أداة النشأة الآخرة
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأَنعام: 123).

الحمد لله خالق الموتِ والحياة، جاعلِ الظلمات والنور، خالقُ كلِّ شيء، ربِّ السماوات وربِّ الأرضِ ربِّ العرشِ الكريم، ملكِ الملك مدبِّرِ الأمر، الرحمن الرحيم.

تبارك الذي جعل الموتَ والحياةَ مظهرًا لحياته، وجعلَ الظلماتِ والنورَ مظهرًا لنور صفاته، تبارك الذي خلقَ النهارَ والليل، وخلق الحيَّ والميتَ، وجعل السرَّاء والضرَّاء، وأوجدَ الراحةَ والعَناءَ، واليقظةَ والإِغفاءَ، والعلمَ والجهلَ، والاستواءَ والميلَ، ومن كل شيءٍ خلق زوجين اثنين رديفين، يعتمد كلٌّ منهما على الآخر، ولا يُعرف أحدهما إلا بوجود الآخر، فلو لم يكن الموتُ ما كانت الحياة، ولو لم تكن الظُلماتُ ما كان النور، ولولا الضرَّاءُ لما عُرِفت السرَّاء، وكلُّ شيءٍ خلقه الله وقدَّره في هذا الكون إنّما بُنيَ وصُمم وفقًا لهذه القاعدة التي تفتح المجال أمامَ الناس لكي يُدركوا أحوالهم وما هم عليهم، ولكي تنشأ في أنفسهم روحُ الإقبال على الحياة، والاستزادة مما يحبُّون والابتعاد عما يكرهون، ولكي تنشأ في كلّ شيء قوىً محركةٌ تحرّك عجلةَ الحياة وتدفعُها نحو الرُقيِّ والازدهار.

ولقد كان من تقدير العليم الحكيم أن يتبادل الزوجان الرديفان صفاتهما، فينشأ بتمازجهما أنماطًا وأشكالاً وظروفًا متعددةً تضع كلَّ أمرٍ ضمن مقياسٍ يُدرَكَ من خلاله مقدارُه وحالتُه، كما أنّه سبحانه بقدرتهِ يُنشئ هذه الأزواجَ بعضَها من بعض، فهو يُخرجُ الحيَّ من الميّتِ ويُخرجُ الميّتَ من الحيِّ، ويُولِجُ الليل في النَّهارِ ويُولِجُ النَّهارَ في الليل وهو مالكُ الملك يُؤتِي الملكَ من يشاء، وينزعُ الملكَ عمّن يشاء، ويُعزُّ من يشاء ويُذلُّ من يشاء وهو على كلِّ شيءٍ قدير، فمقابل الحيّ هنالك الميّت، ومقابل النهار هنالك الليل، وكما أنّه تعالى يمنح للبعض فهو ينزعهُ من غيرهم، وكما أنّه يُعزُّ من يشاء فهو يُذلُّ من يشاء، وتأكيدًا على هذا المبدأ وعلى أنه قاعدة هذه الحياة، نجد أنّ الأزواج هذه أيضًا تتكرَّر في أسماء الله الحُسنى، فهو الأوّل والآخر وهو الظاهر والباطن، وهو المعزُّ وهو المـــُذلُّ، وهو الـــمُحيي وهو المـــُميت، وهو المـــُهيمنُ على كلّ التغيُّرات والتفاعلات التي تحدث في هذه الدنيا وزمام كلّ شيءٍ بيده سبحانه.

وإذا تدبَّرنا في هذا الوجود قليلاً فإننا سنرى أشكالاً من الحياة تتمايز عن بعضها، فالفرقُ بين حياةِ الإنسان وحياةِ البعوضة مثلاً كبير، والفرقُ بين حياة الطير وبين حياةِ دودةِ الأرض كبيرٌ أيضًا، وإن كان الجميع يشتركون في أمرٍ واحد ألا وهو الحياة، كما أنّ حياةَ الطفل الرضيع تختلف عن حياةِ الرجل الشاب القوي القادر، فالرضيع تكون حياته هشَّةً ضعيفةً لا يستطيع أن يُحافظ عليها لو لم تقم أمّه بإرضاعه والعنايةِ به، كما أنّ حياةَ الشاب تمتازُ عن حياةِ الشيخ الضعيف الذي خَارتْ قواه ونسيَ كثيرًا من علمه وتراجع سمعه وبصره، فمرحلة الشباب إنّما هي مرحلة قمة في الحياة، بينما حياة الطفل الرضيع والشيخ الهَرِم هما مرحلتا حضيضٍ ونظريًّا هما قريبان من الموت بمعنى أنّهما ليسا في أفضل أحوال الحياة وإنما في مرحلة بدائيّة منها، كما أننا نرى الله يبسطُ الرزقَ لمن يشاء ويقدِرُ لمن يشاء، وجعل الناس طبقاتٍ بعضَهم فوق بعض لكي يخدم بعضُهم بعضًا حيث يقول تعالى:

وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (الزخرف: 33)،

والناس طبقاتٌ على كلّ المستويات، ففي السن هم طبقاتٌ، فالطفل يخدم والداه، والشاب يخدمُ والديه، وينبغي للصغير أن يحترمَ الكبير، وينبغي للكبير أن يعطف على الصغير، واجتماعيًا واقتصاديًا هم طبقاتٌ، فكل إنسان يقوم بعملٍ يخدم به فئاتٍ أخرى من الناس وتخدمه فئاتٌ أخرى، وفي كل ناحية من مناحي الحياة نجدهم درجاتٍ، ومن حكمة الله أن أوجدَ الرُتبَ والمنازل بين الناس لكي يقوم كل إنسان بدورٍ لا غِنى عنه لغيره، كذلك فمن رحمته أنّه قد أوجد مخلوقاتٍ عديدة في خدمةِ مخلوقاتٍ أخرى لا تسخِّرها لخدمتها فحسب بل، في كثير من الأحيان تستهلكها وتُفني وجودها، كما تفترس بعض الحيوانات حيواناتٍ أخرى ويأكل الإنسان أنواعًا من الحيوان والنبات، والإنسان يعتلي قمّة الهَرم في تسخير من هم دونه.

ولو أردنا أن نُخضع الموت والحياة لمقياسٍ يبتدئ من قيمةٍ دنيا إلى قيمةٍ عُليا فإننا نجد أن ارتفاع قيمة أحدهما يؤدي إلى انخفاض الأخرى والعكس صحيح، فلا بدَّ أن يتفانى شيءٌ لكي يحيا شيءٌ آخر، كذلك فإنّ كل شيء في هذا الوجود إنّما هو ضعيفٌ في أمورٍ هو بحاجة إلى غيره لكي يُعطيه إيّاها، وقويٌّ في أمورٍ أخرى يمكن أن يمنحها لغيره، وذلك ينطبق على كلِّ شيء وفق قانون الزوجين أو الرديفين، فالله تعالى قدَّر الليل والنهار وجعلَ أحدهما مرتبطٌ بالآخر، فالنهارُ هنا لابدَّ وأن يتبعه ليلٌ في الجانب الآخر من الأرض، ووقت الظهيرة هو قمّة فترة النهار، ومنتصف الليل هو قمّة فترة الليل، بينما عند الفجر والغروب يمتزج أحدهما بالآخر فيصعب تمييزهما لمن نامَ أو كان غائِبًا عن الوعي لساعاتٍ طويلة، ولكن في النهاية لابدّ وأن يدخل النهار ويبدأ الليل بالتراجع عند الفجر، ولا بدَّ للنهار من التراجع حتى يدخل الليل عند الغروب، فبذلك يُعرف النهار ويُعرف الليل ويُدرِك الإنسان الوقت ويُنظِّم أموره وفقًا لذلك، وصعوبة التمييز في مراحل المزج في بعض الأحيان إنّما تُشير إلى تماثُل الدرجة بين حالتين وإن كان أحدهما في بدايته والآخر في آخره.

وإذا تدبَّر الإنسان في كلّ ما يواجهه من جُزيئاتٍ ومخلوقات ومواضيع ماديّة أو معنويّة فسيجد أنّ هذا القانون هو القانون الأساسي في كل ما يصادفه في هذا الكون، وفي واقع الحال هو القانون المحرك للكون والمولِّدُ للطاقة والنشاط فيه.

وعندما أراد الله تعالى أن يَصِفَ نفسه فلقد عبَّر عن نفسه بأنّه نورُ السماواتِ والأرض، ليؤكِّدَ بأنّه القوّة المحرِّكة للسماوات والأرض والمؤدِّية لكلِّ الأدوار، ولكن مع عدم تجلِّي الذات الإلهيّة في هذه الدنيا الفانية التي يحكمُها قانون الموت والحياة والأزواج المترادِفة

وبما أنّ عملية وجودنا على هذه الدنيا وخلقِنا من قِبل الخالِق جلَّ وعلا إنما هي حياةٌ كنا قبلها عدمًا أو في حالةٍ من حالات الموت، وكذلك فإننا نترك هذه الدنيا ونغادرها بالموت، والحياة هي الوسيلة التي تجعلنا ننتفع من كلّ الأمور التي تعمل وفق قانون الزوجين أو الرديفين آنِفِ الذكر، لذلك فقد استخدم الله تعالى تعبير الموت والحياة ليعني بها الحضيض والقِمّة لكلِّ شيءٍ في الدنيا، فالموت هو صفرُ مقياس الأعمال في الدنيا وكلّما ابتعد المؤشِّر عن الصفر فإنّه في كلّ درجة يكون في حالة من حالات الحياة تتحسَّن بالاقتراب من القمّة، وهذا لا يخصُّ عملية الحياة والموت وحدها، فيقول الله تعالى:

