- على أي أساس بنى المصلح الموعود رضي الله عنه إثباته العلاقة بين العبرية والعربية؟
___
شرح الكلمات:
ما كان لله: يقال «ما كان لـه أن يفعل كذا» أي أنه لا يقدر على فعل كذا لكون الفعل أسمى من طاقته، أو لكونه لا يليق بمكانته. وكأنه يعني أن ذلك الفعل يفوق طاقة ذلك الشخص، أو أن ذلك الشخص أسمى من أن يقوم بذلك الفعل.
التفسير:
وغنيٌّ عن البيان أن أحد المفهومين المذكورين أعلاه لا ينطبق هنا.. أي أن قوله تعالى ما كان لله أن يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ لا يعني أبدًا أن ليس في الله القدرة على أن يكون لـه ولد. إذ يمكن أن يعزى مثل هذا القول إلى النساء، ولكن لا يقال هكذا عن الله تعالى. إذًا فإن المعنى الثاني هو الذي ينطبق هنا.. أي أن الله تعالى أسمى من أن يعزى إليه مثل هذا الأمر الدال على الضعف والهوان، فيقال أنه قد اتخذ ولدًا.
والجدير بالذكر أن الله تعالى قد قال هنا ما كان لله أن يتخذ مِن ولد ، ولم يقل «ما كان لله أن يكون لـه ولد»، والظاهر أن هناك فرقًا بين التعبيرين. وقد قال القرآن هكذا لأن المسيحيين أنفسهم مختلفون في هذا الأمر. فمنهم من يعتقد أن الله تعالى قد اتخذ ولدًا، ومنهم من يقول أن لله ولدًا. ويرى الفريق الأول أنه إذا قيل للناس أن المسيح ابن الله فلن يصدّقوا ذلك، إذ سيقولون: هل كانت ثمة امرأة أنشأ الله معها العلاقات الزوجية، فولدت لـه ابنًا؟ ومن أجل ذلك يقول هؤلاء أن الله تعالى قد اتخذ ولدًا ولا يقولون أن لله ولدًا، زاعمين أن عظمة الله تعالى وقداسته شاءت أن يتخذ لنفسه ولدًا، فاتخذ المسيح ولدًا لـه. فتعبير ما كان لله أن يتخذ مِن ولد راجع إلى هذا الاختلاف الموجود بين النصارى. والمعنى أنه لمما يتنافى مع عظمة الله تمامًا أن يتخذ من ولد. وهذا التعبير يدحض زعم الفريقين كليهما، سواء أقالوا إن الله اتخذ ولدًا أو قالوا أن لله ولدًا. ذلك أنه ما دام اتخاذ الولد يتنافى مع عظمة الله تعالى، فوجود الولد لـه أيضًا ليتعارض مع عظمته تعالى تمامًا.
وليكن معلومًا أن القاعدة تقول إن البيّنة على المدّعي. فمثلا لو قال المرء لصاحبه إن على رأسك قرنينِ، فكذّبه هذا، فلا يمكن للمدّعي أن يقول له: حسنًا، إذا لم يكن على رأسك قرنان فهاتِ بالبيّنة. ولو قال ذلك لعدّه الجميع مجنونًا، وقالوا له: كلا، إنما عليك أنت البينة والبرهان، لأنك أنت المدّعي، وليس على صاحبك أن يقدم أي برهان على ما تدّعيه أنت.
فبما أن المسيحيين يدّعون أن المسيح كان ابن الله تعالى فعليهم تقع مسؤولية تقديم الأدلة على صدق دعواهم. وغاية ما يمكن أن يدللوا به هو قولهم أن المسيح قد سُمِّي في الإنجيل «ابن الله» فهو ابن الله عندنا. فلنرجع إلى الإنجيل لنرى هل وردت كلمة «ابن الله» في الإنجيل بالمفهوم الذي يزعمه المسيحيون.
ورد في الإنجيل قول المسيح : «ولكن الذين حُسِبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوِّجون ولا يزوَّجون، إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضًا لأنهم مثل الملائكة، وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة» (لوقا 20: 35-36).
