- علم الله بآفات الأقوام
- تدبير الله لهذه الأيام
- المسيح أحمد
__
فحاصل الكلام في هذا المقام أن الله كان يعلم بعلمه القديم أن في آخر الزمان يُعادي قوم النصارى صراط الدين القويم، ويصدّون عن سبل الرب الكريم، ويخرجون بإفك مبين. ومع ذلك كان يعلم أن في هذا الزمان يترك المسلمون نفائس تعليم الفرقان، ويتبعون زخارف بدعات ما ثبتت من الفرقان، وينبذون أمورًا تُعين الدين وتحبّر حلل المؤمنين. وتسقطون (1) في هوة محدثات الأمور وأنواع الأهواء والشرور، ولا يبقى لهم صدق ولا ديانة ولا دين، فقدر فضلا ورحمة أن يرسِل في هذا الزمان رجلاً يُصلح نوعَي أهل الطغيان، ويتم حجة الله على المبطلين. فاقتضى تدبيره الحق أن يجعل المرسَلَ سَمِيَّ عيسى لإصلاح المتنصرين، ويجعله سَمِيَّ أحمدَ لتربية المسلمين، ويجعله حاذيًا حذوَهما وقافيًا خطوَهما، فسماه بالاسمين المذكورين، وسقاه من الراحَين، وجعله دافِعَ همِّ المؤمنين ورافِعَ فتن المسيحيين. فهو عند الله عيسى من جهة، وأحمدُ من جهة، فاترُكِ السبل الأخياف وتجنَّبِ الخلاف والاعتساف، واقبل الحق ولا تكن كالضنين. والنبي كما وصفه بصفات المسيح حتى سماه عيسى، كذلك وصفه بصفات ذاته الشريف حتى سماه أحمد ومشابهًا بالمصطفى، فاعلم أن هذين الاسمين قد حصلا له باعتبار توجه(2) التام إلى الفرقتين، فسماه أهل السماء عيسى باعتبار توجُّهه وتألمه كمُواسي الأسارى إلى إصلاح فرق النصارى، وسمَّوه بأحمد باعتبار توجّهه إلى أُمّة النبي توجّهًا أشد وأزيد، وتألّمِه من سوء اختلافهم وعيشهم أنكد. فاعلم أن عيسى الموعود أحمد، وأن أحمد الموعود عيسى، فلا تنبذ وراء ظهرك هذا السرّ الأجلى. ألا تنظر إلى المفاسد الداخلية وما نالنا من الأقوام النصرانية؟ ألست ترى أن قومنا قد أفسدوا طرق الصلاح والدين، واتبعوا أكثرهم سبل الشياطين، حتى صار علمهم كنار الحُباحِب، وحِبرهم كسراب السُباسِب، وصار تطبُّعُ الشرِّ طِباعًا، والتكلّفُ له هوًى طباعًا، وأكبّوا على الدنيا متشاجرين؟
يأبر بعضهم بعضا كالعقارب ولو كان المظلوم من الأقارب، وما بقي فيهم صدق الحديث وإمحاض المصافات، وبدلّوا الحسنات بالسيئات. اشتغلوا في تطلُّب مثالب الإخوان ونسوا إصلاح ذات البين وحقوق أهل الإيمان، وصالوا على الإخوة كصول أهل العدوان. أدحضوا المودّات وأزالوا خلوص النيات، وأشاعوا فيهم الفسق والعدوان، واتبعوا العثرات والبهتان. زالت نفحات المحبة كل الزوال، وهبّت رياح النفاق والجدال. ما بقي سعة الصدر وصفاء الجنان، ودخلت كدوراتٌ في الإيمان، وتجاوزوا حدود التورع والتقاة، وتناسوا حقوق الإخوان والمؤمنين والمؤمنات. لا يتحامَون العقوق ولا يؤدّون الحقوق، وأكثرهم لا يعلمون إلا الفسق والنهات، وتغيَّرَ الزمان فلا ورع ولا تقوى ولا صوم ولا صلاة. قدّموا الدنيا على الآخرة، وقدّموا شهوات النفس على حضرة العزة، وأراهم لدنياهم كالمصاب، ولا يبالون طرق الآخرة ولا يقصدون طريق الصواب. ذهب الوفاء، وفُقد الحياء، ولا يعلمون ما الاتقاء. أرى وجوهًا تلمع فيهم أسرّة الغَدر، يحبّون الليلة الليلاء ويبزُقون على البدر. يقرأون القرآن، ويتركون الرحمان. لا يرى منهم جارُهم إلا الجَور، ولا شريكُ حدبهم إلا الغَور، يأكلون الضعفاء ويطلبون الكَور. كثُر الكاذبون والنمّامون، والواشون والمغتابون، والظالمون المغتـالون، والزانـون الفاجرون، والشاربون المذنبون، والخائنـون الغدّارون، والمايلون المرتشون. قست القلـوب والسجايا، لا يخافون الله ولا يذكرون المنايا. يأكلون كما يأكل الأنعام، ولا يعلمون ما الإسلام. وغمرتهم شهوات الدنيا، فلها يتحركون ولها يسكنون، وفيها ينامون وفيها يستيقظون. وأهل الثراء منهم غريقون في النعم ويأكلون كالنَّعم، وأهل البلاء يبكون لفقد النعيم أو من ضغطة الغريم، فنشكو إلى الله الكريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله النصير المعين.