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (الملك: 2-3)،

فالموت والحياة هما مقياس العمل، ولا عجبَ أن ابتدأت الآية بذكرِ الموت أولاً بمعنى أنّه صفرُ هذا المقياس، أما لو كانت هذه الآية تعني فقط أنّ الله سيُحاسب الناس على أعمالهم يوم القيامة، لكان الأجدر أن تذكُرَ الحياة ثم الموت كون الحياة هي دارُ العمل للإنسان والموت هو الذي ينقله إلى مرحلة الحساب، كذلك فقد استخدم الله تعالى تعبيرَ النورِ والظُلمات ليعني بالنور قمّة نشاطِ الحيّ أو تأديته لدوره وواجبه الموكلِ إليه، والظُلمات لتعني قمّة السكون والخمول والانصراف عن هذا الدور وهذا الواجب، ويتناسَب النور والظُلمات طردًا مع مقياس الحياة.

وعندما أراد الله تعالى أن يَصِفَ نفسه فلقد عبَّر عن نفسه بأنّه نورُ السماواتِ والأرض، ليؤكِّدَ بأنّه القوّة المحرِّكة للسماوات والأرض والمؤدِّية لكلِّ الأدوار، ولكن مع عدم تجلِّي الذات الإلهيّة في هذه الدنيا الفانية التي يحكمُها قانون الموت والحياة والأزواج المترادِفة، وكلُّ تجلٍّ لله تعالى في هذه الدنيا إنّما يكون في فعل الله وصفاته العُظمى السامية وليس في عنصر ذاته، والله تعالى هو الذي يقوم بالدور المحوري بل بكل الأدوار ولا يحتاج لأيِّ واسطة أو لأيِّ شيءٍ لكي يؤدي هذه الأدوار، إنّما خلَق الله السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور والأزواج لكي يتسنَّى للإنسان أن يُدرك نور الله وأن يرى أعماله وأن يستشعر صفاته، وهذا كلّه بسبب قصور قدرات الإنسان، فلولا الوجود ولولا الحياة والموت والنور والظُلمات لما تسنَّى للإنسان أن يستشعر الصفات أو أن يرى الأعمال الإلهيّة.

ومن حِكمةِ الله تباركَ وتعالى أن يترافق كلُّ خَلقٍ ماديّ في هذه الدنيا بنورٍ يتعاظم بتعاظُمِ وارتقاء هذا الخلق، وهذا الأمرُ لا يكون لأحدٍ في هذه الدنيا دورٌ فيه، فالنطفة التي يبتدئ منها خلقُ الإنسان تكمُنُ النفسُ فيها كمونَ النارِ في الزِّندِ كما يوضِّحُ المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ولكن لا تكون النفسُ جزءًا منها، وبتطوُّرِ النُّطفة إلى أن تصل إلى جنين تتعاظمُ الحياةُ وتبرزُ حتى يُولَدَ هذا الجنين، ثم في كلِّ يوم يبدأ بالنُّمو جسديًا وتنمو نفسُه وينمو إدراكه بشكلٍ يوازي هذا النُّمو الجسدي، وإن كان لوالديه أو لوالدته الدورُ في استمرار نموِّ جسده ورعايته وحمايته والحفاظِ عليه فلا دورَ لهم في تطوُّرِ وعيه وإدراكه على الإطلاق، وإنْ كان يستفيد من بيئته في تنمية هذا الوعي والإدراك.

ولقد بيّن الله تباركَ وتعالى أنّ الإنسان بخلافِ غيره من المخلوقات يخضع لمرحلتين من الخَلق أولّهما الخَلقُ الماديّ الذي يناله كلُّ إنسان، وثانيهما خَلقٌ آخرُ توجد بذرته في كلِّ إنسان، وهذا الخلق يُفاخِر به الله ويشير إلى أنّه أعظمُ من الخَلقِ الأول فيقول تعالى:

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون: 15).

فما هو هذا الخَلقُ الآخر الذي يُبرزُ عظمَةَ الخالِقِ أحسنِ الخالِقين؟.

