الإصلاح الرباني بالوصف القرآني للنبيين بالهداية والاجتباء
  • بم نفسر التردي العقائدي والأخلاقي الحاصل من اتباع الكتاب المقدس بعهديه؟
  • ما الإصلاح الذي أجراه القرآن بإزاء سير النبيين المطهرة التي شوهها الكتاب المقدس؟

____

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (مريم 59)

التفسير:

هنا يذكر الله تعالى نتيجة البحث الذي سبق بيانه ويقول أولئك الذين أنعم الله عليهم مِن النبيين مِن ذرية آدمَ .. أي بالرغم من كل النعم والصلات التي نـزلت على زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام، فإن هؤلاء كلهم لم يكونوا أكثر من بشر. لا شك أنهم كانوا أنبياء الله تعالى، ولكن لم يكن أحد منهم إلهًا أو ابن الإله أبدًا. فلو تدبرتم في أحداث حياة المسيح أو موسى أو إبراهيم أو غيرهم لوجدتم أنهم كانوا من ذرية آدم أو من أولاد الذين حملناهم مع نوح في السفينة أو من أولاد إبراهيم أو إسحاق. وهؤلاء الذين هديناهم واصطفيناهم إذا تُليت عليهم آيات الرحمن كانوا يخرّون ساجدين باكين، لأنهم كانوا يؤمنون بأن الله تعالى هو وحده ربهم.

وقال المفسرون هنا إن قوله تعالى مِن ذرية آدم إشارة إلى إدريس، وأن قوله تعالى وممن حملْنا مع نوح إشارة إلى إبراهيم وحده، وقولـه تعالى ومِن ذرية إبراهيم إشارة إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب. كما أنهم يرون أنه هناك محذوفًا قبل قوله تعالى وإسرائيل[، والتقدير «ومِن ذرية إسرائيل» وفيه إشارة إلى موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى (القرطبي، وصفوة التفاسير). وكأن هذه الكلمات تضمنت قائمة الأنبياء المذكورين من قبل، حيث قيل إن هؤلاء كلهم كانوا عبادًا لنا وممن هدينا واجتبينا .

هنا ينشأ سؤال وهو: ما هو معطوف عليه لقوله تعالى وممن هدينا واجتبينا[؟ أرى أنه عطف على قوله تعالى مِن النبيين .. أي أن أولئك النبيين كانوا ممن هدينا واجتبينا.

وقد يقال هنا: ألا يكون الأنبياء من أهل الهدى والاجتباء حتى يؤكد الله تعالى أنه هداهم واجتباهم؟ فما دام تعالى قد سماهم أنبياء فكونهم من المهديين والمجتبين أمر مفهوم. فلماذا ذكر الله على حدة أنه هداهم واجتباهم؟

فاعلم أن الإنسان يوصف بصفة معينة دفعًا لإشكال معين عنه. ومن الثابت البيّن أن الأنبياء قد اتُّهموا في الديانتين اليهودية والمسيحية بالإثم والخطيئة عمومًا. اقرأ الكتاب المقدس فستجد فيه أن اليهود قد رمَوا نوحًا بتهم بشعة، وعزوا إلى لوط أفعالاً نجسة، واعتبروا داود آثمًا، وعدّوا هارون عاصيًا. فما من نبي إلا وقد جعلوه من الخطاة الآثمين (التكوين 9: 24، و19: 31-36). بل لقد ورد في الإنجيل أن المسيح قال: «جميعُ الذين أتوا قبلي هم سُرّاقٌ ولصوص» (يوحنا 10: 8). فترى أن كلا الفريقين يعتبر أنبياء الله تعالى آثمين. فيعزو إليهم اليهود الإثم تغطية لذنوبهم هم، وأما المسيحيون فيعدّون أنبياء الله من العصاة لكي يُثبتوا أن جميع هؤلاء كانوا آثمين فلا يمكن أن يكونوا سببًا لنجاة الآخرين، وإنما النجاة في الإيمان بكفارة المسيح. فلكل واحد من الفريقين هدف محدد لتأثيم أنبياء الله تعالى. وردًّا على هذه الأفكار من الطرفين قال الله تعالى أن هؤلاء كانوا ممن هدينا واجتبينا ، مؤكدًا أن هؤلاء لم ينالوا من قبلنا هذا اللقب عن فراغ وعبثًا، بل كانوا بالفعل ممن هداهم الله واصطفاهم. إنكم تتهمونهم بمعصية الله تعالى مع أنهم كلما تُليت عليهم آيات الله خروا لـه ساجدين باكين.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * (مريم 60-62)

