ولكم في إسلام المغول عبرة..!
  • قبائل المغول والتتر
  • كيف اعتنق المغول الإسلام

__

حينما تنهال الاتهامات من كل حدب وصوب ضد الدين الإسلامي الحنيف أنه دين إرهابي انتشر بالقوة والإكراه، لا يسعنا إلا الرجوع وقراءة التاريخ قراءة فاحصة؛ لنذكّر هؤلاء الناقمين على ديننا الحنيف بما نسَوه أو تناسَوه من تاريخ هذا الدين المجيد، ولنقوّم ما شُوّه عمدا أو بغير قصد من هذا التاريخ؛ كما لا بد من ذكر ما هو معروف للجميع، وتبيان حقيقته إذا ما فُهمت بشكل خاطيء، لكي لا يصبح المعروف مجهولا على مر السنين، انطلاقا من قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ؛ ثم لا بد كذلك من ترويج ما لم يرُج ذكره من قبل، ليصبح المجهول معروفا ورائجا بين الجميع، عسى أن ينتفع به المسلمون وأعداء الإسلام على حد سواء؛ وهذا الهدف الأخير، هو ذات ما نبغيه من هذا المقال المتواضع.

ونحن إذ ننبري بكل طريقة ووسيلة إعلامية للذود عن حياض ديننا الإسلامي الحنيف، ونعلن للقاصي والداني أن الإسلام قد انتشر بقوته الروحانية وليس بقوة السيف، ونسوق لذلك شتى الأمثلة والبراهين من التاريخ الإسلامي وسيرة سيدنا محمد المصطفى وخلفائه الراشدين (رضي الله عنهم)؛ لنبين أن الحروب الإسلامية، والجهاد الإسلامي ما كان إلا دفاعيا من أجل حفظ الحريات الأساسية لأفراد المجتمع، وما كان أبدا من أجل نشر الدين وإكراه الآخرين على قبول الإسلام – قلّما نخوض في حدث هو في غاية الأهمية، من شأنه أن يخدم هذا الهدف الجليل الذي نسعى من أجله، وأقصد بهذا الحدث، إسلام القبائل المغولية أو التتارية، التي عاثت في بلاد المسلمين فسادا ودمارا، شهد التاريخ على وحشيته بما لا يحتاج إلى المزيد من الوصف.

ما يهمنا من وراء هذا التاريخ المظلم،كيف ومتى بدأ تحول هذه القبائل الغازيَة من هذا العداء الوحشي، إلى أمة مسلمة تسيطر على أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ من حيث المساحة،

وللحديث عن هذا الموضوع لا بد من تقديم وجيز عن هذه القبائل، لنوضح أن لفظ “المغول” أو “التتار” هي ألفاظ عامة أطلقها العرب على قبائل جنكيز خان وأحفاده، وهي عبارة عن خليط من القبائل المغولية والتترية والتركية (تتر التغزغز، المعروفين ببدو الأتراك)، التي سكنت هضبة منغوليا شمالي صحراء جوبي، والمناطق الشمالية من آسيا المعروفة بسيبيريا المغولية؛ وهنالك من المؤرخين من يصنف المغول بأنهم صنف من الأتراك. وقد كانت الديانة الشامانية هي الديانة السائدة بينها رغم اعتناق بعض القبائل الديانة البوذية والمسيحية وكذلك الإسلامية، كما سنبينه لاحقا. وعند ظهور جنكيز خان قام هذا بالسيطرة على هذه القبائل وإخضاعها لحكمه حتى سيطر على إمبراطورية مترامية الأطراف، وأمّر عليها أولاده الأربعة (كوجي، أوكتاي،جكتاي وتولي)، حيث اقتطع لكل واحد منهم جزءا منها. وكما هو معلوم فقد غزا جنكيز خان الدولة الخوارزمية المسلمة، وقضى عليها ودمر مدنها العريقة مثل بخارى وخوارزم؛ ليشكل هذا الغزو بوابة للانقضاض على الدولة العباسية، حيث غزا التتار بعدها البلاد الإسلامية ودمروا بغداد سنة 656 هجرية بقيادة قائدهم العسكري المجرم هولاكو، وكان ذلك في عهد منكو بن جنكيز خان، واستمر هؤلاء باحتلال البلاد الإسلامية إلى أن أوقف المماليك زحفهم بانتصارهم عليهم في معركة عين جالوت سنة 658 هجرية.