إنّ الإنسان إنّما هو تركيبٌ من بُنيَانينِ وهما البُنيَانُ الجسدي والبُنيانُ النفسيّ، فالبُنيَان الجسديّ ينمو ويتطوَّر بالغذاء والمؤثِّرات الماديّة، أما البُنيانُ النفسيّ فإنّه ينمو ويتطوَّر وفقًا لمؤثِّرات أو لغذاءٍ نفسيّ، وكِلا البُنيانين مرتبطٌ بالآخرَ ارتباطًا وثيقًا وما يُؤثِّر في أحدهما يُؤثِّر في الآخر، فعاداتُ الإنسان الجسديّة من مأكلٍ وملبسٍ ونظافة تؤثِّر في نفسيَّته فَمَنْ أكلَ الخضروات ولم يأكل اللحوم تسرَّب الضَعَفُ والجبنُ إلى نفسه، ومَنْ بالغَ في أكل اللحوم أصبح عدوانيًّا وسَاءَت أخلاقه، وهذا مما أصبح ظاهرًا للعيان ويُقِرُّهُ علم النفس الحديث، كذلك فإنّ ما يطرأ على النفس يؤثِّرُ في الجسد، فَمَنْ كان حزينًا تسرَّبَ الإعياءُ والكسل إلى جسده، ومن مرِضَ جسده شعر بالكسل والملل والإعياء.

إنّ الإنسان بُنيانٌ جسديّ قويمٌ إلى حدٍّ ما، وبنيانٌ نفسيٌّ مُعافىً يكون بيئةً ملائِمةً للخلقِ الآخر، ولكي ينال هذا الخلقَ الآخرَ فلا بدَّ أن يبذلُ جهدًا جسديًّا ونفسيًّا لكي يأذَنَ الله به، وهذا الخلقُ الجديد هو الخلقُ العظيم الذي أراده الله للإنسان، وهو الغايةُ من الخَلقِ الأول أي الخَلقِ الماديّ، وهذا الخَلق يمكن أن نُطلق عليه اسمَ الخلق الروحيّ كما أشار إليه القرآن الكريم مع ضرورةِ التمييز بين الروحِ والنَّفس، فالنَّفس هي الجانب غير الملموس من الخَلق الماديّ وهي التي ينطبقُ عليها قانون الموتِ والحياة، وهي ما يمكن أن نُسمِّيه النورَ الإلهيَّ المرافقَ للبُنيان الماديّ، سواءً كانت هذه النَّفس طيِّبةً أو شريرة، والقرآن الكريم يُبيّن أنّ ما يُنزع من الجسد عند الموت هو النَّفس وليست الروح فيقول جلّ وعلا:

وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (الأَنعام: 94)،

والروح إنّما هي النور الذي يُجلّيه الله تعالى في بُنيانٍ نفسيّ سليم، وهذا النور الذي تكون له بذرةٌ في كلِّ إنسان يقوم بخلقِ كيانٍ روحيٍّ جديد، وحواس روحيّةٍ جديدةٍ تتطور وتتعاظَم، وكما أنّ النَّفسَ هي نورُ الحياة في الجسد فالروحُ هي نورُ الحياة في النَّفس،  فالنَّفس التي لا تحظى بالروح فهيَ لم تحظَ بالحياة، وإذا لم يحاول الإنسان أن يُحييَ نفسه أو أن يُجاهدَ في سبيل إحيائِها فإنّه لاشكَّ سيغرق في موتٍ فظيعٍ ذريع يُهلكُ نفسه وجسده ويُلقيه في قعرِ الجحيم، فَيَضِلُّ السبيل وتغرُّهُ الأمانيُّ وتخذله الدنيا الخذول الغَرور، فكلُّ ما فيها ليس إلا سرابًا بِقِيعةٍ يحسبه الظمآنُ ماءً، ومن ضلَّ فإنّما يستمرُّ في العَدوِ آملاً أن يُدرِك السراب دون جدوى، حتى يجدَ الله في النهاية فَيُحاسبه على ما صنع، ويندمُ على ما ضاعَ منه يوم لا ينفع الندم.

ومن الجدير بالذكر أنّ الروحَ إنّما هي درجاتٌ ومراحلُ أيضًا، فيجب على الإنسان أن يحاول قدر الإمكان أن يبتعد عن الصفر وينطلق باتجاه القمّة، وهو في كل مرحلة يحظى بقدرٍ من هذه الحياة، التي لو وجد منها مثقال ذرة في داخله فإنها قد تصبح جبلاً في نهاية المطاف، ومثقال الذرة هنا ليس بقليل على ألا يكون نهاية المطاف.