 شرح الكلمات:

غَيًّا: الغيُّ: الضلالُ؛ الخيبُ؛ الانهماك في الجهل؛ الهلاك (الأقرب).

وورد في المفردات: «الغيُّ جهلٌ مِن اعتقاد فاسد.»

 

التفسير:

لقد بين الله تعالى هنا أن أمم هؤلاء الأنبياء فسدوا رويدًا رويدًا حتى بلغ بهم الأمر أنهم لم يلتزموا بأداء الصلاة، أو أنهم فقدوا الرغبة في الدعاء، واتبعوا الشهوات.

واعلم أن من معاني الشهوة الزنا أيضًا، ولكنها لم ترد هنا بهذا المعنى، بل يعني أنهم اتبعوا الاجتهادات الخاطئة والتأويلات الباطلة التي فسروا بها كلام الله بحسب أهوائهم، فكان عاقبة أمرهم الضلال.

الحق أن الإنسان إذا لم يفسر كتاب الله بحسب ما ورد في الكتاب نفسه، وفسره وفق اجتهاده، زلت قدمه إلى التأويلات الخاطئة تدريجيًّا، فيهلك في نهاية المطاف. ذلك أن ذلك الكتاب هو الذي فتح باب الهدى والنجاح والعلم والنجاة، ولكن المرء لو حاول أن يقحم في هذا الكتاب أمورًا جديدة بناء على ما يمليه عليه عقله واجتهاده لاشتبه هدي الله الموجود في الكتاب. وبما أنه يتبع أهواء نفسه فإن الدمار يحيط به ويهلكه.

ومن الانهماك في الجهل أن يتبع الإنسان ما لا صلة له بإصلاح الحالة الروحانية أو بقرب الله تعالى، وإنما يشتغل باستخراج الجديد من النكات والطرائف، فينحرف عن الحق والمعرفة أكثر فأكثر.

ذات مرة حضر أحد المشايخ إلى الخليفة الأول للمسيح الموعود ، وقال لـه: لقد جئتك لأني أقوم بوعظ الناس، والوعظ يتطلب أمرين: المبكياتُ والمضحكاتُ.. أي ما يجعل الحضور يبكون ويضحكون. وبما أنك قد طالعت كتبًا كثيرة وضخمة، فأرجوك أن تدلني على كتاب يحتوي على المبكيات والمضحكات حتى أنتفع به في وعظي.

لقد ورد في الإنجيل أن المسيح قال: «جميعُ الذين أتوا قبلي هم سُرّاقٌ ولصوص» (يوحنا 10: 8). فترى أن كلا الفريقين يعتبر أنبياء الله تعالى آثمين. فيعزو إليهم اليهود الإثم تغطية لذنوبهم هم، وأما المسيحيون فيعدّون أنبياء الله من العصاة لكي يُثبتوا أن جميع هؤلاء كانوا آثمين فلا يمكن أن يكونوا سببًا لنجاة الآخرين، وإنما النجاة في الإيمان بكفارة المسيح. فلكل واحد من الفريقين هدف محدد لتأثيم أنبياء الله تعالى. وردًّا على هذه الأفكار من الطرفين قال الله تعالى أن هؤلاء كانوا ممن هدينا واجتبينا ، مؤكدًا أن هؤلاء لم ينالوا من قبلنا هذا اللقب عن فراغ وعبثًا،

والإنسان يتبع مثل هذه الترهات والتوافه عندما يتردى. حينما لا يكون عند الناس عادة التدبر في كتاب الله تعالى يتجهون إلى غرائب القصص والأساطير، ثم يظنون أنها هي التفسير لكلام الله تعالى.

