- لماذا عُدَّ الطلاق في هذه الأيام مظهرا لسوء استغلال الشريعة؟
- ما الخياران الشرعيان الوحيدان المتاحان في العلاقة الزوجية؟
- كيف قننت الشريعة الإسلامية مسألة إقامة المطلَّقة؟
- ما المسؤوليات التي لا تزال قائمة على عاتق الرجل حتى بعد الطلاق؟
___
من عظمة تشريع القرآن أنه صيدلية حَوَتْ دواءً شافيًا لكل داء محتمل، ومن أدويتها ما قد يتوهمه البعض من غير المتفرسين سمًّا، وهو في حقيقة الأمر ترياق، فقط إذا استُعمل في محله ووفق مقتضى الحال. من تلك الأدوية الفعَّالة والمثيرة للجدل إلى الآن تشريع الطلاق، والذي ينظر إليه غير المسلمين، وبعض من المسلمين قليلي الإحاطة بمقاصد الشريعة، بوصفه توجهًا غير محمود، والعياذ بالله، يضر بالعلاقات الإنسانية، وذلك انطلاقا من فهم مشوه لمقولة وردت في إنجيل متى جاء فيها:
الطلاق وسوء استغلال الشريعة
لا شك أن بتر واستئصال أي عضو من أعضاء الجسد أمر مكروه لدى الجميع دون استثناء، ولكن حتى هذا المكروه قد يكون هو السبيل الوحيد والأخير للنجاة، وإلا فسدت بنية الجسد وهلك المريض، فهنا يكون آخر العلاج البتر! فإذا كنا نقبل بطيب خاطر، أو على سبيل الاضطرار، هذا الأمر على مستوى الصحة الجسدية، فلماذا نرفضه حين يتعلق الأمر بالصحة الاجتماعية؟!
لقد تحوّلت قضايا الطلاق في عصرنا، مع بالغ الأسف، في كثير من الأحيان إلى ساحة صراع طويل، تُستَخدم فيها القوانين بل وحتى الأبناء كوسائل ضغط متبادلة. يسعى كل طرف إلى النيل من سمعة الآخر، ناسياً أن الطرفين المطلَّقين كان كل منهما في يوم من الأيام «لباساً» للآخر، يستر عيوبه ويوفّر له السكينة والحماية. إن النزاعات لا تقف عند حدود الزوجين فحسب، بل تمتد أحياناً لتشمل الأسرتين، فتقطع الأرحام وتعكر الوفاق وتزرع الشقاق بلا رحمة. وكل ذلك يتناقض تناقضاً صارخاً مع هدي القرآن الكريم وتعاليم الإسلام السامية، التي لم تجُز الطلاق إلا بعد استنفاد جميع وسائل الإصلاح الممكنة. وقد وصف النبي الأكرم ﷺ الطلاق بقوله: “أبغض الحلال إلى الله الطلاق” (2) والمقصود أن الطلاق وإن كان مباحاً، إلا أنّه لا يُلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى وبعد اليأس من سبل الوفاق، من باب أن آخر العلاج البتر كما أسلفنا. وقال المسيح الموعود :
وقال أيضاً:
مساران لا ثالث لهما، حسن وأحسن
ترمي أوامر الشريعة كلها إلى غاية أن تكون حياة الإنسان جنة صغرى في هذا العالم، ومن بين تلك الأوامر يبرز الأمر بحسن المعاملة واجتناب إيقاع الضرر بأحد الطرفين من قِبل الآخر، حال الزواج أو الطلاق على حد سواء، فحتى الطلاق، إن كان لا محالة واقعًا، ينبغي أن يتم بروح المودّة والاحترام، مع صيانة ما كان من خير في العلاقة، كما قال الله تعالى:
وهذه التوجيهات الإلهية كفيلة بضمان الاستقرار الاجتماعي، وحفظ الاحترام المتبادل، والسماح بإنهاء العلاقة الزوجية دون عداوة. إنّ هذه الآية العظيمة تُلخّص مبدأً جوهرياًّ من مبادئ الشريعة الإسلامية في معالجة النزاعات الزوجية حين تستحيل الحياة المشتركة.
زواجٌ حسنٌ أو طلاقٌ حسن
كما سبق وعرفنا أن الغاية المبتغاة من الشريعة جعل حياة الإنسان جنة في هذه الدنيا في كل الأحوال، فالزواج في الإسلام يقوم على الإحسان، وإذا وقع الطلاق وجب أن يتم أيضاً في إطار المعاملة الحسنة. وهذا التوازن يعكس عظمة الشريعة الإسلامية التي لا تقتصر على الحقوق القانونية، بل تراعي كذلك كرامة الإنسان وسلامته النفسية.
فالشريعة تعلّمنا أنّ الزواج لا يُبنى على القهر والضرر، بل على المودّة والرحمة. فإن تعذّر ذلك، وجب أن يكون الانفصال بكرامة وعدل وإحسان، مع إعطاء كل ذي حق حقه، واجتناب الظلم والعدوان، يقول تعالى:
عبارة «تسريح بإحسان» ليس مجرد حكم فقهي يتعلق بالطلاق، بل هي قاعدة أخلاقية شاملة ترشدنا إلى كيفية التعامل مع الخلافات، بأن نُتيح للآخرين خيار مغادرة حياتنا بنفس الكرامة التي دخلوها بها. إن الإسلام يعلّم المؤمن أن يكون محسناً في كلتا الحالين، حال الصلة وحال الفراق. ويعني الطلاق بإحسان جملة من المبادئ، من أبرزها:
- أداء الحقوق المتبادلة.
- اجتناب أي صورة من صور الإيذاء اللفظي أو الجسدي بعد الطلاق.
- صيانة السمعة وعدم التشهير.
- تهيئة بيئة يسودها الاحترام المتبادل لأجل الأبناء.
فالشريعة تعلّمنا أنّ الزواج لا يُبنى على القهر والضرر، بل على المودّة والرحمة. فإن تعذّر ذلك، وجب أن يكون الانفصال بكرامة وعدل وإحسان، مع إعطاء كل ذي حق حقه، واجتناب الظلم والعدوان، يقول تعالى: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (6)،
مسألة مُقام المطلقة
من حِكَمِ التشريع أنّ الله تعالى أمر بأن تمكث المطلقة الرجعية في بيت زوجها أثناء عدتها، وأن يظل الزوج ينفق عليها خلال هذه الفترة، مهما كانت غنية أو ذات مال. والحكمة من ذلك أنّ المعيشة المشتركة قد تُعيد المودّة وتفضي إلى الرجوع قبل انقضاء العدة، فتُستأنف الحياة الزوجية من جديد دون حاجة لعقد جديد. قال تعالى:
وقد أوضح الخليفة الثاني في التفسير الميسر أنّ هذه الإجراءات إنما شُرعت حتى لا يكون الطلاق نتيجة انفعال عابر أو قرار متسرع، بل قرار ناتج عن تفكير رزين. كما أنّ بقاء المطلقة في بيت الزوجية يفتح باب الإصلاح وعودة المودة.(8) أما الطلاق البائن بعد المرة الثالثة، فإن الزوجة تحرم على زوجها، ولا حق لها في السكنى أو النفقة إلا إذا كانت حاملاً أو مرضعاً، فيجب على الزوج النفقة حتى نهاية الحمل أو الرضاعة. قال تعالى:
مسؤوليات لا تزال قائمة حتى بعد الطلاق
ليس معنى وقوع الطلاق تحررًا وتحللًا كاملا من كافة المسؤوليات التي كان يتحملها الزوج حال قيام الحياة الزوجية، بل إن بعد الطلاق تبقى كثير من المسؤوليات قائمة، وينبغي على الزوج المطلق أداؤها على أحسن وجه ممكن، من تلك المسؤوليات النفقة اللازمة لاستمرار حياة ثمرة تجربة الزواج، ألا وهم الأولاد، والذين لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا لأبوين استحالت بينهما العشرة في نهاية المطاف. فعلى أية حال، أوجب الإسلام النفقة للأطفال على والدهم سواء حال قيام الزواج أو حتى بعد وقوع الطلاق.
ولا يُتصوَّر القيام بواجب النفقة إلا بالإنفاق على الأم بالضرورة، ،حتى ولو كانت من أولات الغنى واليسار. أما المطلقة البائن غير الحامل أو المرضع، فلا نفقة لها ولا سكنى، كما ثبت في حديث فاطمة بنت قيس (رضي الله عنها). (وتُقدَّر النفقة بحسب حال الزوج: غِنىً أو فقراً أو توسطاً. فإن تراضى الأبوان على قدر معين كان ذلك مقبولاً، وإلا فالقضاء هو الفيصل. قال تعالى:
وقد نبّه القرطبي رحمه الله إلى أنّ الأم أحقّ بحضانة ولدها من غيرها، لما فطرها الله عليه من الشفقة والحنان، وأن نزع الطفل منها إضرار بهما معاً. وقال المسيح الموعود :»أكثروا الدعاء لأزواجكم، واجتنبوا الطلاق، فإنّ المكثر منه سيّئ ومبغوض عند الله جلّ وعلا. ولا تكسروا سريعاً، كإناء نجس قذر، ما قد جمعه الله بينكم.»(11)
إن هذه التوجيهات السامية تذكّرنا بأن الزواج رباط مقدّس لا يجوز نقضه بطيش أو عجل، وإنما بعد استنفاد جميع سبل الإصلاح. فإذا كان الانفصال لا مفر منه، وجب أن يتم في إطار الكرامة والعدل والاحترام المتبادل، مع إبقاء الدعاء للآخر، وصيانة ما كان من مودة ورحمة. وبهذا يتحقق جوهر التعاليم الإسلامية التي تجمع بين حفظ الحقوق ورعاية القيم الإنسانية.
الهوامش:
- (إنجيل متى 19: 6)
- رواه ابن ماجه، كتاب الطلاق
- البدر، المجلد 6، العدد 3، 17 يناير 1907، ص 4
- البدر، المجلد 6، العدد 38، 19 سبتمبر 1907، ص 7
- (البقرة: 238)
- (البقرة: 230)
- (الطلاق: 2)
- Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad, The Holy Quran with English Translation and Commentary, Vol 5, Page: 3171, Islam International Publications Limited, London, 2018
- (الطلاق: 7)
- (الطلاق: 8)
- مرزا غلام أحمد القادياني، التحفة الغولروية، روحاني خزائن، ج 17، ص 75