- فهل رحمة الله مقصورة على المؤمنين حصرا؟ أم تسع المؤمنين والكافرين؟
____
التفسير:
اعلم أن الرحمة لها مفهومان في مصطلح القرآن الكريم. أولهما النعم التي نتمتع بها نتيجة الرحمة الإلهية العامة الشاملة للجميع. فمثلا لو سأل امرؤ ربه أن يرزقه ولدًا برحمته فوهبه ولدًا، أو لو دعا شخص ربه أن يكتب لـه النجاح في قضية في المحكمة، فكان النجاح حليفه، أو دعا رجل ربه بسعة الرزق، ثم زال ضيقه، فلا شك أن كل هذه الأحداث كانت نتيجة رحمة الله تعالى، ولكنها مظاهر لرحمته العامة، التي لا تفرّق بين كافر ومؤمن ومنافق. والنوع الثاني من رحمة الله هو تلك النعم التي يخص بها بعض عباده ولا يشترك معهم فيها غيرهم.
والحديث هنا يدور حول رحمة الله الخاصة، حيث يقول الله تعالى إننا لم نعامل إبراهيم وإسحاق ويعقوب معاملة عادية، بل خولّنا لـهم رحمتَنا نفسها. إن الشيء الذي وهبناه لهم ليس ولدًا أو مالاً أو منصبًا أو درجة، بل وَهَبْنا لـهم ِمن رحمتنا أي أننا وهبنا لهم الرحمة نفسها، وقلنا لهم سلُوا ما شئتم نُعْطِكم. ومثله كمثل ما حصل بحضرة الخليفة الأول للمسيح الموعود . فكان يقول إنني لما ذهبتُ للحج، واكتحلتْ عيني برؤية الكعبة المشرفة لأول مرة، تذكرتُ أنه قد ورد في الحديث أدعو الدعاء الذي يدعو به المرء ربه عند أول نظرة إلى بيت الله الحرام مجاب ومقبول. فقلت في نفسي بماذا أدع؟ ففكرت طويلا وقلت في نفسي لو دعوت اليوم دعاء واستُجيب، فإني لا بد أن أحتاج غدًا أيضًا لشيء آخر، فماذا أفعل عندئذ؛ فعليّ أن أقوم بدعاء جامع لكل حاجاتي طوال حياتي. فدعوت ربي قائلاً: ربِّ اجعَلْ بفضلك كل دعاء أقوم به في حياتي دعاءً مجابًا. وتأسيًا بحضرة الخليفة الأول قد دعوتُ أنا الآخر هذا الدعاء نفسه عندما وقع نظري لأول مرة على الكعبة المشرفة. وهذا ما يقول الله تعالى هنا ووهبْنا لـهم من رحمتنا .. أي قلنا لهم لا نهَب لكم نعمة واحدة، تعالوا نُعْطِكم رحمتنا نفسها. وكأنهم عثروا على زِنْبِيلٍ كَـ «زنبيلِ عُمرَ العيّار»، الذي كان كلما احتاج إلى شيء أدخل يده في زنبيله وأخرجه منه.
ثم يقول الله تعالى وجعلْنا لهم لسانَ صدقٍ عَلِيًّا . اعلم أن لفظ الصدق إذا أضيف إلى شيء دل على كونه صادقًا ومَرضيًّا .. أي كاملاً ومرغوبًا فيه. فمثلا لو قلنا إنه «تمرُ صدقٍ» فالمعنى أن فيه كل المواصفات التي يجب أن توجد في التمر الجيد، أي أنه تمر طيب شهي لذيذ. أو لو قلنا مثلا إن هذا «شمّام صدقٍ» فالمراد أنه يوجد فيه على وجه التمام والكمال كل ما يوصف به الشمام الجيد من رائحة وطعم. فالمراد من قوله تعالى وجعلْنا لهم لسانَ صدقٍ عَلِيًّا .. أنهم أُعطوا من الله تعالى لسانًا متصفًا بالكمال والرضا، بمعنى أن الله تعالى وفّقهم لأن يتكلموا بكلامٍ رائع خالٍ من القسوة والجفاء، ومنـزهٍ عن الحقد والبغضاء. ثم إنه كان كلامًا حكيمًا يُعجب سامعَه..
ثم إذا أضفتَ الصدق إلى شيء دل على دوامه، وعليه فالمعنى أننا وهبنا لهم كلامًا كُتب لـه الدوام والخلود. أما إذا أُريد باللسان لسان غيرهم فالمراد أن الله تعالى سيخلق في الدنيا دائمًا أناسًا يثنون على إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ويشيدون بهم، ويحيون ذكرهم، وينشرون حكمتهم.