ما يهمنا من وراء هذا التاريخ المظلم،كيف ومتى بدأ تحول هذه القبائل الغازيَة من هذا العداء الوحشي، إلى أمة مسلمة تسيطر على أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ من حيث المساحة، والتي امتدت من الصين شرقا حتى بولندا والمجر غربا، ومن سيبيريا شمالا حتى الهند جنوبا، وتركت وراءها أثرا وبصمة وحضارة إسلامية عريقة؟ فهل يا ترى، دارت عليهم الدائرة من جديد ليُعمِل المسلمون في رقابهم السيوف كي يعتنقوا الديانة الإسلامية عنوة، كما يروج له الحاقدون على الإسلام على وجه العموم؟

إن دراسة تاريخ هذه القبائل يؤكد أن الإسلام بدأ بالتغلغل بينها، لا سيما بين قبائل تتر التغزغز ذات الأصول التركية، منذ القرن الرابع الهجري حيث أسلم ملكهم “ستوق بقراخان”، بفضل حركة دعوية لأحد مشائخ الصوفية المعروف بأحمد اليسوي، المولود في مدينة يسيّ في ما يعرف اليوم بجمهورية قازقستان؛ ثم نشر هؤلاء الإسلام بين القبائل القرغيزية المجاورة لها، وقد خضعت هذه القبائل كلها فيما بعد لحكم جنكيز خان. ورغم أن إسلام هذه القبائل لم يكن له أثر كبير على باقي القبائل المغولية، إلا أننا نرى أن بداية اعتناقهم للإسلام وتعرّفهم على هذا الدين الحنيف،  لم يكن إلا وليد عملية تبليغية سلمية لم يُرفع فيها سيف ولم يُرق بها دم، بل يعتنق أحد ملوك هذه القبائل الإسلام وهو متربع على سدة حكمه؛ فيا حبذا لو يدلنا المغرضون على من يُكره ملكا كهذا  على اعتناق دينه!

فهل يا ترى، دارت عليهم الدائرة من جديد ليُعمِل المسلمون في رقابهم السيوف كي يعتنقوا الديانة الإسلامية عنوة، كما يروج له الحاقدون على الإسلام على وجه العموم؟

وتمضي السنون وتتوالى الأحداث، ليظهر جنكيز خان من بين القبائل المغولية، وليسيطر عليها ويوحدها تحت حكمه، ويقوم بالانقضاض على الدولة الخوارزمية الإسلامية والقضاء عليها. وقد اتسمت علاقة المغول وملوكهم بمن يخضعون لحكمهم من المسلمين بالتأرجح بين التعامل الحسن تارة، والكراهية والبغض ثم الاعتداء عليهم تارة أخرى؛ فهذا هو كوجي، الابن البكر لجنكيز خان، يحب المسلمين ويعطف عليهم، ويعترض على دموية أبيه تجاه المسلمين، ليكون أخوه جكتاي على النقيض منه مبغضا للمسلمين. وأما علاقة أبناء البيت المالك، أبناء جنكيز خان وأحفاده مع بعضهم البعض، فكثيرا ما كانت تطغى عليها الصراعات الداخلية على تقلد سدة الحكم.

أما التحول الأساسي في سلالة جنكيز خان بالنسبة لقبول الإسلام واعتناقه، فكان بفضل تقلد بعض الشخصيات الإسلامية مناصب وزارية في الدولة المغولية، وأهم هذه الشخصيات هو “محمود يلواج” وابنه “مسعود بيك”، اللذان قاما بالتقرب من أفراد الأسرة المالكة، لا سيما أبناء الابن البكر لجنكيز خان (كوجي) واستمالتهم للإسلام؛ وبفضل جهودهم التبليغية وحثهم مشائخ الصوفية على نشر الإسلام بين المغول أسلم ابن “كوجي” وهو “بركة خان” (حفيد جنكيز خان)، ليكون أول من أسلم من ملوك التتار من سلالة جنكيز خان. وقصة إسلامه تعود إلى سنة 640 هجرية خلال زيارته لبخارى، بعد سقوطها سنة 611 هجرية بقبضة جنكيز خان، حيث التقى بركة خان بالشيخ البخاري سيف الدين الباخرزي وأسلم على يده؛ وبإسلامه ضربت شجرة الإسلام جذورها في بيت جنكيز خان، لتعطي أكلها في المستقبل بتقبل قطاعات واسعة من التتار للديانة الإسلامية واعتناقها.

