الروح بعملية مشابهة حين “تُنشأ خلقا آخر”. وبالإشارة إلى الحياة الأكمل تكون الروح عند الموت في حالة شبيهة بحالة النطفة. إنها تمر بحالة يمكن تشبيهها مجازاً بالرحم حيث تتطور القوى التي قد تحتاج إليها وتكون مناسبة لحالات الحياة الأخرى. إن ميلادها لحياة جديدة بعد مرورها بعملية تكوين قواها، وحتى قبل الوصول إلى تلك المرحلة تكون الروح حية في ظروف وجودها الجديد، قادر على التفاعل بشكل بدائي كما يتفاعل الجنين داخل الرحم.
يقول الله تعالى:
هناك جواب واحد لهذا السؤال: بَلَى، إنه قادر، لأنه سبحانه هو الخلّاق العليم.
إن الذين ينكرون الحياة بعد الموت إنما يفعلون ذلك لأنهم يكرهون أن يتأثر حكمهم بالحقائق. هؤلاء المتكبرون المتغطرسون يرفضون حتى حكم الله عليهم، ويرفضون استمرارية الحياة بعد الموت والمثول أمام الله لحسابهم عما فعلوه في هذه الدنيا. يقول تعالى:
أما الذين يصرون على الإنكار فيحذرهم الله بقوله:
والقبر هنا لا يعني القبر الذي يُدفن فيه الجسد عند الموت، لأنه لا تدفن جميع الأجساد في قبور، فكثير منها تُحرق، والبعض تلتهما الوحوش المفترسة، والبعض تموت في حرائق، بينما البعض تموت غرقاً، القبر يُشير هنا إلى المرحلة التي تمرُّ بها الروح بعد الموت حتى البعث. وهذه المرحلة توازي المرحلة التي يمرُّ بها الجنين حين تتكوّن فيه الأعضاء والقوى اللازمة على الأرض. ويظهر من قوله تعالى أن الروح في هذه المرحلة لا تكون مجرَّدةً من الحسِّ والإدراك حيث جاء:
كذلك بالنسبة للمتقين يقول الله تعالى:
من الواضح أن حالات الحياة بعد الموت يمكن شرحها إلى حدٍّ ما بلغة البشر، إلا أنها ليس لها نفس الطبيعة كما في حالات الحياة الدنيا. فبالمقارنة مع حالات هذه الحياة فإنّ الحياة بعد الموت حياة روحيّة محضة، ومع ذلك فإنّ حالاتها ظاهرة بحيث يمكن أن نشعر بها ونختبرها وندركها أكثر مما نشعر وندرك حالات هذه الحياة على الأرض. ولكنه من المحال أن ندرك بقوانا الحالية طبيعةَ الحياة بعد الموت بالمعنى الصحيح. كل ما يمكن هو أننا نحاول أن نفهم بالبديهة طبيعة تلك الحياة. وكما قال النبيُّ إنّه من المستحيل للعقل البشري أن يُدرك حقيقة تلك الحياة بصورةٍ كاملة صحيحة. كذلك يقول القرآن الكريم:
يتبيَّن لنا من دراسة القرآن الكريم أنّ كل إنسان من خلال سلوكه وتصرُّفه في هذه الحياة تنشأ في نفسه خصالٌ أو عيوب تجعلها قادرةً على أن تتقبّل وتستمتع بحالات الحياة بعد الموت أو تجعلها تتفاعل بألم مع الحالات. فنرى مثلاً الجسم الصحيح يتفاعل بسرور مع حالات هذه الحياة ويجدُ فيها متعةً وسعادة، بينما نرى الجسم المريض المعتلّ يتفاعل بألم مع حالات هذه الحياة التي تؤثِّر فيه تِبعاً لذلك. مثلاً أشعة الشمس تنشِّط الأعين الصحيحة وتكون مصدر سرور لما تقدِّمه من تسهيلات في تعامل الناس وقيامهم بواجباتهم وأعمالهم اليوميّة. لكن هذا الجمال والرونق الذي تُفضيه أشعة الشمس يصبحُ مصدر ألمٍ شديد وقلقٍ بالغٍ لمن أُصيبت أعينهم بالرمد إلى حدّ أنّهم إنْ لم يُحَلْ بينهم وبين الشعاع بسرعة فإنهم يتعرَّضون لمعاناة وجراح أليمة إلى درجة فقدان البصر كلية. والشيء نفسه يمكن أن يُطبَّق على الحواس الأخرى كالسمع والشمّ والذوق واللَّمس والتأثُّر بالحرِّ والبرد وحاسة العضلات.
