صفة أهلِ الجنة، كلامهم وسماعهم ورزقهم
  • ما طبيعة رزق أهل الجنة وما السمة الغالبة عليه؟
  • من يرث الجنة وفق منطوق النص القرآني؟

____

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا * (مريم 63-64)

التفسير:

يمكن أن تكون كلمة إلا سلامًا في قوله تعالى لا يسمعون فيها لغوًا إلا سلامًا استثناء متصلاً، وقد يكون استثناء منقطعًا. فإذا كان استثناء متصلاً فالمعنى أنه إذا كان في الجنة شيء من فضول الكلام مما لا يُعتدّ به فأيضًا يكون سلامًا. ذلك أن اللغو يعني ما لا يُعتد به (المفردات). فمثلاً لو بيّنتَ شيئًا في دقيقتين في حين أنك تستطيع بيانه في دقيقة واحدة، فالكلام الزائد الذي استغرق دقيقة زائدة يُعَدّ لغوًا. فلقد وجدتُ أن بعض الناس يأتي لمقابلتي، فيبدأ في بيان قصة كلها لغو ولا علاقة لـه مطلقًا بغايته الأساسية. فيقول مثلاً هناك صديق حميم لي في مدينة «دلهي»، وذهبت لزيارته قبل أيام، وقد دار بيننا كذا وكذا من الأمور. ثم حصل الشجار بيني وبين فلان، فاضطررتُ للمجيء إلى مدينة لاهور، وقابلت هناك فلانًا وفلانًا. ثم جئتُ هنا لبعض حاجاتي، ففكرت أن أزور حضرتكم أيضًا. وهكذا يحكي قصة طويلة لا علاقة لها بقصده الحقيقي. فثبت بذلك أن المرء يتكلم بكلام زائد حتى في حديثه عن بعض الأمور الهامة أيضًا. ولذلك يقول الله تعالى هنا لا يسمعون فيها لغوًا .

وقد يقول هنا قائل: لنفترض أن أحدًا يتحدث في الجنة بكلام لغو، فماذا إذًا؟ وردًّا على هذا الافتراض قال الله تعالى إلا سلامًا .. أي لو سلّمنا جدلاً أن أحدًا سيتفوه في الجنات بلغوٍ من الكلام فلن يكون حتى لغوه شرًّا بل يكون سلامًا وخيرًا. وبتعبير آخر، أنه إذا خرج من فم أحد في الجنة كلام زائد فلن يكون إلا كلمة سلام فقط.

أما إذا كان الاستثناء هنا منقطعًا فالمعنى أنه لن يقترب من أهل الجنة اللغو أبدًا، بل سيتكلمون في كل مكان بما فيه سلام، لأنهم يكونون عند الله الذي هو السلام، وفي دار هي السلام، وبين الملائكة الذين يقولون لهم سلامًا سلامًا.

وثمة أمر آخر قد نبّهتْ إليه هذه الآية، وهو أن الله تعالى لا يقول هنا أنهم في الجنة لن يأتوا اللغو من الأعمال، إنما يقول إنهم لن يسمعوا اللغو من الكلام. ذلك لأن الإنسان يحسن الظن حين يخص الأمر بنفسه، أما فيما يتعلق بالآخرين فإنه توّاقٌ إلى سماع عيوبهم وإشاعتها. ولكن الله تعالى يخبر هنا أن أهل الجنة سيتبوءون من الصلاح والتقوى درجة بحيث لن يسيء أحد الظن بغيره. والمكان الذي لا يحتمل الواحد من سكانه أن يسمع شيئًا من الكلام السيئ عن غيره لا بد أن يكون مقامًا عاليًا في الصلاح والخير.

أما قول الله تعالى ولهم رزقُهم فيها بُكرةً وعشيًّا ، فقد قال البعض أن معناه أن أهل الجنة لن يُعطَوا إلا وجبتين: وجبة في الصباح وأخرى في المساء، لأن الله تعالى قد نهى عن الإسراف! ولكن هذا غلط، لأن البكرة والعشي لها مفهوم أوسع من ذلك، إذ لا يعني لفظ البكرة الصباح فحسب، بل يعني أول النهار أيضًا (لسان العرب). كما أن العشي لا يعني المساء فقط، بل يعني أيضًا ما بين زوال الشمس إلى الصباح (الأقرب). فالمعنى أنهم سيُعطَون رزقهم كل حين.