رغم المعارك التي دارت بين التتار والمسلمين، ورغم انتصار المسلمين عليهم في معركة عين جالوت، لم يكن إسلامهم نتيجة لهذه المعارك وانتصار المسلمين عليهم، إذ لم يكن قتال المسلمين لهم من أجل إرغامهم على الإسلام، وإنما من أجل الدفاع عن أنفسهم ورد الغزو -الذي بدأه التتار بأنفسهم- وما تبعه من قتل ودمار.

وقد شاءت الأقدار أن يتقلد بركة خان سدة الحكم على الممالك التابعة لأبناء كوجي، وبتقلده زمام الحكم في بيت كوجي،  أقام دولة مستقلة عن دولة المغول، وعنف ابن اخيه هولاكو على الدمار الذي أوقعه في ديار المسلمين وقتلِه للخليفة العباسي، ودارت رحى الحرب بين بركة خان وابن عمه هولاكو، انتصر في بدايتها بركة خان ثم تراجعت هذه الانتصارات فيما بعد، ولم تسفر المعارك المتأخرة عن نتائج ملموسة .

وبموت منكو ( الأخ الأكبر لهولاكو) توطدت مكانة بركة خان بن كوجي بن جنكيز خان في البيت المغولي، وبدأ انحسار النفوذ المسيحي فيه وصعود النفوذ الإسلامي، إذ انضم إلى الإسلام في عهده عدد من إخوته وقواد جيشه بالإضافة إلى زوجته، إلا أن الإسلام لم ينتشر في مملكته إلا بعد موته بنصف قرن تقريبا.

وهو منذ إسلامه وحتى وفاته، كان يداوم على إقامة الصلاة جماعةً، وله مؤذن وإمام خاص.

وبعد موت أرغون خلفه ابنه غازان، الذي أسلم وأسلم معه أخوه أليجاتو؛ وبإسلامهم اندحرت البوذية والشامانية والنصرانية من مملكة فارس وساد بها الإسلام بفضل الدعاة الصوفيين.

أما الفرع الأكثر عدائية  للمسلمين من بيت جنكيز خان،  والمتمثل بمنكو وأخيه هولاكو  أبناء تولي بن جنكيز خان، فرغم ما أظهره هؤلاء من عداء ووحشية تجاه المسلمين، إلا أن قدر السماء شاء أن يخرج من أصلابهم من يعتنق الإسلام ويقاتل من أجله ويستشهد في سبيله. فبعد موت هولاكو العدو الأكبر للمسلمين اعتلى العرش مكانه ابنه أحمد تكودر، الذي أسلم عقب تسلمه العرش، وكان إسلامه  مثار حفيظة ابن أخيه ( أباقا) واسمه أرغون وكان يدين بالديانة البوذية، فقام الأخير بمحاربة عمه تكودر وقتلِه بسبب إسلامه. وبعد موت أرغون خلفه ابنه غازان، الذي أسلم وأسلم معه أخوه أليجاتو؛ وبإسلامهم اندحرت البوذية والشامانية والنصرانية من مملكة فارس وساد بها الإسلام بفضل الدعاة الصوفيين.

وملخص القول من كل ما تقدم، أن قصة إسلام المغول قصة فريدة من نوعها في تاريخ البشرية، بحيث لا يمكن أن يقال رغم العداء البدائي بينهم وبين المسلمين، بأنهم قد اعتنقوا الإسلام كرها وقسرا، فقد رأينا مما تقدم ذكره ما يلي:

– أن جزءًا يسيرا منهم قد تعرف على الإسلام واعتنقه حتى قبل غزوهم البلاد الإسلامية.

