رمضان والحالة المريمية
- الصيام يقتل تدريجيًا النفس الأمارة بالسوء.
- مراحل تحول النفس الأمارة إلى النفس المطمئنة.
- الصوم رحلة نحو المدارج الروحانية العليا.
إن الإنسان يقوم في الدنيا بأعمال شتى. يجتهد ويكابد، وهو فى أثناء ذلك يواجه الحياة وبداخله النفس الأمارة، التى هى مثل حية شرها قد طم وتراها تنفث السم أو هى كضرغام ما ينكل إن هم، وغذاء هذه النفس الأمارة هو سموم المعصية وقاذورات الخطايا، فإن المعاصى ترشح بعصارة قاذورات ونجاسات على هذه النفس التي بدورها تترعرع وتغلظ وتشتد بعد أن تسقى بماء النجاسات هذا، فتصبح أفعى ضخمة شرها يبور، وبقراتها تخور أى تصدر صوتا وخوار شراهة إلى المعصية تطلب المزيد من المعاصى، فلا تأمر إلا بشر وسوء وتستحوذ على الإنسان وعلى كل ذرة طاقة لديه. ويأتى رمضان والإنسان هكذا أسير فى سجن هذه النفس، فيدربه على ما يعَوّده على تحمل المشاق والشدائد في أعمال الخير، ويبدأ المسلم بالصيام فيحصن فرجه، بمعنى أن يجعل على كل فتحات الجسم من سمع وبصر ولسان وشفتين وجلد وعقل وأنف وقبل ودبر، يجعل على هذا الثغور والفروج حراسة مشددة، تمنع نفاذ المعاصى وسمومها إلى داخل النفس، هنا تفقد النفس الأمارة غذائها من سموم المعصية فتبدأ فى الذبول ولكن تخور بقراتها الخوار الأخير وتنتفض الحية بذيلها آخر انتفاضة، ولكن الحراسة المشددة القائمة على الثغور أوالفروج تنتبه وتلوم صاحبها إن هم بمعصية وتنتصر الحراسة اللوامة بل وتهوى بفأس الخلاص على رأس الحية الأمارة بالسوء وتلفظ الحية آخر نفس لها وتضمر وتموت. بعدها يبدل الله الإنسان نفسًا خيرًا منها بالتدريج، إنها النفس المطمئنة، بمعنى أن المؤمنين يترقون إلى مقامات أعلى فى رمضان، فيحفظون كل منفذ لهم.. أي آذانهم وعيونهم وأفواههم وعوراتهم. فلا يسمعون الغيبة، ولا يمدّون عيونهم بجشع إلى أموال الآخرين، ولا يزنون.
لقد بين الله مرارا أن الفلاح إليه يمر بمرحلة حرجة هي حفظ الفروج، كي ينفخ الله فينا روح القبول، والفروج هي كل المنافذ. وضرب الله مثلا للمؤمنين وهم فى هذه الحالة بمريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها، بكل المعاني الجسمية والعقلية والروحية، وقال النبي : ليس الصوم أن يمسك الإنسان عن الأكل والشرب، ولكن الصوم أن يترك لغو الكلام. فلا بد للصائم أن يكف عن لغو الحديث والخصومة وغيرهما مما يدخل في اللغو، ومن معاني قوله تعالى لعلكم تتقون أن الإنسان الصائم يتقي بصومه من السيئات والذنوب. فبانقطاعه عن الدنيا وحفظ فروجه تزداد نظرته الروحانية حِدّة، ويطلع على عيوب لم يكن يبصرها من قبل. وكذلك يتقي الصائم من الذنوب بإمساك لسانه كما قال المصطفى : “من لم يَدَع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)” (البخاري، كتاب الصوم)..أي لا يعني الصوم أن يمتنع الإنسان عن الطعام والشراب طول نهاره، بل عليه أن يحمي فمه من كل ما يضر روحانيته، فلا يكذب ولا يسب ولا يغتاب ولا يختصم. الأمر بحفظ اللسان عام، ويجب العمل به دوما، ولكن الصائم يحفظ لسانه بصفة خاصة وإلا فسد صومه. وإذا تعوّد الإنسان على حفظ اللسان لشهر كامل تمكّن من حفظ نفسه سائر الشهور أيضا. وهكذا فإن الصوم يحميه من الذنوب على الدوام. وهنا يثبِّت الله قدم الإنسان على التقوى، ويتيح له نوال المدارج الروحانية العليا. وينفخ الله فيه من روحه وعندها يبدأ إلهام الله يتنزل على قلب الصائم، وتزداد بصيرته الكشفية جلاء ونورا. بمعنى أن الله يشرف الإنسان فى هذه الحالة بإلهامه وينزل عليه كلامه في كل رمضان، ويفتح عليه أبواب رؤى وكشوفٍ صادقة، ويطلعه على أسرار غيبه.