أبعاد معنى لفظ الحمل
  • ماذا عسى دلالة لفظ “تحمله” يكون؟
  • ما معنى كلام عيسى في سن المهد؟
  • ما سر استغراب بني إسرائيل خلال تلك الواقعة؟

___

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (مريم 28)

 التفسير:

يقول المفسرون أن المعنى هنا أن مريم لما فرغت من الولادة وقويت على المشي جاءت قومَها محتضنة ابنها، فقالوا لها متّهمين إياها: ما هذه الفعلة الشنيعة التي فعلتِها؟ فقالت: لا تسألوني، بل اسألوا هذا المولود. فتكلم المسيح وقال: أنا عبد الله ونبيه (ابن كثير).

وهذا يعني أن المسيح قد كذب في أول معجزة تُنسب إليه. ذلك أنه لم يكن نبيًّا آنئذ، ومع ذلك قال إنني نبي الله. قال إن الله تعالى أوصاني بالصلاة، مع أنه كان لا يصلي، وإنما كان عندئذ يبول ويتبرز في أسماله وينجسها. فكأن المسيح، بحسب المفسرين، بدأ يتدرب على قول الكذب وهو في حضن أمه، ففي السن الذي لم تفرض عليه الصلاة قال إني أصلي، وفي الوقت الذي كان لا يزال ناقص الوعي والإدراك قال إني قد بُعثتُ نبيًّا من الله تعالى. وحجة المفسرين على قولهم هذا هو قول الله تعالى تَحْمِلُهُ وقوله تعالى وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْد (آل عمران: 47).

تعالوا نر الآن ماذا يقول الإنجيل بهذا الشأن.

يقول «مرقس» في إنجيله إن يسوع كان في مدينة الناصرة عند ظهور يوحنا (مرقس 1: 9). ويقول «متى» في إنجيله إنه لما أُلقي القبض على يحيى خرج يسوع من الناصرة إلى مدينة كفرناحوم في منطقة الجليل (متى 4: 13). وهذا يعني أن «مرقس» و«متى» لا يذكران إطلاقًا موعد رجوع المسيح إلى الناصرة بعد ولادته، وإنما يخبران أنه كان في الناصرة عند ظهور يوحنا، وأنه هاجر منها إلى كفرناحوم عندما أُلقي القبض على يوحنا. وهذا يعني أن المسيح لما شبّ وترعرع بدأ يتردد إلى الناصرة.

أما لوقا فيتضح من إنجيله أن يوسف ومريم ذهبا إلى الناصرة بعد ولادة المسيح ببضعة أيام، وهناك تربى المسيح (لوقا 2: 39). وهذا يعني أن يوحنا ومتى ومرقس كلهم صامتون تمامًا بهذا الصدد، وأن لوقا هو الوحيد الذي يقول أن المسيح ذهب بعد الولادة إلى الناصرة.

وورد في إنجيل لوقا أيضًا أن ملاك الله ظهر لمريم في الناصرة، وهناك بشّرها بالحمل. وهذا يؤكد أن مريم كانت تقيم في الناصرة، ثم عند الإحصاء سافرت إلى بيت لحم، وبعد ولادة المسيح هنالك رجعت إلى مدينتها الناصرة ثانية، وأن المسيح مكث في الناصرة نفسها إلى أن أعلن يوحنا نبوته (انظر لوقا 1: 26-27).

إذًا فكانت السيدة مريم، بحسب هذه الرواية، من سكان الناصرة، وأنها رجعت إلى وطنها بالمسيح بعد ولادته مباشرة. فلو كان هذا البيان صحيحًا لكان مفهوم هذه الآية القرآنية أن المسيح بدأ يكلّم الناس بعد ولادته فورًا، إذ يقول الله تعالى فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ .. أي أن مريم حملت المسيح إلى أقاربها ومعارفها، فكلّمهم بهذا الكلام.

ولكن فحص الأمر أكثر يكشف لنا أن قول لوقا بأن مريم كانت من سكان الناصرة قول باطل. وإليكم بيان ذلك.