مثل هذا نرى في الحواس الروحية. فإنّ تفاعل النفس في الحياة الأخرى يتأتّى بحسب الحالة التي تنتقل فيها إلى تلك الحياة. فالنفس المريضة ستتفاعل بألمٍ شديد مع حالات الحياة بعد الموت. قد تُعاني من عذابٍ لا يُوصف وذلك بحسب درجة المرض الذي أصاب قواها من خلال حياتها على الأرض. أما النفس الصحيحة فتتفاعل بسرور مع حالات الحياة الأخرى كلها. يقول تعالى:
وهذا المفهوم نفسه يعبِّر عنه القرآن الكريم بصورة أخرى بقوله تعالى:
وهذا يعني أنّ الذي يدخل الحياة بعد الموت بنفسٍ مريضة فإنّه سيلاقي ألماً ومعاناةً لأمدٍ طويلٍ، ولا يكون بمقدوره التخلُّص من هذا الألم عن طريق الفناء الكُلّي، لأنّ النفس لا تموت ولا يعتريها الفناء، ولن يستمتع بكامل السرور من خلال هذه الفترة من الآلام، لأنّ وجوده سيكون مجرّد سلسلة من البؤس والعذاب. ثم يقول الله تعالى:
فهؤلاء الناس الذين تبقى أنفسهم طاهرةً أو بعبارة أخرى أولئك الذين يُنمّون قواهم الروحية أثناء هذه الحياة إلى درجةٍ من الطهارة هي درجة العافيةَ التَّامّة للنفس، هم الذين سيختَبِرون تفاعلاً روحياً من السعادة والنعيم. وهذا التفاعل يعتمد على مدى الانضباط الذي حقَّقته النفس في هذه الحياة.
هذا المفهوم بكامله يشرحه لنا القرآن الكريم بالتفصيل حيث يصف أنّ نتائج أَنْماطٍ معيّنة من السلوك في هذه الحياة كالعيبِ والقُصور، تؤثِّر على النفس في الحياة الأخرى. مثلاً يقول القرآن الكريم أن الأعمى في هذه الحياة يكون أعمى في الحياة الآخرة لقوله تعالى:
وهذا بالقطع لا يعني أنّ من كان في هذه الحياة أعمى فيزيولوجياً سيكون أعمى روحياً في الحياة الأخرى. فالعَمى المقصود هنا العَمى الروحي. فالذي فشِل في تنمية بصيرته الروحية في هذه الدنيا سيدخل الحياة الأخرى أعمى، كقوله تعالى:
وهذا يُظهِر لنا بالوضوح بأنّ من يُقصِّر في التّأمُّل والتدبُّر والحذر فإنه يحرم نفسه تدريجياً من النظرة الروحية فيصبح أعمى روحياً. ومثل هؤلاء يواجهون نتائج إهمالهم وإِعرَاضِهم وسيصرخون قائلين:
فالذي ينمِّي في نفسه ميِّزةَ التأمُّل ويتفكَّر فيما يشاهد ويستخلص العِبَر والنتائج الصحيحة مما يشاهد، فإنّه يشحذُ بذلك نظرته الروحيّة. فيدخل الحياة الأخرى وهو في حالةٍ تمكِّنه من التمتُّع بالسرور إلى أبعد الحدود، وهو يتفاعل مع حالات الحياة الأخرى.
