الإسلام وملف أسرى الحرب نظرة في وقائع التاريخ، وشهادة شاهد ن أهله

الإسلام وملف أسرى الحرب نظرة في وقائع التاريخ، وشهادة شاهد ن أهله

عبادة بربوش

رئيس تحرير "التقوى"
  • ما الحق والحقيقة في الأسلوب الإسلامي الصحيح في معاملة أسرى الحرب؟
  • هل من شاهد غير مسلم نطق بشهادة إنصاف في حق الإسلام وشريعته بهذا الصدد؟

 ___

انتقاد واهٍ

لم يدخر منتقدو الإسلام في الغرب جهدا على توجيه سهام انتقاداتهم إلى هذا الدين الحنيف في كل الميادين، وكانت ركيزتهم الأساسية في توجيه انتقاداتهم هي عقد المقارنة بين الوضع في الإسلام والحياة المعاصرة، علما أن هؤلاء المنتقدين أنفسهم لم يجرؤوا يوما على عقد مثل تلك المقارنات بين التعاليم الإسلامية وأي من تعاليم الأديان السابقة للإسلام، بما فيها المسيحية التي طالما ادعى المتعصبون لنسختها الكنسية أنها دين سلام ومحبة، بينما كذّبت ذلك الادعاء الأجوف أحداثٌ ووقائع التاريخ بلسان شهود من أهلها.. ومما يُرمى به الإسلام ظلما وبهتانا أسلوبُ تعامله مع ملف أسرى الحرب من النساء، بدعوى أنه جعل من الحرب بابا لاسترقاق النساء واتخاذهن سبايا.

واقع التعليم الإسلامي ومثال من التاريخ

لقد حرَص الإسلام حرصًا شديدًا على حسنِ معاملة الأسرى، والحفاظ على حياتهم، وإكرامهم بتوفير الطعام والكساء والتلطُّف، وقد ألقى الضوء على بعض الجوانب، وهناك جوانب أخرى كثيرة كان يجب إلقاء الضوء عليها؛ كالأحكام التفصيلية للأسير المشرك(1)، وكأحكام الأسير المسلم عند المشركين(2)، ووجوب فك أسره وبذل كل الأموال لتخليصه من أيدي المشركين، ثم بيان الصور المشرقة والخُلق العالي، والتصرفات الراقية للمسلمين وقادتهم في حروبهم مع أعدائهم، ومعاملتهم للأسرى بالعفو والتسامح والمنِّ عليهم – خصوصًا بعد النصر والغلبة – كما فعل ألب أرسلان مع ملك الروم، وكما فعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله مع أعدائه الصليبيين؛ فمما سطره التاريخ في ذلك عن صلاح الدين أنه كان يفتح بابه طيلة اليوم لاستقبال العجزة والفقراء، وتقديم المعونة إليهم، ومما يذكر في هذا الصدد أن الملكة (سيبل) استأذنت صلاح الدين في الرحيل هي وأتباعها من بيت المقدس، (وذلك بعد معركة حِطِّين، وانتصار المسلمين فيها وفتح بيت المقدس)، فلم يرفض لها صلاح الدين طلبًا، وخاطبها بأسلوب مؤدَّب رقيق، وأطلق سراحها حتى تتمكن من زيارة زوجِها السجين في قلعة نابلس، بل إنه ذهب إلى أبعد من هذا في تصرفه معها، فأذن لها بالبقاء عنده، مما جعل لسانها يلهج بالشكر والثناء، وقد تبِعها في خروجها عدد غفير من النساء الباكيات الحاملات أطفالهن بين أذرعهن، ولما دنَون من صلاح الدين تقدَّمن إليه، وقلن له في مرارة وأسى: «أترانا الآن راحلات عن هذه الديار، ونحن بين زوج، أو أم، أو ابنة لأولئك الجند الذين لا يزالون في أسرك، ونحن الآن نغادر هذه الديار إلى الأبد، وهؤلاء الجند الذين نتركهم هم عُدَّتنا في حياتنا وسلاحنا في أيامنا، فإذا ما فقدناهم فقدنا الحياة، أما إذا وهبتهم لنا، فقد وهبت لنا النعيم، وخفَّفت بذلك آلامنا، وأزحت بؤسنا، فإنا لا نكون على ظهر هذه الدنيا من غير مساعدة أو عائل، ولم تكد النساء ينتهين من هذا الحديث حتى التمعت الدموع في عينيه، وانهمرت على وجهه، وكادت العبراتُ تَخنِقه، وأمر في الحال بإعطاء الأمهات أبناءهم، والزوجات بعولتهن، والبنات آباءهن، فارتفعت الأكف له بالدعاء.» (3)

