قال سيدنا أمير المؤمنين نصره الله تعالى بعد تلاوة سورة الفاتحة:
لحياة الإنسـان أدوارٌ تختلف بعضها عن بعض باختـلاف مؤهّـلاتـه العلميّة، فهو يسير أحياناً في أحوالٍ تسبّب رقيّه وأحياناً في أحوالٍ توجب تقهقره. وهو يظنّ مرةً أنّه يمشي في حالاتٍ هي سبب ارتقائه، ويظنّ في أخرى أنّه يسير في أحوالٍ تسبّب له الانحطاط بينما تكون الحقيقة بالعكس. فهو مرةً يظهر الاضطراب مع أنّه في مقامٍ يوجب الفرح والسّرور، ومرةً يظهر السّرور ويكون في مقامٍ يوجب الاضطراب والبكـاء. هكـذا هي حالات الكفّار والمؤمنين في مقاومتهم لبعضهم. ولكن حالاتهم هذه هي في الحقيقة ناشئةٌ من عدم العلم. إنّ الله لا يزال يرفع المؤمنين ولكنّهم في الظاهر يرون المصائب أمامهم، ويضطربون منها ولكنّ اضطرابهم هذا في غير محلّه. وإنّه تعالى لا يزال يخفّض الأعداء وهم يظنون بأنّ هذا من أسباب رقيّهم وتقدّمهم فلا يزالون يفرحون ولكنّ سرورهم لا يكون أيضًا في محلّه. فالله يبقي الفريقين في الجهالة حتى يأتي وقت القضاء والقدر. وإذ ذاك تأخذ الحيرة الفريقين كلاًّ في مقامه، فالذي كان لا يزال يركض ظانّاً بأنّه سيرتقي على العرش إذ يرى نفسه فجأةً جالسًا على كرسيّ المشنقة، وأما الذي كان يظنّ بأنّه مجرورٌ إلى كرسيّ المشنقة يرى نفسه فجأةً بأنّه رفع على عرش المملكة. فهذا الوقت الذي يرفع فيه الحجاب يكون عجيبًا ولا يقدّره إلاّ الذين ملكوا وقتًا ساروا به في مثل هذه الحالات، وإلاّ فإنّ هذه الأحوال تكون خارقةً للعـادة لدرجـة يـكون فهمها مستعصيًا حتّى على الأجيال المتتابعة.
قبل (1900 سنة) حينما كان اليهود يعلّقون المسيح على الصّليب من ذا الذي يستطيع أن يقدّر ذلك السّرور الذي دخل قلوبهم إذ ذاك، وأيضًا من ذا الذي يستطيع أن يقدّر اليوم كيف كانت حالة حواريّي المسيح مما دخل في قلوبهم من الاضطراب الذي نفهم منه أنّ المساكين الذين ما كانوا يعرفون سلّ السّيف ترى واحدًا منهم اسمه بطرس شهر سيفه وبغير أن يبالي بالنتائج استعدّ لمقاتلة واحدٍ من الجنود. ولكنّ المسيح منعه وقال له: هذا لا يفيد. ولكنّ حالة بطرس الثانية كانت أنّه لعن المسيح وقال أنا لا أعرفه. كأنّ تأثّره الأوّل جعله مستعدًا للمقاومة في غير محلّها وفي حالته الثانية أنكر مـولاه ومعلّمه بغير سبب.
وأما كيفية قلب المسيح فنفهمها من أنّه لمّا زاره مرةً أمّه وإخوته وقيل له أنّ أمّك وإخوتك واقفون خارجًا وهم يريدون زيارتك، قال من هم أمّي وإخوتي، ولكن في المرّة الثانية كانت حالة قلبه أنّه لمّا علّق على الصّليب ورأى أمّه واقفةً في الجمع أشار إلى واحدٍ من الحواريين ودعاه عنده، ولمّا ذهب إليه قال له: أَتَعرِفُ مَن هذه المرأة الواقفة؟ اعلم أنّ هذه هي أمّك، وأيّتها المرأة هذا هو ابنك. ومعنى ذلك حسب الظّاهر أنّه كان يظنّ أنّ وقته الأخير قد جاء ولذلك فرض عليه أن يدبّر حفظ أمّه وتسليتها فدعا عنده أحد الحواريين وقال: يجب عليك أن تتّخذها أمًّا لك وأنت يا أمّي اتخذيه ابنًا لكِ، ففي ذلك الوقت كم كان اليهود فرحين وكم كان الحواريون حزانى. ولكن أنّى كان بإمكانهم أن يعرفوا الحالات الآتية!.. ها قد مضى اليوم (1900سنة) ولكنّ اليهود لا محلّ راحةٍ لهم وكلّ مُلكٍ يضيق عنهم والملك الأخير لراحتهم كان إنجلترا ولكن في إنجلترا أيضًا يهاجم اليهود الآن.
ما أطول هذه المدّة (1900سنة)!.. إنّ النّاس بعد مائة سنةٍ ينسون آباءهم وأجدادهم ولكنّ الذين آذوا المسيح بعد هذه المدّة الطويلة (1900سنة) ما زالوا يتألّمون ولا نظير لهذه الآلام في قومٍ من الأقوام. وأمّا المسيح الذي توّج بتاج الأشواك فقد احتُرِمَ احترامًا حتى حمده الله من عرشه وذكره في القرآن المجيد بإعزازٍ عظيم. والمسيحيّون يغالون في محبّته حتى قالوا إنّه هو ابن الله الوحيد والجالس عن يمينه على العرش. إنّ معلّقيه على الصّليب لا يجدون لهم ملجأً في العالم، وأمّا المعلَّق فقد رفع على العرش.
إنّه ليس من أحدٍ اليوم يقدّر ما كان يشعر به اليهود والحواريّون إذ ذاك. وكذلك ما كان الأقدمون بإمكانهم تقدير ما يشعر به اليهود والمؤمنون بالمسيح اليوم. هل كان بحسبان آباء اليهود وأجدادهم بأنّ عملهم هذا ستكون نتيجته نزول لعنة الله على ذريّاتهم إلى آلاف السّنين؟ وهل كان الحواريّون يحسبون بأنّه نتيجةً لتضحيتهم هذه ستبقى ذريّاتهم حائزةً لنعمة الله مهما صارت مخالفـةً للدّين ومفسدةً فيه؟
فينبغي ألاّ يغرب عن بال جماعتنا بأنّهم أيضًا جماعة نبيٍّ وأنّهم يعامَلون في هذه الأيام تلك المعاملة التي كان يعامل بها الأقدمون، وكان الله أبقاهم في الظلمات في كلّ حين حتى جاء يومٌ زالت فيه تلك الظّلمات وأعلن الله فيه قضاءه. كذلك من الضّروريّ أن نُتـْرَكَ نحن أيـضًا في الظّلـمات حتّى ينـزل أمر الله لإزالتـها.
إنّ وقوع المصائب والابتلاءات والتّكاليف أمرٌ لا بدّ منه، بل إنّ هذه الأشياء بسيطةٌ لا يُهتم بها، وأمّا الشّيء الذي ينبغي أن يُبالى به هو أن لا تكون المصائب والابتلاءات مصائب في الإيمان، لأنّ المشاكل الجسمانية إذا رفعت درجة الإنسان فإنّ المشاكل الإيمانيّة تضعها. فلا يجوز للمؤمن أن يخاف المشاكل التي تأتيه من قبل دنياه. بل عليه أن يهتمّ بالمشاكل التي تأتيه من قبل نفسه. كثيرون هم الذين لا ينظرون إلى المشاكل الناشئة من النفس الإنسانية وينظرون إلى المشاكل التي تأتي من قبل الناس، مع أنّ المشاكل الآتية من قبل الناس مثلها كالسّماد. وأمّا التي تأتي من النّفس الإنسانية فمثلها كالفأس على الجذر. فينبغي لكلّ من يعظم الروحانية أن يلتفت إلى تلك المشاكل والمظالم التي تنشأ من عند النفس إذ هذه هي المظالم الأصلية والموجبة للخطر الحقيقي لأنه من الممكن أن يطرح واحدٌ من إخوتنا في نتيجتها من العرش إلى الفرش بعكس المصائب التي تأتي من قبل الدنيا فهي ترفع الإنسان من الفرش إلى العرش. فبدلاً من أن تجعلوا اتجاهاتكم إلى المشاكل التي يولّدها الناس فأنا أنصح الجماعة أن يتفقّدوا قلوبهم كثيراً ويعهدوا إيمانهم. لقد قال النبي بأنّ الشيطان يجري في دم الإنسان. وكما أنّ السمّ المتولّد في دم الإنسان لا يعرفه الإنسان حتى تظهر أسباب الهلاك، فهكذا الشيطان لا يزال قابضًا على الإنسان دون أن يشعر به حتى يهلك في يومٍ من الأيام.
وكما أنّ السمّ المتولّد في دم الإنسان لا يعرفه الإنسان حتى تتمّ أسباب الهلاك، فهكذا الشيطان لا يزال قابضًا على الإنسان دون أن يشعر به حتى يهلك في يومٍ من الأيام.
يوجد كثيرٌ من الأمراض في الدّنيا تؤثّر في جسم الإنسان قبل أن يهلك بأيام، فمثلاً الكوليرا والجدري والإنفـلونـزا والحمى المحرقة والطاعون، فهذه الأمراض تؤثر في الإنسان قبل ظهور أعراضها بعضها بيومين وبعضها بثلاثة أيام وبعضها بسبعة أيام وبعضها بخمسة عشر يومًا، ولكنّ الإنسان لا يشعر بهذا التأثير حتى يسري ذلك السمّ بالدمّ في الجسم كلّه ويعلم المرض بعد أن يتسلّط على الجسم كلّه ولا يبقى منه مفرٌّ للإنسان. والشيطان أيضًا يأتي من طرقٍ لا يشعر بها الإنسان وإذا شعر فيشعر- بل نقول يشعر رفقاؤه – عندما يتسلّط الشيطان عليه كاملاً. لأنّ الأمراض الدنيويةوالأمراض الروحانية بينهما فرقٌ وهو أنّ المريض المادي يشعر ويقول بأنّي مريضٌ ولكنّ المريض الرّوحانيّ يظنّ بأنّه صحيح وأنّ الذين يقولون له بأنّه مريضٌ كلّهم مخطئون.فهو كأنّه أصيب بالجنون إذ كما أنّ المجنون يظنّ بأنّه ليس بمجنون بل الناس كلّهم مجانين فهكذا هو يظنّ بأنّه ليس بمريضٍ بل الذين يقولون أنّه مريضٌ كلّهم مرضى. فاعلموا أنّ الشيطان إذا تسلّط على الإنسان عرفه أصدقاؤه بأنّه مريض وأمّا هو فيظنّ بأنّه صحيحٌ من كلّ جهة. فينبغي أن تتوجّه جماعتنا إلى إصلاح نفوسها.
إنّ كلّ من يتكبّر ويظنّ نفسـه بـأنّه محفوظٌ ومصونٌ، عليه أن يعلم بأنّه سائرٌ إلى الموت. المؤمن لا تفارقه خشية الله وخوفه أبدًا. لقد جاء في الأحاديث عن النبيّ أنّه كان يقوم بالليل ويدعو بالتواضـع والانكـسار لدرجة أنّ الصّحابة رضي الله عنهم قالوا إننا كنا نرحمه في بعض الأحيان. ومرةً قالت عائشة رضي الله عنها للنبي : إنّ الله تعالى عفا عنك كلّ شيءٍ فهل تكون نجاتك بالأعمال؟ فقال لها: يا عائشة إنّ نجاتي أيضاً متوقّفةٌ على فضل الله. فإذا كانت هذه هي حالة النبي فكيف يمكن لغيره أن يقول بأنّه معصومٌ من ابتلاءات الله وامتحاناته؟. قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم: لما كنا نرى النبي وهو يدعو كنا نشعر كأنّ القدر تغلي من الفوران. فتوجّهوا إلى إصلاح نفوسكم وعمِّـروهـا بالتـقوى والطهـارة ولا تـظنّوا بأنّكم تعمـلون صـالحًا. كان المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام يقول: لا ندري لماذا وكيف يحجّ الناس مع أنهم يصبحون أكثر تعلقا بفسادهم قبل أن يقوموا بالحج. وإن سبب هذا الفساد هو أنّهم لا يعرفون فائدة الحجّ، فهم بدلاً من أن يستفيدوا فائدةً روحانيةً يتكبّرون لمجرّد كونهم حجّاجًا. وكان المسيح الموعود يروي نكتة بأنّ عجوزاً كانت جالسةً في أيام الشتاء في محطّة القطار منفردةً إذ سرق شخـص رداءها. فلما شعرت بالبرد وأرادت لبس الرداء لم تجده فنادت قائلةً بالبنجابية ما معناه: أخي الحاج، لم يكن لي إلا رداء واحد سأموت من البرد الآن فتفضّل وَرُدّ عليّ ردائي. فلما سمع السارق النداء خجل وأعاد الرّداء إليها ثم سألها مستفهمًا: كيف علمت أنّ سارق الرّداء هو حاج؟ فقالت في هذا الزمان لا يكون قلب أحدٍ متحجّرًا إلى هذا الحدّ إلا قلب الحجّاج.
فلا تظنوا بأنّكم مشتغلون بصالحات الأعمال ولا تظنوا بأنّ نواياكم صالحة.
الإنسان مهما كانت أعماله صالحةً يمكن أن يتولّد منها سوء، ومهما كانت النيّته صالحةً يمكن أن تفسد إيمانه، لأنّ الإيمان لا يحصل لنا بنتيجة أعمالنا بل بفضل من الله تعالى. فعليكم أن تنظروا إلى فضل الله تعالى في كلّ وقت، وليرتفع نظركم إلى أياديه، لأنّ السّائل الذي يظنّ بأنّ كلّ بابٍ موصدٍ في وجهه بعد أن قام من باب الله سبحانه فإنّه يجلب فضله. فينبغي أن يرتفع نظركم إلى الله سبحانه وتعالى في كلّ وقت. وما دمتم ناظرين إليه تكونون محفوظين لأنّ الذي يرتفع نظره إلى الله لا يضرّه أحدٌ ولكنْ إذا حوّل النّظر إلى طرفٍ آخر وترك الإنسان باب الله فعندها مهما كانت نواياه صالحةً ومهما يعمل الأعمال الصالحة فإنّه لا يبقى له ملـجأ، بل لا يجلس إلا في حضن الشيطان.