قصارى القول إن الله تعالى يعلن في القرآن ما كان لله أن يتخذ مِن ولد .. أي أنه مما يتنافى مع عظمة الله تمامًا أن يتخذ أحدًا ولدًا لـه . أما أن يعتبر الله أحدًا بمنـزلة الولد فهو شيء مختلف تمامًا، إذ ليس معناه إلا أن الله تعالى يعدّه من أحبّته المقربين. ولكن القول أن الله تعالى «اتخذ ولدًا» يرادف القول أن لله تعالى ولدًا في الحقيقة؛ مع أن الله تعالى لا يمنح أحدًا منـزلة ابن حقيقي لـه . ذلك لأن الابن الحقيقي يرث أباه، ومن المستحيل أن يجعل الله أحدًا وارثًا لـه لأنه تعالى حي لا يموت. كما أن الابن الحقيقي يرث من أبيه يده وأنفه وأذنه ووجهه وغيرها من الأعضاء كلها، ومن المحال أن يرث عبد من العباد صفاتِ الله تعالى حقيقةً. إن التحلي بصفات كصفات الله تعالى شيء، أما اقتناء صفات الله تعالى بالإرث فشيء مختلف تمامًا. إن التحلي بصفات كصفات الله تعالى ممكن ويتأتى بالجهد والاكتساب، شأن التلميذ الذي يأخذ ما يأخذ من أستاذه بالجهد والاكتساب. أما الابن فيأخذ من أبيه كثيرًا من الأشياء بالوراثة، وأخذ أي شيء من الله تعالى بالوارثة محال، إذ لا يمُنح أحد شيئًا من عند الله تعالى إلا من خلال الاكتساب أو على سبيل العطاء. وعلى سبيل المثال، إن الإنجليز بِيضُ اللون، وكلما وُلد عندهم مولود جاء أبيض اللون، ولم يحدث قط أنهم دعوا ولدًا من أولادهم بعد فترة من ولادته، وقالوا لـه تعالوا نمنحك شيئًا من بياضنا. وبالمثل كلما جاء مولود عند الأفارقة جاء أسود اللون، ولم يحدث قط أن دعا أحدهم ولده وقال لـه تعال أُعطك من سوادي أو أمنحك من شعري وأنفي وأذني ووجهي وما إلى ذلك. إنه يولد آخذًا كل هذه الأشياء والصفات من آبائه بالوراثة. ولكن لا يمكن أن يكون أحد ابنًا لله تعالى على هذا النحو، كما لا يليق بالله تعالى أن يُعزى إليه مثل هذه الأمور.
والمعنى أنه لمما يتنافى مع عظمة الله تمامًا أن يتخذ من ولد. وهذا التعبير يدحض زعم الفريقين كليهما، سواء أقالوا إن الله اتخذ ولدًا أو قالوا أن لله ولدًا. ذلك أنه ما دام اتخاذ الولد يتنافى مع عظمة الله تعالى، فوجود الولد لـه أيضًا ليتعارض مع عظمته تعالى تمامًا.
أما أن يسمي الله تعالى أحدًا من العباد ابنًا لـه تعبيرًا عن حبه لـه وعطفه عليه فلا خصوصية للمسيح في ذلك، إذ يخبرنا الإنجيل أن البشر كلهم، بما فيهم الفاجر والبارّ، أبناء الله تعالى (لوقا 6: 35).
وهذه الجملة تحتوي على نفس المعنى الذي قد ذكره الله تعالى في قوله ما كان لله أن يتخذ من ولد ، حيث جاء: «أنا يهوه. هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخَرَ».. أي ليس بوسع أيّ كائن أن يشترك معي في عظمتي وجبروتي وقدرتي.
والواقع أن لفظ «يهوه» أصلُه «يا هو».. أي يا من هو غائب عن الأنظار. فثبت بذلك أن «يهوه» أيضًا اسم صفاتي لله تعالى، وليس علَمًا لـه ، إذ ليست فيه أي دلالة إلا أن الله تعالى موجود ولكنه غائب عن الأنظار؛ ذلك أن «ياء» في «يهوه» هي للنداء، وتدل على شيء موجود، وأما «هو» فيدل على أنه موجود ولكنه غائب عن الأنظار، ولذا لا يمكن أن يسمى «أنت» بل يسمى «هو» فحسب. فثبت أن «يهوه» ليس عَلَمًا لله تعالى.