أما لفظ عليًّا الذي ورد هنا صفةً للسان، فله مدلولات ثلاثة: المرتفع، الشريف، والشديد (الأقرب). وعليه فيكون المراد من قوله تعالى وجعلنا لهم لسانَ صدقٍ عليًّا كما يلي:
الأول، أنهم قد أُعطوا لسانًا رفيعًا.. أي أنهم كانوا يتكلمون بكلام عال حكيم بريء من الحقد والشحناء، يعمر القلب بنور الإيمان، ويهذب الأخلاق، ويزيد المرء طهارة وقداسة.
والثاني: أن الله تعالى كتب لهم مدحًا عظيمًا رفيعًا.. أي كان الناس يثنون عليهم ثناء عاليًا. ومثاله الدعاء الذي عُلّمتْ إياه أمةُ المصطفى ، أعني: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد * اللهم بارِكْ على محمد وعلى آل محمد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
فكأنهم إذا أُعطوا لسانًا فكان عاليًا، وإذا كُتب لهم ثناء فكان رفيعًا أيضًا.
الثالث: أما إذا اعتبرنا لفظ «عليًّا» بمعنى الشريف، فالمعنى أنهم وُهبوا لسانًا شريفًا.. أي كان كلامهم لطيفًا بريئًا من الشر، وكانت أقوالهم خالية من البغض والشحناء. فكانوا يتكلمون دائمًا بكلام مهذب طاهر.
الرابع: أو المعنى أننا وهبنا لهم ثناء شريفًا.. أي كان الناس يشيدون بأخلاقهم الفاضلة، معترفين بكونهم من عباد الله المقدسين المقربين.
الخامس: وإذا اعتبرنا لفظ «عليًّا» بمعنى الشديد فالمراد أننا أعطيناهم لسانًا شديدًا.. أي لسانًا شجاعًا لا يخاف في بيان الحق لومة لائم. فإذا قابلهم مشرك أو من يتوقح في حق الله تعالى قالوا لـه بصراحة وصرامة: لا علاقة لنا بك، فنحن وأنت على طرفي نقيض.
السادس: أو المعنى أنهم تلقَّوا منا ثناءً شديدًا.. أي منحنا لهم أتباعًا مدحوهم رغم الشدائد، فلو وُضع أحدهم تحت السيف لما ارتدع عن قوله: نِعْمَ الرجل إبراهيمُ، ونِعم الرجل إسحاق، ونِعم الرجل يعقوب. وبالفعل ترى أن المسلمين لا يذكرون أحدًا من هؤلاء الأنبياء بدون أن يقولوا: عليه السلام. كما أنهم يقرّون بعد كل صلاة أن الله تعالى قد صلى على إبراهيم وآله وأنزل عليه وعلى آله بركات كثيرة. وهذا يعني أن هذا النبأ إنما يتحقق في هذا العصر على يد المسلمين وحدهم.
إذًا فلقوله تعالى وجعلنا لهم لسان صدق عليًّا عشرة مفاهيم.
التفسير:
يذكر الله تعالى الآن موسى بعد الحديث عن إسحاق ويعقوب عليهم السلام جميعًا. والحق أن إسحاق ويعقوب قد ذُكرا هنا ضمنيًّا مع إبراهيم الذي هو المقصود الحقيقي هنا كما يدل على ذلك قول الله تعالى من قبل واذكُرْ في الكتاب إبراهيم . وقد ذكر الله تعالى إسحاق ويعقوب هنا للإشارة إلى أحد شِقَّي العهد الإبراهيمي الذي كان خاصًّا ببني إسحاق. أما الآن فيذكر الله تعالى السلسلة الموسوية، لينبه إلى أن العهد الذي قطع الله تعالى مع نسل إبراهيم، والذي كان من المقدر أن يتحقق أحد شِقَّيه على يد بني إسحاق، كانت فيه إشارة إلى مقام روحاني خاص وهو المقام الموسوي. ذلك أنه كان من علامات ذلك العهد الإبراهيمي إعطاء أرض كنعان لذرية إبراهيم، كما ورد في التوراة (التثنية 1: 5-9)؛ وقد وقعت كنعان في قبضة بني إسرائيل في عهد موسى ، كما وُضع الأساس للنبوة التشريعية فيهم بواسطة موسى نفسه.