كذلك جاء أن أولئك الذين يتولَّونَ السلطة ثم يُسيئون التصرُّف بها، فَيُحدِثون في الأرض الفساد والقطيعة بين الناس بدل أن يوثِّقوا بينهم العلاقات الحسنة، هؤلاء سيصابون بالصَممِ والعَمى الروحي، لقوله تعالى:
ثم إنّ المداومة على مثل هذا المسلك تحرم صاحبه من الاستعداد لتقبُّلِ النصح الحسن أو استخلاص الدروس من تأملاته وتفكيره، فيصبح متغطرساً ظالماً لا يتحملُّ السؤال أو النقد على حُكمه وطريقة ممارسة السلطة.
وعلى نفس المنوال فإنّ الذين يصدُّون عن الهداية الربَّانية ويغمضون عيونهم يضيِّعون نظرتهم الروحيّة. يمكن أن يتكبَّر المرء ويتعالى بسبب فهمه الحاذِق ونظرته الحادّة، بل ومن الممكن أن يعتبر نفسه غيرَ مُحتاجٍ لهداية أحد، ولكنه بإعراضه عن الهداية الربَّانية يهدم في الواقع نظرته الروحيّة. يقول تعالى:
يشرحُ لنا القرآن الكريم أنّ كلّ عملٍ للإنسان يترك أثره على النفس، وحينما ترتحل النفس إلى الحياة الأخرى ينتقل معها كلُّ ذلك الأثر، وتتفاعل النفس في تلك الحياة بحسب ذلك الأثر. ثم تُعرَضُ أمام الإنسان أعماله كأنّها كتابٌ مفتوح، ويُطالبَ أن يقرأَ ذلك الكتاب، ويسلك حسبما جاء فيه، ويكون تفاعله بمقتضى ذلك التسجيل. ثم على ضوء هذا الكتاب يقدِّم بنفسه تقريراً عن حياته التي قضاها على هذه الأرض. وبحسب هذا التقرير يتعيَّنُ جزاءه أو عقابه لقوله تعالى:
حالة عناصر النفس، وهي تدخلُ حياتَها الجديدة، تكون كحالة قواها الروحية حين موتها، وبمقتضى ذلك يكون تفاعلها مع حالات الحياة الجديدة. وهذا التفاعل يكون برهاناً قاطعاً على سلوك الإنسان وأفعاله في هذه الدنيا. فالأُذنُ أو العين أو اللِّسان أو الجلود المريضة روحياً، من خلال تفاعلها مع أوضاع الحياة الجديدة، ستشهدُ على سوءِ استعمالها واستغلالها في هذه الحياة. يقول الله تعالى:
من المؤكَّد أن الإنسان إذا عاشَ جميع أوقاتِ حياته واعياً أنّه تحت نظر الله، فإنّ ذلك يكون أقوى رادعٍ له عن الشرِّ وأكبر حافزٍ على عمل الخير. فالذين يحيَونَ حياتهم وهم على وعيٍ تام أنهم تحت نظر الله في كلِّ لحظة سيدخلون الحياة الجديدة وهم في تمام العافية الروحيّة، وسيكون تفاعلهم مع الحياة الجديدة تفاعلَ سرورٍ فقط. يقول تعالى في كتابه العزيز:
الجنة والنار ليستا منفصلتين بل هما متصلتان. يقول القرآن الكريم بأنّ الجنة عرضها السماوات والأرض:
وسُئِل النبيُّ : “إذا كَانَت الجَنَّةُ عَرْضُها السّمَاواتُ والأرْض فأينَ مكانُ النَّار؟” فأجابَ النبيُّ بِسؤالٍ آخر: “حينَ يكونُ النَّهارُ فأينَ يكونُ الليل؟” والليل معناه غياب النور. والنار هنا تعني حالة النفس التي مَرِضت قواها واعتلَّت والتي يكون تفاعلها تَبعاً لذلك أليماً بعكسِ النفس الصحيحة التي يأتي تفاعلها سارَّاً وحسناً.