وقد يقول هنا قائل: كيف يمكن أن يأكل المرء في كل وقت؟ والجواب أن الرزق يعني الشيء الموهوب، وذلك الشيء الذي يُعطَونه في الجنة كل حين هو رؤية الله وكلامه، وهما ليس مما يصيب المرء بالتخمة.

ثم يجب أن يؤخذ في الحسبان أن الله تعالى لم يقل هنا «ولهم الرزق»، بل قال تعالى ولهم رزقُهم .. أي أنهم يُعطَون رزقًا ملائمًا لهم. فثبت أن الرزق لا يعني هنا الطعام فقط، بل رزقًا يناسب حالهم، ولن يعطوه صباحًا ومساء، بل سيُمَدّون به كل حين وآن.

ثم قال تلك الجنة التي نُورثُ مِن عبادنا مَن كان تقيًّا .. أي أن تلك هي الجنة التي سنجعل عبادنا المتقين وَرَثةً لها.

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (مريم 65)

 التفسير:

يقول المفسرون في شأن نـزول هذه الآية أن النبي سُئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فوعد بالإجابة عن قريب، ولكن جبريل تأخر عنه بالوحي، فوقع في ابتلاء كبير. ولما نـزل جبريل بعد فترة، اشتكى إليه النبي وقال: يا صاحِ، لم احتبستَ عني؟ قال: إنما نأتي حين يأمرنا ربك، ولا نأتيك حين لا يأمرنا (روح المعاني).

بغض النظر عن صحة هذه الرواية أو خطئها، فهناك سؤال يطرح نفسه: ما هي علاقة هذا الحادث بالسياق؟ فالله تعالى يبين هنا أن عيسى كان عبدًا مقربًا لنا، ولكنه لم يكن إلهًا ولا ابن إله. لقد خلا من قبله كثير من الرسل الذين كانوا مثله. ثم إنه لم يكن إلا حلقة من السلسلة الروحانية التي بدأت في نسل إسحاق. فكيف يمكنكم، أيها المسيحيون، أن تعتبروه آخر مخلّص ظهر في الدنيا؟ إن زعمكم يعني أن جميع الوعود التي قطع الله تعالى في حق إسماعيل كانت باطلة. ثم يوضح الله تعالى أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس كلهم كانوا من عبادنا المصطفين الأخيار، وكانوا بحاجة إلى جناتنا. وكان عيسى أيضًا بحاجة إلى جنتنا.

وفي هذا السياق يزعم المفسرون أن الملائكة قالت للنبي إنما نتنـزل بأمر الله تعالى، فإذا لم يأمرنا بالنـزول فما ذنبنا في ذلك؟ ولكن هذا المعنى لا ينسجم مع السياق مطلقًا. والحق أن هؤلاء المفسرين لو تدبروا القرآن الكريم، واستعانوا بالله تعالى بالدعاء، ولم يتأثروا بالقصص التافهة، لهداهم الله إلى الحقيقة، وحماهم من هذه الأخطاء الفادحة. ولكن المشكلة أنهم بدلاً من أن يتدبروا في القرآن اختاروا القصص والأساطير، فضلُّوا عن الحقيقة ضلالاً بعيدًا.