قصارى القول لكي يشرح الله تعالى لنا ماهية السلسلة المسيحية قد لفت أنظارنا أولاً إلى إبراهيم، ثم بيّن لنا أن الوعود التي قطعها الله تعالى مع إبراهيم في حق نسله قد بدأ تحققُها أولاً من خلال إسحاق وذريته، وكان لموسى صلة وثيقة بتحقق هذه الوعود نفسها. هذه هي الحكمة وراء ذكر موسى هنا بعد الحديث عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أجمعين.
يقول الله تعالى واذْكُرْ في الكتاب موسى إنه كان مخلَصًا وكان رسولاً نبيًّا . وأخلص الشيء يعني جعله مختارًا خالصًا من كل الشوائب والمفاسد. واعلمْ أن الناس نوعان: مخلِص ومخلَص. والمخلِص من ينـزه معاملاته كلها عن المداهنة بكل أنواعها، ويطهر قلبه من النفاق كليًّا. أما المخلَص فهو من يتولى الله بنفسه تطهيره من كل فكر فاسد ووهم باطل ووسوسة وشبهة. وكأن المخلَص من يختاره الله تعالى لنفسه من العباد، ويطهره من كل رجس ودرن. ومثاله ما تفعله ربة البيت بالقمح أو الخضار أو اللحم وما إلى ذلك. فبرغم أن هذه الأشياء تكون متوافرة في البيت، أو قد أُحضرتْ من السوق، ولكن ربة البيت حين أرادت استعمالها اهتمت بتجهيزها وتنظيفها بطريق خاص. فهي إذا أرادت أن تصنع من القمح دقيقًا، قامت بتصفيته من كل شيء فاسد من حجر أو ورق أو قشّ. أو إذا أرادت أن تعجن الدقيق لتصنع منه الخبز قامت بتنقيته بالغربال. أو إذا أرادت طبخ اللحم أزالت منه ما لا يصلح للأكل من الغدد الفاسدة وغيرها. وإذا أرادت طبخ الخضار غسلتها جيدًا ليزول منها التراب أو تقوم بقشرها. فترى أن الوقت الذي يُجعَل فيه الشيء مخلَصًا هو وقت استعماله. إن الشيء الطيب طيب في كل حال، ولكنه يطهَّر من الشوائب تمامًا وقت استهلاكه.
فقوله تعالى إنه كان مخلَصًا يعني أن موسى وُلد في عصر أراد الله تعالى فيه أن يختار واحدًا من البشر لخدمة معينة، فانتقاه الله من بين الجميع، وطهّره تطهيرًا لكي يصلح للقيام بما أراد أن يفوّض إليه من مهام على ما يرام. وهذا يوضح أن الإنسان لا يصير نبيًّا عن طريق الصدفة، بل يختار الله تعالى نفسًا من النفوس ويعدّها لذلك إعدادًا. فكلمة مخلصًا تدل على أن الله تعالى أراد تفويض خدمة معينة لموسى .
أما قول الله تعالى وكان رسولاً نبيًّا .. فبيّن فيه الخدمة التي فوضها إلى موسى بعد أن جعله مخلصًا. كان من الممكن أن يُفوَّض إليه ما يُفوَّض إلى الصالحين أو الشهداء أو الصدّيقين، ولكن الله تعالى يخبر هنا أننا بعد أن اخترناه، شرفّناه بمقام الرسالة والنبوة.
يقول عامة المفسرين والمتكلمين عندنا أن الرسول من يأتي بكتاب، والنبي من لا يأتي بكتاب، وإنما يؤمر من عند الله تعالى بهداية الناس (فتح البيان).
النبوة مشمولة في الرسالة؛ إذ من المحال أن يكون أحد مبعوثًا من عند الله تعالى، ويأتي بكتاب، ومع ذلك لا يكون نبيًّا.
فثبت أن ما يقوله المفسرون لا ينطبق هنا، بل لا بد لنا من تفسير قوله تعالى إنه كان رسولاً نبيًّا بمفهوم آخر. وليس ذلك المفهوم إلا ما تذكره جماعتنا أي أن الرسول يعني من يُرسل ويُبعث، والنبي يعني من ينبئ ويخبر. وهذا صحيح تمامًا، حيث يكون الإنسان أولاً مرسَلاً ثم نبيًّا، أي أنه يُرسَل من عند الله تعالى أولاً، ثم يخبر الناسَ بما عنده من أخبار إلهية. (يُتبع)