يقول متى في إنجيله أن مريم حين ولدت المسيح كانت في بيت لحم، ولكنه لا يذكر شيئًا عن مدينتها الأمّ. بل يذكر في الباب الثاني في إنجيله ما يجعل المرء يظن أن وطنها كان قريبًا من بيت لحم وإن لم يكن بيت لحم نفسها. ثم يقول متى إن الملك هيرودس لما كان يشك أن هذا المولود الجديد سيثير القلاقل ضده حينما يكبر. ذلك لأن كهّانًا من المجوس القادمين من الشرق أخبروه أن مولودًا يحمل هذه الصفات قد وُلد، وأنهم قد جاءوا من الشرق بعد رؤية نجمه في السماء؛ فأمرهم الملك أن يدلّوه على هذا المولود إن وجدوه. وكان بنيته أن يقتله حتى لا يضرّ بملكه. ولكن المجوس، بحسب متى، لما رأوا المسيح أتاهم الملاك في الحُلم وقال لهم: لا ترجعوا إلى هيرودس بخبر الوليد. فانصرفوا إلى بلادهم من طريق آخر. وبعد عودتهم ظهر الملاك ليوسف في المنام وقال: قُمْ وخُذِ الصبيَّ وأُمَّه، واهرُبْ إلى مصر، لأن الملك مزمع على قتل الصبي. فهرَب يوسف مع مريم والصبي إلى مصر. ولما رأى الملك أن المجوس قد رجعوا إلى بلادهم من دون أن يرجعوا إليه بخبر الوليد، غضب غضبًا شديدًا، فأمر بقتل جميع الصبيان الموجودين في بيت لحم وضواحيها ممن أعمارهم سنتان فما دونها – أرى أن هذه القصة قد اختُرعت تقليدًا لما وقع لموسى في صغره – فهرب يوسف بالمسيح إلى مصر بناء على وحي الله تعالى الذي أمره أن يمكث هنالك حتى يأمره بالعودة (انظر متى 2).

إذًا فكانت السيدة مريم، بحسب هذه الرواية، من سكان الناصرة، وأنها رجعت إلى وطنها بالمسيح بعد ولادته مباشرة. فلو كان هذا البيان صحيحًا لكان مفهوم هذه الآية القرآنية أن المسيح بدأ يكلّم الناس بعد ولادته فورًا، إذ يقول الله تعالى فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ .. أي أن مريم حملت المسيح إلى أقاربها ومعارفها، فكلّمهم بهذا الكلام.

فترون أن هذا البيان يختلف تمامًا مع بيان لوقا. فإن لوقا يقول أن مريم رجعت إلى الناصرة بعد ولادة المسيح مباشرة، بينما يقول متى إنها هربت إلى مصر، وأن هذا ليس أمرًا قياسيًا، بل إن الله تعالى هو الذي أمر يوسف بالوحي بألا يرجع إلى مدينته، بل بالأحرى أن يهرب بمريم وابنها إلى مصر، ويمكث هناك حتى يأمره ثانيةً بالوحي بما يجب. فأقام يوسف في مصر حتى مات الملك هيرودس، فأخبر الله يوسفَ بموته بالوحي، وأمره بالعودة إلى بلاد إسرائيل، فرجع. ولكنه لما علم أن أَرْخِيلاوُس ابن هيرودس صار ملكًا جديدًا على بلاد إسرائيل أي على منطقة يهوذا خاف أنه إذا عاد إلى وطنه فسيُقتل (وهذا يعني أن يوسف كان بحسب الإنجيل من سكان بلدة من بلدان منطقة يهوذا). فأخبره الله بذلك (وكأن الله تعالى كان لا يعلم من قبل أن أرخيلاؤس قد صار ملكًا) وأمره بالانصراف إلى منطقة الجليل، فأتى وسكن في مدينة تدعى الناصرة، لكي يتم ما قيل على لسان الأنبياء إن المسيح سيُدعى ناصريًّا (متى 2: 1-23).

هذه العبارة تفيد ما يلي:

الأول: أن المسيح وُلد في بيت لحم.

الثاني: بعد الولادة أخذ يوسف مريمَ وابنها إلى مصر بأمر الله تعالى.

الثالث: أنه مكث هناك حتى وفاة الملك هيرودس.

الرابع: أن الله تعالى أمر يوسف لدى وفاة الملك بالعودة إلى الوطن.

الخامس: أنه لما خاف العودة إلى مدينته ذهب بأمر الله تعالى وسكن بالناصرة في منطقة الجليل.