– أن اعتناق بعض أفراد البيت المالك للإسلام كان بفضل جهود دعوية للوزراء المسلمين الذين تقلدوا مناصب مرموقة في إدارة شؤون الدولة.

– أن تقبل قطاعات واسعة منهم للديانة الإسلامية، قد حدث في الوقت الذي كان به المغول يمسكون بزمام الأمور، وملوكهم تتربع على عروشها، فقد اعتنق بعض ملوكهم الإسلام عقب اعتلائهم العرش، بحيث لا يمكن لأي شخص أن يدعي بأن هؤلاء الملوك ورعاياهم قد أُجبروا على اعتناق الإسلام.

– لم يكد يمضي نصف قرن منذ الغزو المغولي للبلاد الإسلامية، حتى اعتنق أغلب المغول الديانة الإسلامية، وما كان هذا إلا وليد حركة تبليغية دعوية من قبل مشائخ الصوفية، ساعد على نجاحها إسلام بعض الملوك منهم، واعتنائهم بإنشاء المدارس والمساجد.

– رغم المعارك التي دارت بين التتار والمسلمين، ورغم انتصار المسلمين عليهم في معركة عين جالوت، لم يكن إسلامهم نتيجة لهذه المعارك وانتصار المسلمين عليهم، إذ لم يكن قتال المسلمين لهم من أجل إرغامهم على الإسلام، وإنما من أجل الدفاع عن أنفسهم ورد الغزو -الذي بدأه التتار بأنفسهم- وما تبعه من قتل ودمار. نعم، لقد أوقفت معركة عين جالوت المد المغولي في البلاد الإسلامية، -حيث هدد هؤلاء دولة المماليك في مصر، بإرسال هولاكو رسالة إلى السلطان قطز يهدده ويتوعده فيها أن يستسلم ويقدم له فروض الطاعة-، غير أن التتار بعد هذه المعركة بقوا مسيطرين على مساحات واسعة من البلاد الإسلامية التي احتلوها في الشرق كبلاد فارس، وقد انتشر الإسلام بينهم وهم لا يزالون مسيطرين على هذه البلاد.

وبينما كان هؤلاء في غَمرة غزوهم هذا، بدأ الإسلام يتغلغل رويدا رويدا في صفوف أبنائهم بقوته الروحانية، ليبدل الله شأنهم من ألد أعداء للإسلام إلى مجاهدين في سبيله، وليَظهر فيهم الكثير من الملوك والشيوخ والعلماء الأتقياء المدافعين عن هذا الدين الحنيف.

– فَهُم الغزاة -وليس المسلمون- الذين غزوا بلاد المسلمين واستباحوا حرماتها ومقدساتها، وأوقعوا فيها من القتل والخراب والدمار ما تبلغ منه القلوب الحناجر، وتقشعر منه الأبدان؛ وكانوا ذوي منعة وقوة بحيث لم يقدر المسلمون على مقاومتهم، بادئ الأمر؛ وبينما كان هؤلاء في غَمرة غزوهم هذا، بدأ الإسلام يتغلغل رويدا رويدا في صفوف أبنائهم بقوته الروحانية، ليبدل الله شأنهم من ألد أعداء للإسلام إلى مجاهدين في سبيله، وليَظهر فيهم الكثير من الملوك والشيوخ والعلماء الأتقياء المدافعين عن هذا الدين الحنيف، أمثال السلطان “طرمشرين”، والذي عُرف بصلاحه وعدله، رغم كون أبيه “جكتاي بن جنكيز خان” من ألد أعداء الإسلام.

فبعد أن سقنا في مواضع أخرى شتى الأمثلة والبراهين من التاريخ الإسلامي، لنثبت أن انتشار الإسلام لم يكن بالقهر والإجبار، نقول لمعارضينا في هذه المسألة، مسلمين كانوا أو حاقدين على الإسلام:

“ولكم في إسلام المغول عبرة..!” فهل من معتبر؟

المصادر:”كيف أسلم المغول؟ دور التركستان في إسلام المغول” ، د. محمد علي البار”المغول في التاريخ” ، د. فؤاد عبد المعطي الصياد
Share via
تابعونا على الفايس بوك