ولابدَّ لنا أن نعلم أن طبيعة الإنسان جُبلتْ على زوجين من الطبائع، على نفسٍ أمّارةٍ بالسوء تدعو الإنسانَ إلى الموت، ونفسٍ لوّامة تدعوه إلى الحياة، بمعنى أنّ بُنيانه النفسيّ ينزِعُ للشرّ الذي هو موتٌ وظُلمات وينزِعُ للخير الذي هو حياةٌ ونور، وكما أنّ الطفلَ الرضيع تكون مقوماتُ الحياة فيه ضعيفةً، كذلك فإن الإنسانَ في طبيعته النفسيّة البدائيّة أقرب إلى الشرّ والسوء، وعليه أن يكافح من أجل الحياة وأن لا يقضي على نفسه اللوامة فيصبح حجرًا أصمًّا أو يصبح وقودًا لجهنم، وإذا سعى إلى الحياة فإنّ الروح ستُنشِئُ فيه النفسَ المطمئنة التي تجعله في مأمنٍ من الموت، وليس للنفس الأمّارة عليها من سلطان، وهذه النفس إنّما هي الجرثومة الشيطانيّة الموجودة في كل نفسٍ إنسانيّة كما توجد الجراثيم في أجساد البشر، فالجسد الذي يقاوم الجراثيم يستمر في الحياة وتنشأ فيه مناعةٌ ضد الأمراض التي أُصيب بها سابقًا، كذلك فإنّ النفس التي تقاوم الشرّ تنشأ فيها مناعةٌ ضدّ هذا الشرَ مرةً بعد أخرى، فالذنوب هي الجراثيم التي تفتكُ بالنفس فتُهلكها والغاية من وجودها هو تشكيل مناعة ضدها لكي تُجتنب ويعيشَ الإنسان حياةً أمتنَ وأقوى، وهذه هي فلسفة المرضِ والذنب، فالمرض وُجدَ لتطوير سبل حياة الناس وليس للفتك بهم، كما أنّ الذنب وجد لِيُجتَنبَ وليس لِيُرتَكب.

وكما أنّ الإنسان يُخلق من نُطفةٍ يرعاها الله تعالى ويَهبها الحياة وليس بمقدور أحدٍ أن يهبها الحياة إلا هو سبحانه، كذلك فإنّ الخَلق الآخر وهو الخَلق الروحيّ لا يمكن أن ينشأ ويتطوَّر إلا برعاية الله المباشرة، فيقول تعالى:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 86)،

ولقد ميَّز الله تبارك وتعالى بين نوعين من الوجود في هذه الدنيا وهما خلقُ الله وأمرُ الله حيث يقول الله تعالى:

أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (الأعراف: 55)،

فالخَلقُ هو ما يخضع لقوانينَ يعلم الناس شيئًا لا بأس به منها، ويستطيعون أن يُسخِّروه لتطوير الحياة وتخفيف المعاناة على البشر، أما الأمر فهو ما لا يخضع لما يعلمه الناس من قوانين، وهو إنّما يكون مظهرًا لإرادة الله الفردِ الصمد الذي هو عمادُ هذا الوجود، فالروح تدخل في باب أمرِ الله الذي لم يُعطِ البشر من علمه نصيب وليس لهم أدنى سيطرةٍ عليه.

فإذا عُدنا إلى مثال الجنين فإنّه إذا تعذَّر الحمل عند امرأةٍ وتمَّت معرفة العلّة من قِبل الأطباء وقاموا بما يُناسب من خطوات لإزالة هذه العقبات فإنّ الحملَ سيحدُث في كثيرٍ من الأحيان، لكن لا سيطرة للأطباء على حياة الجنين وإن كانوا يقومون بالإجراءات المناسبة لذلك، وكذلك بالنسبة للمريض فقد يستطيع الأطباء القضاء على العلّة الجسديّة التي يُعاني منها باتِّباع الوسائل المناسبة ولكن ليس بأيديهم أدنى سيطرة على بقاء المريض على قيد الحياة، فإذا قُضيَ الأمر تجدهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا ويقفون مكتوفي الأيدي يراقبون مُستسلمين، وكذلك بالنسبة للبُنيان الروحي فلئِن حاول الإنسان أن يُرقِّي نفسه لينشأ في هذا الخلق الآخر، وسلك السُبل من أوامرَ ونواهٍ وأخلاق وضَّحها الإسلام وشدَّد عليها فلا سبيل إلى نشوء هذه الروح إلا بإرادةِ الله المباشرة، وهنا يلمسُ الإنسان نورَ الله ويستشعر يد الله تبني كيانه وتُطوِّره وترعاه، وهذه هي الوسيلة الحقَّة لإدراك الله فها هنا يحدث شيء ليس من قوانين الخَلق والحياة التي جعلت الناس بإغراقهم فيها تَجِفُّ حقولهم الروحيّة وينسونَ الله فينساهم.