إنني لما أردت إلقاء الدرس في تفسير سورة الكهف، تدبرت فيها، ففهمت موضوع السورة كلها إلا آية واحدة منها. فأمعنت النظر فيها طويلاً، ولكن ظل الإشكال كما هو، وفشلت في فهم ارتباطها بالسياق. وأخيرًا بدأت في إلقاء الدرس، وكلما اقتربت من تلك الآية ازددت قلقًا وقلت في نفسي ماذا سأقول حولها. حتى إذا بقيتْ دونها آيتان أو ثلاث بلغ بي الخوف الذروة. ولكني ما إن وصلتُ إلى الآية التي قبلها حتى بدا لي أن تلك الآية قد صارت لي جلية المعنى، ولم يبق هناك غموض فيها ولا إشكال… وأبين لكم الآن كيف أن مفهوم هذه الآية سهل الفهم بسيط، ولكن المفسرين جعلوه لا ينسجم مع السياق مطلقًا. لقد قال الله تعالى في الآية السابقة لا يسمعون فيها لغوًا إلا سلامًا .. أي أن اللغو لن يقترب من أهل الجنة أبدًا، وإنما يجدون السلام في كل مكان. والجميع يعرف أن المراد من السلام هو السلام عليكم. فالآية تعني أن أهل الجنة سيتلقون السلام بكثرة، ولكن لم يوضَّح هنا من ذا الذي سيبعث لهم هذا السلام.

وعندما نرجع إلى القرآن الكريم نجد هذا الأمر مشروحًا في مواضع أخرى منه. قال الله تعالى عن أهل الجنة ويُلقَّون فيها تحيَّةً وسلامًا (الفرقان: 76). فهذه الآية تذكر الموضوع السابق نفسه ولكن بأسلوب آخر.

وقد قال الله تعالى عن أهل الجنة في موضع آخر والملائكة يدخُلون عليهم مِن كل باب * سلامٌ عليكم بما صبرتم (الرعد: 24-25). وهنا علمنا أن ملائكة الله هم الذين سيحضرون أصحاب الجنة ويبلّغونهم هذا السلام.

كيف يمكن أن يأكل المرء في كل وقت؟ والجواب أن الرزق يعني الشيء الموهوب، وذلك الشيء الذي يُعطَونه في الجنة كل حين هو رؤية الله وكلامه، وهما ليس مما يصيب المرء بالتخمة.ثم يجب أن يؤخذ في الحسبان أن الله تعالى لم يقل هنا «ولهم الرزق»، بل قال تعالى ولهم رزقُهم .. أي أنهم يُعطَون رزقًا ملائمًا لهم. فثبت أن الرزق لا يعني هنا الطعام فقط، بل رزقًا يناسب حالهم، ولن يعطوه صباحًا ومساء، بل سيُمَدّون به كل حين وآن.

ولكن الله تعالى يذكر في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها أمرًا زائدًا حيث يقول الله تلك الجنة التي نُورِث مِن عبادنا مَن كان تقيًّا . ومن الواضح أن الذي يرث هو الابن لا غير. فالحق أن الله تعالى قد اعتبر هنا كل عبد تقي ابنًا لـه تعالى. إن الجنة بيت لله تعالى، وسيُنـزِل فيه عباده المؤمنين المتقين، ولكنه تعالى يوضح أننا لن ندخل عبدنا المؤمن التقي في الجنة كضيف أو صديق أو سائل، وإنما ننـزله في الجنة بصفة ابن لنا ونورثه إياها، ونقول لـه اذهبْ وعِشْ خالدًا فيها.

وقد حقق الله بذلك غرضين: فأولاً إنه تعالى قد أبطل بذلك الزعم القائل أن خصوصية المسيح أنه ابن لله تعالى، حيث أوضح تعالى أن كل مؤمن تقي ابنٌ لله تعالى. وثانيًا، قد أشار الله تعالى بذلك أن المؤمنين سيُعطَون نعيم الجنة كحق لهم تكريمًا لهم. ذلك أنه فيما يتعلق بالعطاء فإن السائل الفقير أيضًا يتلقى عطاء ولكنه يكون صدقة، ولكن نعيم الجنة لن يكون صدقة على أهلها، إنما يكون ميراثًا لهم، وسيُقال لهم حين يُعطَونه أن هذا حقكم كحق الولد في مال والده. بيد أن هناك فرقًا واضحًا وهو أنهم سيرثون هذا الميراث وأبوهم حيٌّ.

والآن فبما أن الله تعالى قد اعتبر بقوله نُورِث كلَّ مؤمن ابنًا لـه وأخبر أن الجنةَ عطاء ميراثٍ، وأخبر أن أهل الجنة سيتلقون فيها سلامًا، فكان طبيعيًا أن يفكر كل مؤمن أنني ما دُمتُ قد أصبحت ابنًا لله تعالى فكان ينبغي أن أتلقى هدية السلام هذه من الله الذي هو أبي! فجاء الجواب على هذا السؤال الطبيعي على لسان الملائكة الذين قاموا بتبليغ هذا السلام لهم في قول الله تعالى وما نتنـزل إلا بأمر ربك .. أي أيها المؤمن إنما نهديك هذا السلام من عند الله تعالى، وليس من تلقاء أنفسنا. لا شك أننا نحن الذين نوصل السلام إلى أهل الجنة، ولكنه في الواقع من عند ربك، إذ من المحال أن نفعل شيئًا من عند أنفسنا، ولسنا إلا مبلِّغين.

هذا هو المراد هنا. ولا مجال هنا لما يذكره المفسرون بأن جبريل توقف عن النـزول على النبي فترة من الزمن، فأصابه حزن شديد، فنـزلت هذه الآية. ذلك لأن هذا المفهوم غير منسجم مع السياق كما بينتُ. إن المفهوم الحقيقي إنما هو أن الملائكة ينـزلون على أهل الجنة بالسلام، فيقول هؤلاء في أنفسهم: ما هذا السلام؟ هل هو من أبينا الروحاني أم من غيره؟ فيجيبهم الملائكة إنه من أبيكم، ولسنا إلا مبلغين.

ثم يقولون لـه ما بين أيدينا وما خلفَنا وما بين ذلك .. أي أنها هدية غالية لدرجة أنه تعالى قد بعث معنا حرسًا يحفظونها مِن أمامها ومن خلفها حتى لا تضيع.

ثم يقولون وما كان ربك نسيًّا .. أي كيف يمكن أن يُنـزل الله في بيته أولاده الروحانيين، ثم ينسى أن يُهدي لهم السلام. فكما أنكم أحببتم الله تعالى ولم تنسوه، فإنه تعالى أيضًا لم ينسكم، بل بعثَنا لكي نهدي لكم منه سلامًا.

غير أن هذه الآية تتضمن الإشارة إلى أمر آخر أيضًا، وإليك بيانه. إن سورة مريم تحتوي على ذكر إبراهيم وغيره من الأنبياء الذين كانوا من نسله بمن فيهم موسى، الذي يحوي كتابه، بالإضافة إلى وحيه، أحوال إبراهيم وأولاده. فلما أعلن النبي دعواه قال اليهود والنصارى كيف أتى هذا النبي من العرب؟ يجب أن يأتي النبي من بني إسرائيل (أولاد يعقوب). فرد الله على أهل الكتاب بلسان الملائكة إنما نتنـزل بأمر ربنا. إنه تعالى بعثنا برسالته إلى العرب فذهبنا بها إليهم. ولو أنه بعثنا إلى بني إسرائيل لذهبنا إليهم. فعَلامَ الاعتراض؟ يمكن أن يقال إن هذا الشخص لا تتوافر فيه صفات الأنبياء، ولكن لا يحق لأحد أن يقول كيف نـزل كلام الله على شخص من العرب، لأن الوحي إنما ينـزل بأمر الله تعالى، وأن الذين يصيرون مهبطًا لوحي الله تعالى يُعطَون جنة الدنيا وجنة الآخرة. فقد أُعطي موسى أرض كنعان، وأما محمد رسول الله فقد أُعطي الجزيرة العربية، وفلسطين والدنيا كلها أيضًا.

ثم ورد وما كان ربك نسيًّا .. أي أن الله تعالى كان قد نبّأ على لسان موسى أنه سيبعث نبيًّا من بين إخوة بني إسرائيل أي بني إسماعيل، كما أخبر على لسان النبي إشعياء أنه سيُنـزل وحيه بين العرب أيضًا؛ فكيف يمكن أن يبطل وعد الله الذي تم على لسان اثنين من أنبيائه. إذا كان اليهود والنصارى قد نسوا ذلك فإن الله تعالى لا ينسى أبدًا. (يُتبع)

تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via