لقد وجدت بعض المفسرين القدامى قد ذكروا في تفاسيرهم من القصص الخرافية التافهة ما يدل بوضوح على أنهم لم يعتادوا التدبر في القرآن. فلم يكن لهم انهماك في الحكمة، بل انهماك في الجهل. فمثلاً إذا كتب أحد منهم أن للملاك عشرة أجنحة، فكّر غيره في إمكانية أن توجد رواية تقول أن للـملاك خمسة عشر جناحًا. فإذا قال لـه بعض اليهود نعم هناك رواية بهذا المعنى، قال هذا في تفسيره ليس للملاك عشرة أجنحة، وإنما خمسة عشر جناحًا. ثم يطلع يهودي آخر بقوله إن للملاك مئة جناح، فيقول المفسر أن الملائكة لها مئة جناح (ابن كثير). ولكن المفسرين لا يكتفون بذلك أيضًا، بل يتنافسون بعد ذلك في البحث عن رواية تذكر أن للملائكة ألف جناح. فيلفق أحد اليهود رواية بهذا المعنى، فيفرح المفسر بأنه قد وجد أخيرًا رواية تقول أن للملائكة ألف جناح. ويشيد الناس بعلمه في غبطة وسرور قائلين: سبحان الله، إن شيخنا هذا علامة كبير إذ عثر على رواية تقول أن للملائكة ألف جناح. وهكذا فهم يبحثون عن ما هو لغو وخرافة تاركين الحقيقة، مع أن اللغو لا علاقة لـه بالدين، ولا بالإيمان، ولا بالله تعالى، إنما هو جهل وغباء.

ولو تدبر اليهود التوراةَ، وتدبر النصارى الإنجيلَ، لما ارتكبوا هذه الحماقة فإنهم، رغم كون كتبهم محرفة، كذلك لو تدبر المسلمون القرآن لما وقعوا في هذه الجهالة. ولكنهم تركوا التدبر في القرآن الكريم، كما ترك اليهود والنصارى التدبر في التوراة والإنجيل، فلم يتسبب كتاب الله تعالى في هدايتهم، بل وقعوا في الضلال.

لقد ذكر صاحب المفردات للغي تفسيرًا لطيفًا فقال: «الغيُّ جهلٌ مِن اعتقاد فاسد.» أي أن الغي هو تلك الجهالة التي تنشأ حين يعزو الإنسان إلى كتاب الله تعالى ودينه عقائد خاطئة وروايات باطلة. ولو أن الناس أقاموا الصلاة، واهتموا بالدعاء والبكاء والإنابة إلى الله تعالى، ورجعوا لهدايتهم إلى وحي الله وكتابه بدلاً من أن يتبعوا اجتهاداتهم الخاطئة، لما لقوا هذا المصير. ولكنهم تركوا الأمرين كليهما فكان من المحتم أن يكون مآلهم الضلال والفشل والجهل والهلاك، كما حصل فعلاً.

الحق أن الكسل عن الصلاة يحرم الإنسان وصالَ الله تعالى ومعرفة صفاته، فيكون مآله الغي والضلال. إن قلة الدعاء تؤدي إلى الفشل. وأما اتباع الشهوات فيقلل رغبة المرء في العلم والبرهان ويزيده جهلاً وغباءً، واجتماع هذه الأشياء كلها يؤدي إلى الدمار.

ثم يقول الله تعالى إلا مَن تاب وآمنَ وعمِل صالحًا فأولئك يدخُلون الجنة ولا يُظلَمون شيئًا . واعلم أن العمل الصالح لا يعني العمل الحسن، إنما يعني العمل الذي يتفق مع مقتضى الحال. فمثلا لو أن المرء بدأ يصلي وقت الجهاد فلا شك أنه يقوم بعمل حسن، ولكنه ليس بعمل صالح. ولو أن أحدًا بدأ يلقي الوعظ وقت الصلاة، فإنه عمل حسن، ولكنه ليس بعمل صالح. ولو أمسك المرء عن الطعام يوم العيد – أنا لا أقول إنه يصوم لأن الشيطان هو الذي يصوم يوم العيد – أو لم يهتم بالغسل والنظافة، فيمكننا أن نسميه زاهدًا في الدنيا، إلا أن عمله لن يُعَدّ عملاً صالحًا. ولذلك نجد أن القرآن الكريم لا يحث على العمل الحسن وإنما على العمل الصالح. فهو يأمرك بالصدقة وقت الصدقة، والصلاةِ وقت الصلاة، والجهادِ وقت الجهاد، وذكرِ الله وقت الذكر، وحفظِ السرِّ وقت السِّرّيةِ. والذين يعملون بحسب مقتضى الحال يعدهم الله تعالى ويقول فأولئك يدخلون الجنةَ ولا يُظلَمون شيئًا .

وما هي تلك الجنة؟ قال الله تعالى في وصفها جنّاتِ عدنٍ . وبطبيعة الحال ليس المراد من عدنٍ هنا أرض عدن الواقعة في جنوب غرب الجزيرة العربية، بل المعنى أن تلك الجنات جنات خلود ودوام. ذلك أن لفظ العدن يعني الدوام والخلود، حيث ورد في القاموس: عدَن بالمكان: أقام به؛ وأقام البلدَ: توطَّنَه، وقيل منه جنّاتِ عدنٍ أي جناتُ إقامة لمكان الخلود (الأقرب).

والمراد من قول الله تعالى التي وعَد الرحمنُ عبادَه بالغيب أنه قد وعدهم بهذه الجنات حينَ لم تكن مرئية لهم، أي حين لم تكن هناك أية آثار لحصولهم على هذه الجنات، ومع ذلك قد حصلوا عليها. وهذه الجنات قد نالها المسلمون في هذه الدنيا، كما قد وعدهم الله تعالى بها في الآخرة أيضًا. وحيث إنهم قد نالوها في الدنيا رغم استحالة حصولهم عليها في الظاهر، فهذا برهان على أن ما يدعي به محمد رسول الله إنما يدعيه بناء على أمر الله تعالى، وأن الوعد الثاني أيضًا سيتحقق حتمًا كما تحقق الوعد الأول.

كما يمكن أن يراد بقوله تعالى بالغيب أن الله الرحمن قد وعدهم بهذه الجنات نتيجة إيمانهم بالغيب. بمعنى أنهم لم يروا الله تعالى، ولكنهم لما سمعوا البراهين على وجوده آمنوا به. إنهم لم يشاهدوا الملائكة، ولكنهم لما سمعوا الأدلة على وجودها صدقوا بها. إنهم لم يجربوا الحياة بعد الموت، ولكنهم عندما سمعوا الدلائل على وجودها آمنوا بها وأيقنوا أن هناك حياة بعد الموت. إنهم لم يروا الجنات، ولكن لما قال الله لهم آمِنوا بالجنة صدّقوا بها. لذلك يقول الله تعالى فبما أنهم قد ضربوا أروع مثال للإيمان بالغيب، فصدقوا بهذه الأشياء الغائبة الخفية عن أنظارهم ابتغاءَ مرضاتنا وتصديقًا لقولنا، فسندخلهم في جنات غيبية أي جنات تفوق تصوراتهم.

ثم يقول الله تعالى إنه كان وعدُه مأْتيًّا .. والمأتي ما يؤتاه ويُحضَر إليه، المراد أنهم سيُؤتى بهم إلى تلك الجنات وكأنهم سيُعطونها جبرًا وقسرًا.. بمعنى أن هؤلاء لا يتمنون أي جنة وإنما يريدون وصال الله تعالى، ولكن بما أن الله تعالى قد وعدهم بالجنات فسيقال لهم لا بد لكم من أن تدخلوها أيضًا. فكأن ما وُعدوا سيؤتى به، فيُدخَلون الجنات.

إن هذا الكلام يدل على كمال الإحسان، حيث يخبر الله تعالى أنه لن يكون بوسعهم أن يرفضوا عرضنا هذا.

(يُتبع)

تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via