ومن رحمانيّة الله تبارك وتعالى ورحيميَّته أنّه إذا سلكَ الناس المسلكَ الصحيح واتَّبعوا السبيل القويم للوصول إلى بُغيَتهم فإنّه لن يحرِمهم من بُغيتهم، فإذا أراد الرجل والمرأة الإنجاب تفضَّلَ الله عليهم بذلك، وإذا ربَّى الإنسان نفسه أو ولده أو من يليه ليكون صالحًا فإنّ الله سيتفضَّلُ عليهم ببعثِ الحياةِ الروحيّة فيهم إذا توطَّد العزمُ عند الإنسان لكي يصل إلى هذه الحياة وإذا شاء الله ذلك، ومن الجدير ذكره أنّ الله قد ذكر مِرارًا بأنّ الحياة الماديّة أي الموت والحياة إنّما هي بيده وحده، كذلك فإنّ الهداية والنشأة الروحيّة إنّما هي بيده أيضًا فيقول جلَّ وعلا:

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً (آل عمران: 146).

ويقول تعالى أيضًا:

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (يونس: 101).

فإذا توطَّد العزم على أن يسير الإنسان في هذه السبيل، فما هو السبيل إلى هذه الحياة؟، إنّ القرآن الكريم وسنّة المصطفى قد أرشدا الإنسان لكي يحيا حياةً ماديّةً جسديّة ونفسيّة سليمة، كما أنّهما بيَّنا الوسيلة إلى الخَلق الآخر وكيفيّته، هذا الخَلق الذي ليس الخلق الأول إلا المؤهِّل للوصول إليه، فحثَّ الإسلام على الطهارة الجسديّة والنفسيّة وعلى حُسنِ الخُلق وعلى تقويمِ النفس وعلى حُسنِ المظهر، كما فرضَ غذاءً روحيًّا يطوِّر البُنيان الروحيّ ويُنشئه ويساعد على إبقائه وصيانته والحِفاظ عليه، ويتمثَّل ذلك في العبادات، ومن الجدير ذكره هنا أنّ هذا الطريق مفتوح لجميع البشر دونَ استثناء، فالكيان الماديّ للإنسان المتمثِّل في الجسد والنفس إنّما هو بمنزلة الرَحِم الذي يمكن أن يستقبل نُطفة الخَلق الروحيّ وفي النهاية يولّد النشأة الأخرى، وهذه المقدرة لم يُحرم منها أيُّ إنسان، ولكن لا بدَّ من الإرادة والحرص على توليد هذه الحياة التي لا موتَ فيها، وهي إن تولَّدت في الخَلق الماديّ أو الكيان المادي المتمثِّل في الجسد والنفس إنّما تَهبُ الإنسان حياةً لا موتَ بعدها ولا يضيرها فناءُ وموتُ هذا الكيان، بعكس الجسد الذي هو في حفرةٍ وسرعانَ ما تلتَهِمُه الأرض وتُفنيه والنفسُ التي هي في البرزخ في حُفرةٍ أخرى لا تقوى على شيء لأنّها بحاجةٍ إلى جسد، والإنسان في هذه النشأةِ الآخرة يكون في حلّةٍ تحتوي على قبسٍ بسيطٍ جدًا من تجلّي الله للدنيا حيث أننا لا نلمسُ من الذات الإلهيّة شيئًا وليست لنا القدرة على ذلك بينما نجد أن يدَ الله تُسيِّرُ كلّ شيء في هذه الدنيا، وكذلك فمن نشأَ هذه النشأة الآخرة فهو حيٌّ إلى يوم القيامة يُشعُّ نورًا يهدي الناس إلى صراط العزيز الحميد، ولا حاجة بعد الآن إلى كيانه الجسدي لكي يقوم بأعماله أو لكي يظهر نوره.

فهل يمكن أن نقول بأنّ المصطفى ميّت، وهل يمكن أن نقول أنّ أتباعه المخلصين أموات، وكيف يمكن لميت أن يكون بمقدوره أن يُحييَ الناس منذ أربعة عشر قرنًا حتى الآن، وهل يمكن لميّت أن يُربِّي تلميذًا ألا وهو المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وأن يُوصله إلى هذه الدرجة باتِّباعه، وهل يمكن أن نقول أنّ المسيح الموعود ميّت وفي كل يوم تزدهر جماعته ويصل هَديُه إلى كل مكان في هذه الأرض، ولقد صرَّح الله تعالى في القرآن الكريم من قبل أنّ الشهداءَ أحياءٌ بينما هم في أجداثِهم، وما ذلك إلا ليُبيّن أنهم يعيشون حياتهم ونشأتهم الآخرة التي تُشعُّ نورًا تجعل الناس يستذكرونهم دومًا ويستمرون في السير على دربهم، وأنّ موتهم إنّما وهَبهم حياةً تجعلهم وهم في قبورهم الماديّة يحرِّكون غيرهم ويستمرون في العمل من أجل القيم والمـــُثُل والدين الذي استُشهِدوا من أجله، وهذا ما بيّنه المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عندما تحدَّث عن حلول أنفسِ الأموات في جسد الأعمال في الدنيا، مع استحالة عودتهم إلى الدنيا بأجسادهم الماديّة.