ويمكن للمرء أن يقدر بذلك التشابهَ الكبير بين العربية والعبرية. لا شك أن العبرية قد تغيرت كثيرًا بمرور الزمن الطويل، ومع ذلك نجد حتى في عصر المسيح ، الذي كان آخر حقبة بالنسبة للأمة اليهودية حيث تشتتت وتفرقت بعدها تمامًا، تشابهًا كبيرًا بين اللغتين حتى يخيَّل للمرء أن العبرية صورة مشوهة للعربية. فنرى أن آخر ما تفوه به المسيح بحسب إجماع الباحثين قبل أن يُغشى عليه معلَّقًا على الصليب هو قوله: «أيلي أيلي لما شبقتَني» (متى 27: 46، ومرقس 15: 34). وهي جملة عربية في الحقيقة، لأن لفظ «أيلي أيلي» يماثل «إيلي إيلي» في العربية أي «إلهي إلهي»، حيث يقال للإله في العبرية «أيل»، وفي العربية «إيل»، فيقول أهل العبرانية «جبرأيل» و«أسرافَيل» بينما يقول العرب «جبرإيل»، و»إسرافِيل». وأما لفظ «لما» فهو في الأصل «لِمَ»، وأما «شبقتَني» فهو سبقتَني أي تركتني. والمعنى: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ إذ يقال: سبَقه أي ترَكه وراءه وذهب. فكأن المسيح دعا ربه وقال: يا رب يا رب، لمَ تركتني وراءك وحيدًا وذهبتَ. لم لم تكن معي حتى تساعدني؟
فما أشبهَ هذه الجملةَ العِبرية بالعربية. وكما قلت فإن هذه هي الجملة الوحيدة من كلام المسيح التي هي محفوظة في الإنجيل بصورة يقينية. إذ ليس هناك أي شهادة قاطعة على صدق ما يعزى إلى المسيح في الإنجيل من كلام آخر، في حين أن الباحثين كلهم مجمعون على أن هذه الجملة من كلام المسيح حتمًا ويقينًا. فثبت أن العبرية ليست بلغة منفصلة، وإنما هي لهجة مشوهة من العربية. ولو أدخلتَ تعديلاً بسيطًا في العبرية صارت عربية.
قصارى القول إن أهل العبرية يستخدمون لفظ «أيل» بمعنى الله تعالى. كما أنهم يستعملون كلمة «أَيلَوهِيم» أيضًا لله (The United Bible سِفر الخروج 6: 2). ولفظ «هِيم» هنا صورة مبدَّلة لضمير الجمع للغائب في العربية «هُم»، والمعنى الحرفي لِـ «أَيلَوهِيم» هو آلهة، ويعني في الحقيقة الإله العظيم أو الإله الكبير.
كان العرب في الماضي يقولون للمخاطب «أنت»، أما اليوم فبدءوا يقولون «أنتم» أيضًا. كان العرب يخاطبون رسول الله دائمًا بقولهم: أنت، (البخاري: كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت)، ولكنهم اليوم يخاطبون كلَّ كبير من القوم من معلم أو مسؤول حكومي أو حاكم محافظة أو والٍ بصيغة «أنتم» بدل «أنت». كذلك لما تطور أهل العبرية أيضًا ثقافة وحضارةً أخذوا يستخدمون كلمة «أَيلَوهِيم» تعظيمًا وإجلالاً لله تعالى. والحق أن هذه الكلمة صورة مبدلة للكلمة العربية «آلهة». وهذا يعني أن ما يقال له في العربية آلهة وإله وإيل، يُطلَق عليه في العبرية أَيلَوهِيم وأيلواه ويهوه وأيل. ولكن ليس أي من هذه الألفاظ العبرية اسمًا عَلَمًا لذات البارئ تعالى، وإنما هي كلها أسماء صفاتية لله .
بعد هذه الكلمة التمهيدية أود أن أحيطكم علمًا أنه بالرغم أن التوراة لم تستخدم لفظ «الله» لذات البارئ ، إلا أن العهد القديم يؤكد كون الله تعالى واحدًا لا شريك لـه، حيث جاء: «اسمَعْ يا إسرائيلُ، الربُّ إلـهُنا ربٌّ واحد» (التثنية 6: 4). ففي لفظ «رب واحد» دلالة واضحة على كونه تعالى وحده لا شريك لـه. فثبت بذلك أن التوراة هي الأخرى تؤكد ما أعلنه القرآن الكريم في قوله تعالى ما كان لله أن يتخذ مِن ولد .
ثم ورد في موضع آخر من التوراة: «أنا يهوه. هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخَرَ» (إشعياء 42: 8). فلفظ «ومجدي لا أعطيه لآخَرَ» يشبه تمامًا قول الله تعالى في القرآن الكريم ما كان لله أن يتخذ مِن ولد .. أي ليس له ولد، كما لن يتخذ أحدًا ابنًا له. وكأنه تعالى يعلن هنا: إذا قال أحد أني قد اتخذت أحدًا ابنًا لي ومنحته قدرتي وقوتي، فهذا أيضًا غلط. كلا، فإني لا أمنح أحدًا صفاتي أبدًا. (يُتبع)