السادس: وأن الله تعالى أمره بالذهاب إلى الناصرة تحقيقًا لما وعد على لسان أنبيائه أن المسيح سيُدعى ناصريًّا.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: إذا كان يوسف من سكان الناصرة من قبل فلماذا أمره الله تعالى عندئذ بالذهاب إليها حتى يتحقق قول الأنبياء بأنه سيدعى ناصريًّا؟ هذا يدل صراحة أن يوسف لم يكن من سكان الناصرة، بل كان وطنه قرية أخرى، وأنه أقام بالناصرة بعد العودة من مصر.

لقد ثبت من ذلك أن وطن المسيح لم يكن مدينة الناصرة، وأنه لم يؤت به إليها بعد الولادة فورًا، وإنما بعد العودة من مصر. وحتى لو كان قد أُخذ إلى الناصرة فور الولادة فلا مجال أيضًا لكلامه مع أقاربه، لأنهم لم يكونوا في الناصرة، في حين أن القرآن الكريم يشير إلى كلامه مع أقاربه حيث قال الله تعالى فأتتْ بِه قومَها .. أي أهلها وأقاربها.

لقد تبين لنا من هاتين الفقرتين من الإنجيل أن لوقا يقول أن يوسف ومريم ذهبا بعد ولادة المسيح فورًا إلى الناصرة، ولكن متى يخبر أن الناصرة لم تكن وطنهما؟ ثم حتى لو كانت أمه قد أخذته إلى الناصرة، فلا مجال لكلامه هنالك أيضًا، لأن القرآن يذكر كلامه في مكان فيه قوم مريم وعشيرتها. أما إذا كان المسيح قد ذهب إلى مصر فور ولادته، ثم عاد إلى الناصرة التي لم تكن وطنًا لـه، فلم يعد هناك أي مجال لكلامه في الصغر أيضًا. ذلك أن المسيح، بحسب الإنجيل، مكث في الناصرة حتى أعلن يوحنا نبوته بل حتى أُلقي القبض على يوحنا. فلا يمكن اعتبار كلامه هذا ما قبل دعوى يوحنا أيضًا، لأنه كان عندئذ في الناصرة التي لم يكن بها أقارب مريم الذين تكلمَ معهم هذا الكلام.

ويتضح من إنجيل متى أن المسيح قد زار أورشليم، التي كانت مدينته الأُمّ في المناطق المجاورة لها، مرتين؛ مرةً وهو في الثانية عشرة من عمره، وثانيةً وهو في الثاني والثلاثين من عمره (متى 21). ولا بد أن هذه المكالمة التي تمّتْ بينه وبين أقارب أمه قد حصلت في إحدى هاتين الزيارتين. ولكن لم يُذكَر عن المسيح حدثٌ ذو بال لدى زيارته الأولى حين كان سنّه اثني عشر، سوى أنه كان يصغي إلى حديث الكبار ويعاف اللعب واللهو. لذا يبدو أن هذه المكالمة التي جرت بينه وأهله كانت لدى سفره الثاني لأورشليم – التي كان أقاربه ساكنين في ضواحيها – حين زارها لنشر دعوته فيها، وقد زارها في حوالي السنة الثالثة من بعثته، حيث كان قد أعلن دعواه قبل ذلك بعامين (انظر متى 21). وإن هذه الكلمات التي عزاها القرآن إلى المسيح تبدو ملائمة تمامًا بتلك المناسبة، ولكنها لا تنسجم إطلاقًا مع زيارته الأولى حين كان لا يزال صبيًّا.

الجواب أنه مما لا شك فيه أن لفظ الحمل يعني احتضان المولود، ولكنه يعني المساندة والتأييد والنصرة أيضًا بدليل قوله تعالى في القرآن الكريم مثلُ الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحمِلوها كمثل الحِمار يحمِل أسفارًا (الجمعة: 6).. فترى أن الله تعالى يقول هنا حُمّلوا التوراة[، ولكن هذا لا يعني أنه تعالى وضع التوراة على رؤوسهم، وإنما المعنى أنه أمرهم بتأييدها وتوقيرها. ثم يقول الله تعالى ثم لم يحمِلوها .. وليس معناه أن كل يهودي نبذ التوراة من يده، إنما المراد أنهم تركوا تبليغ رسالة التوراة وتأييدها. فقد قال الإمام الراغب في تفسيره: «كُلِّفوا أن يقوموا بحقِّها فلم يحمِلوها» (المفردات)