ومن الجدير ذكره أيضًا أنّ الأشرار أيضًا يحلُّونَ في جسدِ أعمالهم الشريرة، ويدفعون الناس الذين يُحبُّون الظُلمات إلى ظلماتٍ بعضها فوق بعض فهم أئمة، فكما أنّ حياةَ الخيِّرين تُحيي من اتَّبعهم، كذلك موت الأموات يُميتُ من اتَّبعهم.

ولقد كان الإسلام دومًا موئِلاً للحياة ونبيُّ الإسلام الحيّ هو خيرُ مُحييٍ للموتى، ولم يسبق لنبيّ أن أحيا أمواتًا بقدر ما أحيا وسيُحيي نبيُّنا الحيُّ ، وما كانت بعثة الإمام المهدي ونشأة جماعتنا إلا فيضًا من هذه الحياة التي تشعُّ بنور الله، فالدين الذي يُحيي الموتى هو الدينُ الحقّ وهو دينُ الله الحيّ المـــُحيي، وإن كان الأنبياء السابقون يُحيونَ الموتى، فإنّ المصطفى هو النبي الوحيد الذي ما زال يُحيي الموتى، وهو الذي باتِّباعه يحيا الناس كما يقول الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (الأنفال: 25)،

فلا حياة إلا للمصطفى وما إصرار كثيرٍ من المسلمين على حياة المسيح عيسى ابن مريم إلا هو من ظلمات الجهل الذي يعيشون فيه، فلو كان ابن مريم حيًّا لكان دينه حيًّا، فلا معنى لحياته الماديّة في السماء كما يزعمون إن كان دينه قد مات منذ أن زوَّره بولس، وما كان إصرارهم على حياة ابن مريم الماديّة إلا لأنّهم لا يعرفون الحياة ولم يجرِّبوها، إن روح ابن مريم حيّة ولكن شتّانَ بين حياته وحياة المصطفى، والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام الذي أُحييَ بيد خاتَم النبيّين بإذن الله إنّما هو مهديُّ المسلمين، وهو من أخذ يدافع عن الأنبياء الآخرين كما دافع عنهم سيّده، ومن أبرز أعماله أنّه يكسر الصليب الذي تأذّى منه ابن مريم بضع ساعات ثم ما زال يتأذّى منه حتى الآن كونه رمزًا للشرك بالله، فروحُ المسيح توسَّلت إلى الله كي يبعث من يُزيل هذه الوصمَةَ عنها، لذلك سُمِّيَ الإمام المهدي مسيحًا، كما أنّ روح المصطفى قد أحيت من يُدافع عن دينه ما حاقَ به مما ليس فيه، ومن يُكمل المسيرة ويًتابع السيرَ على خُطاه، فكان الإمام المهدي خيرَ مظهرٍ لحياة الرسول وقدرته الروحيّة العظيمة وخَاتَميَّته التي لم يفهمها الكثير من المسلمين، ولو فهموها لتوسَّلوا إلى الله أن يبعث في كلّ يوم نبيًّا من أمّة محمد.

ولقد كان الإسلام دومًا موئِلاً للحياة ونبيُّ الإسلام الحيّ هو خيرُ مُحييٍ للموتى، ولم يسبق لنبيّ أن أحيا أمواتًا بقدر ما أحيا وسيُحيي نبيُّنا الحيُّ ، وما كانت بعثة الإمام المهدي ونشأة جماعتنا إلا فيضًا من هذه الحياة التي تشعُّ بنور الله، فالدين الذي يُحيي الموتى هو الدينُ الحقّ وهو دينُ الله الحيّ المـــُحيي

ولقد تحدَّث القرآن الكريم عن إحياء الموتى في مواضعَ كثيرةٍ، وعنى بها المعاني التي تحدَّثنا عنها سابقًا من أنّ الموت هو الضلال والحياة هي الهداية، وأنّ الموت وصولُ شيءٍ أو أمرٍ إلى الحضيض والحياة هي ارتقاؤه إلى قمّته، ولكن عندما أراد الأموات أنْ يُفسروها فلقد فهموها على أنّها الموت والحياة الماديّة فحسب، إنّ الذي يموت في هذه الدنيا لن يعود إليها تارةً أخرى وقد صرَّح بذلك القرآن الكريم حيث قال تعالى:

وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (الأنبياء: 96)،

وهذه هي سُنّة الله ولا تبديلَ لكلمات الله وسنّته، أما من أراد أن يفهم ما ذُكِر من قصص إحياء الموتى كقصة إحياء بني إسرائيل وإحياء المسيح للموتى، وخلقه للطير، وفي قصة البقرة والقتيل وفي المثال الذي ضربه الله لإبراهيم بأخذِ أربعةٍ من الطير، ومن قبله قصة الذي مرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشِها، فسيعلم بإعادة النظر وبالاستعانة بالله أنّ هذه القصص ليست من قصص الأعاجيب والخرافات وإنّما من الحكمة البالغة التي تضمّنها القرآن الكريم، ومن العجيب أنّ النّمرود في حديثه مع إبراهيم فَهِمَ الإحياء بالإبقاء على حياة أحدِ المحكومين وليس قتله وإعادته إلى الحياة، فقال انا أُحيي وأُميتْ، ولكن يبدو أنّ المنكرين مِن إخواننا قد تجاوزوا ما كان عليه النَّمرود من جهالة.

ولقد نوّهنا سابقًا بأنّ أداة الخلق الآخر أو النشأة الآخرة إنّما هي الوحي الذي هو وسيلتها وأداتها وكيانها، لذلك فلا عجبَ أن استخدم الله تعالى كلمة الروح لتعني الوحي كما في قوله تعالى:

يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ (النحل: 3)،

ويقول تعالى في سورة المؤمن:

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ،

وكما قلنا سابقًا فإنّ الله تعالى قد بيّن بأنّ الروح هي من أمرِ الله أي من إرادته المباشرة وهي لا تخضع لما يعرف الناس من قوانين، إذن فلا سبيل للروح إلا بالروح أي الوحي، ولقد بيّن الله تعالى أنّ الوحي إنّما هو كالمطر الذي ينزل من السماء فَيُحيي الأرض، فلقد قال تعالى:

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الأعراف: 59)،

ويقول تعالى:

فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الروم: 51)،

ويقول تعالى أيضًا:

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (فصلت: 40)،

وبعد كل هذا تجد الأموات يُصرُّون على انقطاع الوحي وهو عِماد الحياة كلّها، فكيف يمكن لمن يُنكر الماء أن يعرفه ويشرب منه، إنّ الذي يرجع بالغيث على الأرض فيبعث الحياةَ فيها في كلِّ عام لما زالَ يُنزل الوحي لكي يبعثَ الحياة في الأموات ولكي يَهدي الناس إلى سُبل الخير، إنّ من يُنكر الوحي ويقول بانقطاعه هو لاشكَّ من الأموات الذين لم يُسقوا منه ولم يحاولوا أن يحصلوا عليه، إنّ هذا الوحي الذي يقود إلى هذه الحياة إنّما هو من نطلبه فيما يربو على ثلاثين مرّةً في اليوم بقولنا “اهدِنا الصراط المستقيم” في قراءتنا للفاتحة في صلواتنا، إنّ جُلَّ عباداتنا إنّما هي لاستمطارِ الوحي والروح، فلطالما ردَّدنا في صلواتنا الصلاة الإبراهيميّة ولطالما كنا نرجو الله في صلواتنا أن يُصلي على محمد وآله، كما صلّى على إبراهيم وآله، وأن يُبارك على محمدٍ وآله كما باركَ على إبراهيم وآله، فما هي هذه الصلاة وتلك البركة إلا أن يُنعِم الله على آل محمد بأن يبعث فيهم من أنفسهم أنبياء، وأن يجعل في ذريّة المصطفى النبوة والكتاب، وأن يُؤتي نبيّنا من نسله الروحيّ من هم كإسحاق ويعقوب وإسماعيل الذين جعلهم الله تعالى أئِمةً يَهدونَ بأمره وأوحى إليهم فِعلَ الخيراتِ وإقامَ الصلاة، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنةُ الله على الكافرين، اللهم أكرِم أمّة نبيّك باتِّباع النور الذي نزل فيهم وأَجِرْهُم من لعنتك ومن غضبك وسَخطِك، اللهم لا تحرمهم الحياة فلقد غرِقوا في ظلمات الموت قرونًا، ربّنا أرِهم سبيلك، واهْدِهم صراطك المستقيم، وأَحيهِم بعدَ إذْ أَمتَّهُم إنّك أنت الرحمن الرحيم، اللهم لا تحرمنا مطر السماء، وابعثْ فينا روحًا من أمرك واجعلنا مسلمين، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كُنا لنهتديَ لولا أنْ هدانا الله، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك