لما كنّا طلبة جامعيين كان عميد الجامعة وأستاذنا الموقّر السيد مير سيد محمود أحمد ناصر سلّمه الله يلقي من حين لآخر كلمة ينصحنا من خلالها. وقد قال مرة: ورد في القرآن: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب .. فكيف نتمكن من أداء ذكره بالمحبة والمودة وبأحسن وجه؟ ثم قال: هنالك خُلُقان: الحسن والإحسان.. يؤثران في القلوب ويُنشئان المحبة والمودة في العالم. علينا أن نمعن النظر في حسن الله وإحسانه كي نتمكن بفضله من أداء ذكره بأعماق القلب. ثم قدم بعض الأمثلة وقال: إن من إحسانه مثلاً أنه يوقظنا كل يوم ويتوفى مئات من الآخرين. فالحمد لله الذي يحيي ويميت. ثم نجلس ونتحرك، ونعرف كثيرًا من الناس لا يقدرون على الحركة لأنه قد أصابهم الشلل. ثم ننظر إلى من حولنا ونرى عديدًا من الناس محرومين من البصر لا يتمتعون بنور الشمس وألوان الأزهار. ثم ننهض من السرير ونمشي على الأقدام بينما هناك آلاف آخرون أصبحوا مرضى مضطجعين، ليس في وسعهم النهوض والمشي على الأقدام. ثم نتوضأ ومئات من الناس لا يقدرون على الاستفادة من الماء. ثم نحن نصلي والملايين من الناس يسهرون في الملاهي ويتكالبون على الدنيا ويرتكبون المعاصي وهكذا دواليك. عندها أدركت معنى آية
في الحقيقة يجب علينا أن نفكر في حسن الله وإحسانه كي نزداد في حبه، ونعرف سر الحياة ولكي لا ينطبق علينا مدلول آية
وكي لا نتفوه بكلمة تُسخط ربنا، ولا نغفل عن هدف حياتنا فنقول كما قال الشاعر:
أتى بي لهذا الكون مضطربًا فلم
يزدني إلا حيرة وتعجبُ
>
وعُدتُ على كرهٍ ولم أدرِ أنني
لماذا أتيتُ الكون أو فيم أذهبُ
والجواب واضح أي
ولكن المؤمنين الحقيقين يتفكرون في حسن الله وإحسانه كما ورد:
وإذا أمعنا النظر في العالم المادي والروحاني نجد منن الله ونعمه منتشرة كاللآلىء. وإن يغب عن الكائنات إحسانُه لحظة تندثر وتتصادم الكواكب وتقوم القيامة، كما أشار الله في الآيات
وقال في موضع آخر:
وقال:
عدد الله سبحانه وتعالى بعض نعمه في سورة الرحمن وكرر آية: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . واستقطب انتباهنا إلى الشكر وهو التحديث كما قال : وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ . وفي موضع آخر “بشِّر الشاكرين وأنذر الكافرين” كما قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (إبراهيم: 8).
فالتعرف إلى إحسانه والشكر واجب علينا وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. والإحسان في حد ذاته هو كما أخبرنا رسول الله : “.. أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ”. وهذا هو هدف الخلق كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ .
أما حسن رحماننا فمنظم كالوشاح المتفضل، ونازل من السماء كالعسل، وأنوار الشموس ضئيلة عند تجليه. هو بارز من ضوء القمر، وظاهر من أمواج البحر، ومشرف من ألوان الزهر، هو في الأفق كقوس قزح، ومطل من قمة الجبل، وقائم في قطاع السهل، يطير مع الطيور الجميلة، ويعوم مع الأسماك الملونة، ويرتفع مع الأشجار المثمرة ويسبح مع الكواكب، ويتلألأ في النجوم، ومترشح من صفاته الكريمة، فله الأسماء الحسنى. ولكنه لا يتراءى إلا للعارف. قيل: إن عارفًا بالله كان يمشي في الطريق وأحد مريديه كان يتابعه ورأى العارف وردة، تراءى له فيها حسن الله فقبلها، فقبلها المريد أيضا. ثم تقدم العارف فشاهد طفلا فقبله، وتبعه الرجل. ثم تقدم العارف ولاحظ نارا فلثم شررها، ولم يستطع المريد فعل ذلك. فقال العارف: إن حسن الله ينفجر من كل شيء ولا يراه إلا العارف. في الحقيقة الكون مملوء من حسنه بالبريق. القرآن قول الله والعالم فعله وهما يتطلبان منا أن نمعن النظر فيهما ونتعرف عليه لكي نعاين حسنه وإحسانه فنزداد محبة ومودة ونذكره بأعماق القلوب.