من المؤكَّد أن الإنسان إذا عاشَ جميع أوقاتِ حياته واعياً أنّه تحت نظر الله، فإنّ ذلك يكون أقوى رادعٍ له عن الشرِّ وأكبر حافزٍ على عمل الخير. فالذين يحيَونَ حياتهم وهم على وعيٍ تام أنهم تحت نظر الله في كلِّ لحظة سيدخلون الحياة الجديدة وهم في تمام العافية الروحيّة، وسيكون تفاعلهم مع الحياة الجديدة تفاعلَ سرورٍ فقط.
صحيح أنّ الاصطلاح متى تكرَّر استعماله يخلق في الفِكر خيالاً وتصوُّراً ما، ولا مناص من ذلك في حالات وجود النفس البشريّة في هذه الحياة، وإنّ اللغة الوحيدة التي يفهمها الإنسان هي اللغة التي اعتاد عليها، وأنّه بواسطة الاصطلاحات والشرح فقط يمكن القيام بتجربة تقريب العقل البشري من فهم الحالات والتي في حقيقتها فوق إدراك الإنسان.
ويشرح القرآن لنا أنّ حالات الحياة بعد الموت ستكونُ استعراضاً صورياً لأفكار الإنسان وأهدافه وأفعاله في هذه الحياة وثمرةً لها. يقول الله تعالى:
وهذا يُظهِر أن الأتقياء حين تُقدَّمُ لهم الفاكهة في جنّات الحياة الأخرى فإنهم سيرونها وكأنها شيءٌ قد استمتعوا به في هذه الحياة أيضاً، ويتذكّرون السرور الروحيّ الذي اختبروه في هذه الحياة، ويدركون الشبه ما بين هذه الفاكهة وما يُقدَّم لهم من فواكه الجنّة. وبالطريقة نفسها يُقال إنّ الأتقياء سيكون بمقدورهم أن يختاروا في الحياة بعد الموت الفاكهة التي يحبُّونها واللّحم الذي يشتهونه. وهنا اللَّحم المشار إليه هو “لحمُ الطير” لقوله تعالى
والطير في الاصطلاح القرآني يعني “السلوك” أو العمل أيضاً. لقوله تعالى:
وهنا أيضاً فإنّ الإشارة إلى الفاكهة ولحم الطير تعني ثمار ونتائج الأعمال الصالحة. يقول تعالى:
تبدأ الآية بالقول بأنّ هذا إنما هو شبيهٌ بالجنّة التي وُعِدَ المتَّقون. وأنها تعني بعض الأحوال والخِصال الروحيَّة. مثلاً الماء يعني الرخاء في كلِّ شيء. واللَّبن يعني العلم بالصفات الإلهيّة. والخمر تعني حُبَّ الإنسان لله تعالى، (ويُقال أحياناً أنّ شخصاً ما سَكِرَ وثَمِلَ بالفرح أو الحبّ لأحدٍ أو لله تعالى)، والعسل يعني فضل الله ورحمته.
وفيما يتعلَّق بذكر الخمر في هذا السياق يجب ألا يغيبَ عن البال أن هذه الخمر ليست الشراب المـُسكِر، فالقرآن يصفها:
وكذلك
وبعكس ذلك فإنّ عذاب الأشرار وُصِفَ كأنّه:
وذلك يعني بوضوح أن ذلك عاقبة السلوك السيّئ الذي حسْبَ القانون الإلهي يأخُذ صِبغةَ النار الموقدَة التي تَطَّلِعُ على الأفئدة فتسبِّبُ عذاباً بالقلب.
