الغربة عن الذات الإلهية، وعودة الروح

الغربة عن الذات الإلهية، وعودة الروح

التحرير

  • منذ فجر تاريخ الديانات شغل أمر البعث الثاني الإنسان.
  • فشل دعاة التجديد.
  • البعثة الثانية للمصطفى ص نفخت في الإسلام الروح ثانيةً.

__

إذا سعى الراصد الموضوعي لرسم صورة للأمة، بحيث تعكس واقع الحال دون تحيز لفخار أو تلمُّسٍ لعثار، فسيغلب على هذه الصورة اللون القاتم المائل إلى الحلكة، هذا إن لم يكن حالكا بالفعل. وهذا التعبير عن واقع حال الأمة ليس من قبيل التشاؤم، فالتشاؤم في أبسط معانيه هو النظر إلى الأمور من خلف نظارة سوداء، فماذا لو كان الوضع الحالي من الاسوداد بطبيعته بحيث يغنينا عن سواد النظارة؟! ولكن يبدو أن هناك بقية باقية من بصيص أمل، فلا زالت ملامح الصورة الأصلية باقية، بل وسبل إعادتها لما كانت عليه أول مرة من زَهَاء الألوان وجاذبية المنظر ممكنة وفي المتناول، ذلك أن راسم الصورة وباريها قد بين في محكم تنزيله أن تعاسة أي وضع مرهونة دائما وأبدا بالغربة عن الذات الإلهية..وهنا الأمر سيان بين الأفراد والمجتمعات والدول والشعوب والأمم، فالكل تحت هذا القانون سواء، وينــص ذلك القـــانون على أن:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (1).

فالإعراض عن الله تعالى هو مكمن الخلل، وهو رأُس المشكلة وأساسها. لقد بلغ الأمر من السوء أن ابتعدت الأمة مسافات طويلة عن ربها سبحانه وتعالى، وهي تظن أنها في حضنه . ذلك أنها أنكرت العروة الوثقى والرابطة الوحيدة بين الله تعالى والعباد، لقد قطعت خط الاتصال المستمر بينها وبينه سبحانه وتعالى بالقول بفرية انقطاع الوحي، فحين انقطع الوحي (بحسب زعم البعض) انقطع معه كل أمل في الإصلاح والنهوض والإحياء الذي ندعوه بصيغة أخرى بالتجديد، فمن المعلوم بداهة أن الأقدر على تجديد شيء ما هو إلا من اضطلع من قبل بمهمة إنشائه أول مرة، والقول بغير ذلك هو محض خداع، أو سوء فهم، فأنى للمريض أن يشفي نفسه بنفسه؟! ومتى كان فاقد الشيء قادرا يوما على إعطائه؟! فالأمة الموعودة بالإحياء على يد مبعوث رباني لن يكتب لها الإحياء إلا على يد ذلك المبعوث، والإعراض عن ذلك المبعوث هو تعبير عملي عن الإعراض عن ذكر الله تعالى، ذلك الإعراض الذي هو مجلبة للضنك المذكور.

والقول بفرية انقطاع الوحي تهربا من الاعتراف بمبعوث السماء أورث الأمة حالة مستعصية من القنوط واليأس من البعث الثاني، لا سيما وأن كثيرين من دعاة التجديد جربوا كافة الوسائل والسبل للتجديد المرجو، ولكن دون أية جدوى تذكر، فلم يعد أمامهم الآن خيار وحيد باقٍ، ومع هذا فإنهم لا يرغبون في تجربته. إن من شر البلية ما يضحك أحياناـ وهناك طرفة تقول أن طبيبا بلغ من العلم والبراعة في الطب مبلغا عظيما، إذ ما من سبيل إلى الفشل وهلاك المرضى إلا وقد سلكه، حتى لم يتبق أمامه سوى النجاح، بهذه الصورة الكاريكاتورية يمكننا تخيل وضع واقع الأمة ودعاة التجديد، خاصة بعد أن استقر في الأذهان استحالة التجديد والنهضة بيد الأفراد أو المؤسسات أو الفرق، وباتت الأمة في لبس من خلق جديد. فالآن لسان الحال يردد أن الأمة محكوم عليها بتكرار التاريخ ما لم تتعلم من الدرس الأول، فأهل الجاهلية كانوا قد يئسوا من قبل من التجديد والنهضة، إلى أن وجدوا أنفسهم مدفوعين إلى الإقرار بضرورة وحي الله تعالى المتنزل على خير البرية، والذي صاحبه تغير إيجابي على الأرض بمجرد قبوله والاعتراف به، حتى إن الأمة الميتة بالأمس القريب أضحت حية بل محيية لسائر الأمم الأخرى ومستوعبة لها في غضون عقود قليلة. لقد قص علينا القرآن المجيد قصص الأمم السابقة، وسرد علينا تفاصيل الصراع الدامي بين اليائسين والراجين. ولن نضطر إلى الذهاب بعيدا للاطلاع على درس مماثل لُقِّنته قرون قبلنا.

والقول بفرية انقطاع الوحي تهربا من الاعتراف بمبعوث السماء أورث الأمة حالة مستعصية من القنوط واليأس من البعث الثاني، لا سيما وأن كثيرين من دعاة التجديد جربوا كافة الوسائل والسبل للتجديد المرجو، ولكن دون أية جدوي تذكر…

إن التجديد، والمعبر عنه بالبعث الثاني ونهوض الشعوب وتقدمها، كان شغل الإنسانية الشاغل منذ تلقيها الوحي الأول، وظل هو شغلها الشاغل إلى هذه اللحظة، وكذلك كانت الجدلية المستمرة منذ البدء هي جدلية رجاء البعث واليأس منه. فالتجديد إذًا مصطلح عريق وقديم قدم البشرية نفسها، إلا أنه بات يُنسب خطأ إلى الحداثة بغير قصد تارة، وبسوء نية تارات، وهل أدل على عراقته من أنه مذكور نصا في تعاليم النبوة الأولى على لسان أشرف الخلق؟! حيث قال : «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»(2) .فمسؤولية التجديد تتطلب فهما عميقا لحقائق الدين في ضوء مشعل الوحي الإلهي، وليس هذا الفهم متاحا بالطبع إلا لمن كان على اتصال دائم بالمصدر الأول عن طريق الوحي الإلهي بطبيعة الحال، ما عدا هذا لن يتعدى الأمر دراسة نصوص القرآن والسنة النبوية بفكر مَن مضوا، الذي لا يخلو من الزلل، وهل أدل على هذا الزلل من نشوء الفرق كل يوم كنبت شيطاني؟! فهكذا تأكد لنا إفلاس جميع المحاولات الإصلاحية التي همشت دور الوحي الإلهي مكتفية بإسقاط وقائع الماضي على قضايا الحاضر تاركة لُبَّ الدين وأصله.
ورب سائل يستفسر عن تفاصيل هذا الإحياء الذي نحن بصدد رسم معالمه، هل سيتم بمساعي هذه الرابطة أم تلك؟! أم بعقد هذا المؤتمر أو ذاك؟! أوليس تاريخ الديانات يخبرنا أن الدنيا لم تشهد قط نهضةً وإحياءً دينيًّا تم على أيدي أيٍّ من رجال الكهنوت ومؤسساتهم؟! بل على النقيض من ذلك، إنهم هم من يتصدون لمبعوث السماء قائد النهضة الروحانية المرجوة.
ولحسن طالع هذه الأمة المشهود لها بالخيرية، فإن دين محمد نُفِخت فيه الروح الثانية في القرن المنصرم متمثلة في تدلي نبوة محمد إلى الدنيا ثانية مصداقا لنبوءة القرآن الكريم، بل بلغنا من بركاتها أنها أثمرت خلافة راشدة ثانية على منهاجها، فطوبى للتابعين.
عزيزي القارئ أنت على موعد في هذا العدد للتعرف عن قرب إلى حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد الملقب بالمصلح الموعود، وهو شخصية فذة في تاريخ الإسلام المعاصر. حيث قاد جماعة المؤمنين لنصف قرن من الزمان أنجز خلاله أعمالا فذة، ومهما تحدثنا في مناقبه لن نوفيه حقه، فالإرث الفكري الذي تركه لنا خير شاهد على ما نقول. ولقد زخرت مؤلفاته بالنهج الموضوعي الأمين، وقوة البيان والتبيين، الأمر الذي شهد به حتى الأغيار. جعلنا الله وإياكم ممن يقتدون بهذا الإمام الهمام وحملة مشعل نور الإسلام في هذا العصر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد المصطفى وعلى من والاه إلى يوم الدين.

1. (طه: 125) 2. سنن أبي داوود, كتاب الملاحم

Share via
تابعونا على الفايس بوك