خلاصة الكلام أن القرآن الكريم يعلن أن المسيح تكلم مع أقاربه، ويقول الإنجيل أنه ذهب بعد الولادة إلى الناصرة، لا إلى مدينته الأم؛ وهذا يؤكد أنه ذهب إلى مدينته في وقت آخر. والمكان الثاني الذي زاره المسيح هو أورشليم وما حولها من القرى، وزيارته لهذا المكان مرتين أمر مؤكد. لقد زار أورشليم المرة الأولى في صغره حين كان أبواه غير مطّلعينِ على كفاءاته وصفاته، وزارها المرة الثانية لتبليغ دعوته، وكان كلامه مع أقاربه في المرة الثانية. فثبت أن قوله تعالى فأتت به قومَها تحمِله إشارة إلى تلك الحقبة من الزمن حين كان المسيح قد بلغ الثالثة والثلاثين من عمره، وكان قد أعلن دعواه.

وهنا يطرح سؤال نفسه: ما هو المراد إذن من لفظ تحمِله[؟ فإن الأم إنما تحمل طفلها حين يكون صغيرًا.

الجواب أنه مما لا شك فيه أن لفظ الحمل يعني احتضان المولود، ولكنه يعني المساندة والتأييد والنصرة أيضًا بدليل قوله تعالى في القرآن الكريم مثلُ الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحمِلوها كمثل الحِمار يحمِل أسفارًا (الجمعة: 6).. فترى أن الله تعالى يقول هنا حُمّلوا التوراة[، ولكن هذا لا يعني أنه تعالى وضع التوراة على رؤوسهم، وإنما المعنى أنه أمرهم بتأييدها وتوقيرها. ثم يقول الله تعالى ثم لم يحمِلوها .. وليس معناه أن كل يهودي نبذ التوراة من يده، إنما المراد أنهم تركوا تبليغ رسالة التوراة وتأييدها. فقد قال الإمام الراغب في تفسيره: «كُلِّفوا أن يقوموا بحقِّها فلم يحمِلوها» (المفردات).. أي لقد أُمر اليهود أن يؤدوا حق التوراة، ويؤيدوها ويقوموا بحمايتها ظاهرًا وباطنًا، ويعملوا بأحكامها، ويدعوا الآخرين إليها، ولكنهم لم يعملوا بهذه الوصية. فالله تعالى حين قال حُمّلوا التوراة لم يقصد أنه وضعها على رؤوسهم، وحين قال ثم لم يحملوها فلم يكن المراد أن كل يهودي رمى بالتوراة على الأرض، بل الواقع أنه تعالى لما قال ثم لم يحمِلوها كان اليهود يحملون التوراة في الظاهر، ولما قال حُمّلُوا التَورَاة لم يحمِّلْهم على رؤوسهم أي كتاب في الظاهر.

فثبت أن الحمل يعني أحيانًا النصرة والتأييد والتشجيع ورفع المعنويات أيضًا. فالإنجيل يقول أن أم المسيح لم تؤمن به (مرقس 3: 31-35)، فأعلن القرآن الكريم أنها أَتَتْ به قومَها تحْمِلُه .. أي أن أُمَّه صدّقتْه وأيّدتْ دعواه وعمِلت بتعاليمه لما أعلن النبوة. فالقرآن يفنّد بقوله تعالى فأتَتْ به قومَها تحْمِلُه التهمةَ التي قد ألصقها الإنجيل بأُمّ المسيح ، وأخبر أنها جاءت مع المسيح تصدقه وتؤيده وتقول للناس: كيف تسمونه ولد الحرام؟ هل أولاد الحرام يكونون كمثل هذا الولد. تَكلّموا معه لتعرفوا أولدُ حرام هو أم ولد حلال؟

ثم يخبر الله تعالى أنهم قالوا يا مَريم لقد جئتِ شيئًا فَرِيًّا .. أي لقد ارتكبتِ فعلاً نجسًا، ولذلك بدأ ابنُك أيضًا يكذب على الله تعالى. وكأنهم قالوا لها: لأنه ولد الحرام فلذلك يتكلم بمثل هذا الكلام.

Share via
تابعونا على الفايس بوك