يشير القرآن الكريم مثلاً إنّ لجهنم سبعةَ أبواب لقوله تعالى:
وجهنّم هنا لا تعني مكاناً ماديَّاً معيَّناً، والأبواب المذكورة لا تعني سوى طرقٍ للتوجُّه أو وسائل للدخول. والرقم سبعة أو سبعون طالما تُستعمل بالعربية لتعني الكَثرة. وحتى لو اعتبرنا أنّ “سبعة” لها في هذا المجال أهميّة قليلة يمكن القول أنّ العذاب المتعلِّق بمعنى جهنّم سيتحقَّق بواسطة حواسٍ سبع: النظر والسَمع والشمّ والذوق واللَّمس والإحساس بالحرِّ والبرد وما يسمَّى بحسِّ العضلات أو الشعور بالتعب. والقرآن يُشير إلى أنواع العذاب المتعدِّدة التي قد تُلاقيها النفس وحين يرى الظالمون العذاب يدركون أنّ القوة لله فقط وأنّ الله شديدُ العِقاب. يقول تعالى:
وأنّهم سيسمعون أجيجَها عن بُعد لقوله تعالى:
وسيشربون ماءً حميماً يتجرَّعونه ولن يَقدِروا أن يبتلِعوه لقوله تعالى:
وسيكون طعامهم جافّاً وحارَّاً وعُشباً ذا أشواك لا يُنعِشهم ولا يسدُّ جوعهم، لقوله تعالى:
وستكون جهنّم لهم سريراً وغطاء، وسيصيبهم العذاب من خلال حاسَّة اللَّمس، لقوله تعالى:
وحين يُلقى بهم في مكانٍ معيّن ضيِّق مُكبَّلين بعضهم ببعض سيتمنّون الموت، ولكن الموت لن يصل إليهم لقوله تعالى:
شربهم سيكون إمّا بارداً جداً وإمّا مغليَّاً فلن يستطيعوا شربه، وسيعانون من أنواع أخرى من العذاب متشابهةً، لقوله تعالى:
وسيُعذَّبون بسلاسل من حديدٍ لقوله تعالى:
وبعض الوجوه ستكون منهوكةً ذليلة، لقوله تعالى:
ولكن العذاب الأشدّ هو بأنّ الله لن يُكلِّمهم ولن ينظر إليهم ولن يُطهِّرهم، لقوله تعالى:
وقوله تعالى:
وستكون هذه الاختبارات أشدَّ رُعباً وعذاباً من أيِّ اختبارٍ آخر. فسيدركون بصورةٍ لم يسبق لها مثيل أنهم وَضَعوا أنفسهم في طرفٍ مُغاير ومناقضٍ للغاية التي خُلِقوا من أجلها، وهي أن يكونوا مظهراً وصورةً للصفات الإلهيّة، لقوله تعالى:
أما الحالات التي سيجد المتَّقون أنفسهم فيها، وسيكون تفاعلهم مع هذه الحالات مبْعَثَ سرورٍ وهناءٍ لجميع قواهم وحواسِّهم فهي أنَّ وجوههم ستشعُّ فرحاً وسيكونون راضين مما عملوا لقوله تعالى:
وكذلك
وأيضاً:
كذلك:
وستُحيِّيهم الملائكة بتحية:
ولن يُعانوا من قسوةِ الحرِّ أو البرد:
وسيسقيهم الله شراباً طيِّباً:
وسيقيمون في جنّاتٍ وعيون لقوله تعالى:
ويحظَونَ كذلك باستقرارٍ وراحةِ بال لقوله تعالى:
وسيتمتَّعون بالهناءِ والسعادة لقوله تعالى:
ويظلُّون فَرِحين على الدوام لقوله تعالى:
وستنمُّ وجوههم عن حياةِ النّعيم وسيكون شرابهم طيِّباً ومُعطَّراً بالمِسك، لقوله تعالى:
وسيقيمون في ملكوتٍ من النَّعيم قائلين:
لكن الفوز العظيم هو الإحساس بنيلِ رضاء الله تعالى، لقوله تعالى:
وقوله:
وقوله تعالى:
كذلك قوله تعالى:
وكذلك قوله تعالى:
هناك سؤال هام يتعلق بحالات الحياة بعد الموت: هل ستكون هذه الحالات دائمة وأبدية أم أن لها نهاية؟ فالقرآن يجيب على هذا السؤال ويعلِّمنا أن حالة الهناء والسرور في الحياة بعد الموت ستكون دائمة بل وبازدياد دائم، بينما لحالة الألم والعذاب نهاية بحيث سيدخل جميع البشر في النهاية في رحمة الله. فقد جاء في القرآن أن البشرية خُلقت من أجل أن تكون مظهراً لصفات الله تعالى، قال :
إذا كان هذا هو الغرض الإلهي فيجب أن يتحقق بالنسبة لجميع الناس لقوله تعالى:
والحقيقة أن البشرية خُلقت من أجل تحقيق هذه الرحمة الإلهية لقوله تعالى:
وعندما يتحقَّق الغرض من الألم والعقاب والعذاب والذي هو بمثابة عملية العلاج إظهاراً لرحمته تعالى عندها سيصبح كل إنسان قادراً ومؤهَّلاً برحمة الله ليتفاعل بسرور مع الحالات في الحياة الأخرى. يقول النبي : “سَيَأتِي عَلى جَهَنَّمَ زَمانٌ ليسَ فيهِ أحَدٌ ونَسِيمُ الصِّبا تُحرِّكُ أبْوَابَها” (تفسير معالم التنزيل، الآية: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا .
فالله وحده يعلم مدى الحياة الآخرة، وهو وحده يعلم إلى متى ستستمر حالات تلك الحياة. وإنه لمن المجرَّب أن ساعات الفرح والسرور تمرُّ بسرعة بينما تبدو ساعات الألم والقلق وكأنها لا نهاية لها. إنّ ساعات العذاب والآلام تبدو طويلة الأمد لأنّ العذاب الإلهي أليمٌ جداً بحيث لا يُرى له تخفيفٌ أبداً، لكن الدوام لا حدود له. وفي كل الأحوال فلا بد من الوصول إلى مرحلةٍ ينتهي فيها العذاب ويختفي الألم ويعمُّ السرور. وحيث إنّ الألم والعقاب يتمُّ به الإصلاح فإنَّ كل مرحلةٍ لاحقة ستأتي معها بإصلاحٍ ما. ولكن ما دامت هذه العملية لم تأتِ إلى نهايتها فسيظلُّ الألمُ قائِماً والتفاعل مؤلماً. يقول القرآن الكريم بأنّ عقاب الأشرار أبدي وكأنّه دائمٌ لا نهاية له، لكنه في الواقع سينتهي متى شاء الله، لقوله تعالى:
كذلك السرور في الحياة الآخرة أيضاً خاضعٌ لمشيئة الله، ولكن بالنسبة لهذا السرور فقد تمّ الإعلان والتأكيد عن مشيئة الله بأنّه غيرُ مجذوذ لا نهائي في قوله تعالى:
وأنّ جزاء المتقين لا انقطاع له لقوله تعالى:
هكذا فستكون هناك فرصة ومجال لجميع الناس لأنّ يتقدَّموا في الحياة بعد الموت. فالذين قد حُكِمَ عليهم بالعقاب سيقضون فترة العذاب، ولكن ليست كفَّارة بل كعملية علاج، والغرض منها تطهيرُ النفس من العيوب والإهمال الذي تراكم عليها أثناء حياتها على الأرض وإيصالها إلى حالةٍ من الطُهر والعافية بحيث تتفاعل مع حالات الحياة الآخرة بغبطةٍ وسرور. وسيظلُّ الأتقياء يَسعَون من أجل اكتمال ذلك النور لقوله تعالى:
وسَيُحيِّيهم الله بتحية:
بهذه الكلمات يخاطب الله المتقين بأنهم بسبب سعيهم الدائب للتعرُّف على صفاته تعالى بغيةَ أن يُصبحوا مظاهر تامّة لهذه الصفات فإنّ الجنّة هي حالةٌ يظلُّ العمل فيها متواصلاً ومطرداً. ولأنّ صفات الله لا حدود لها فإنّ سعيَ الإنسان وعمله من أجل أن يصبح مظهراً كاملاً لصفات الله تعالى سيظلُّ هو أيضاً غير متناهٍ.