وعن عدل صلاح الدين وتقواه لله في أسراه، وتحرِّيه للعدل والحلال مع أعدائه، يقول نفس المؤرخ (ستانلي لين بول):

«إن أحد البطاركة ضبطه جندُ صلاح الدين، وهو خارج بأمواله وذخائره خلسةً، فلم يقبل صلاح الدين أن يصادر هذه الأموال جميعًا، وإنما طلب منه أن يدفع دِيَة قدرها عشرة دنانير، فلما سأله بعض الفرنج عن السبب في ذلك، وقالوا له: لماذا لا تصادر هذا فيما يحمل وتستعمله فيما تقوي به أمر المسلمين، قال: لا آخذ منه غير العشرة الدنانير المقدرة ولا أغدر به!

ويختم (ستانلي بول هذه القصة قائلًا: «وهكذا وصل الأمر إلى أن سلطانًا مسلمًا يُلقي على راهب مسيحي درسًا في معنى البر والإحسان(4)، والحمد لله تعالى، فهذه شهادة مؤرِّخ من غير المسلمين، ومن هذين المشهدينِ أنتقل إلى مشهد تقشعر له الأبدان وتشيب منه الولدان وهو قليل من كثير ويطلق عليه (حفلة حريق)، كان يتقدم الموكب كاهن يرتدي حُلَّة بيضاء، ويحمل صليبًا أسود في يده، يترنم بترانيم الموت، ويمر أولًا أمام عرش الملك، ويعود فيقف في الساحة، ثم يأتي فريق من الكهنة ويمرون أمام العرش، ثم يقفون، ثم يمر فريق من الشعب حاملين صلبانًا سوداء، ثم يمر المحكوم عليهم بالحرق وقد غطَّتهم القاذورات والطين والأوحال التي قذفتهم بها متعصبة الناس، ظانين أنهم يمجدون الله والدين، فإذا ما وصل السجناء إلى الساحة أُصعِدوا إلى أكوام من الحطب عالية، وفي وسط كل كوم صليب مثبت لكي يموت المعذبون وهم ينظرون إلى ذلك الصليب، ثم يرقى رئيس المحكمة مرتفعًا أقيم في وسط الميدان حيث «ساحة ريبرا» ويأخذ في تلاوة الحُكْم على معاشر الزنادقة الكفار! بصوت جهوري، وهو يقول: إن هؤلاء الكفرة قد استحقوا الحرق رجالًا ونساءً؛ لأنهم (يهود، أو من المسلمين، أو من غير أتباع المذهب الكاثوليكي)، وأنهم قد استحقوا الأحكام المقدسة، وأنهم قد اتخذوا الشيطان عدو البشر وليًّا، وهم لا يأتون ثمرًا؛ لذا وجب قطعهم وحرقهم بالنار، عملًا بقول السيد المسيح، له المجد: (مَن ليس معنا فهو علينا، وأن كل شجرة لا تثمر وجب قطعها وإلقاؤها في النار، إن الذنب ذنبهم، ودماءهم على رؤوسهم)، وبعد أن ينتهي من تلاوة ذلك الحكم يصرخ أحد الكهنة: (المجد لسيدتنا والدة الإله)، ثم يتقدم الكاهن لآخر مرة من المجرمين، وبيده صليب، ويعرض عليهم التوبة وتقبيل الصليب، فمن أبى لُعن لعنة أبدية، وإذا ما ساوره الخوف وقبل الصليب، ووعدهم بأن يبوح لهم بأسماء غيره ممن يبحث عنهم (الديوان)، وأن يصرح بما يكفر به ويعلن لهم توبته واستغفاره، فعندئذٍ يعاد إلى السجن مرة أخرى ليتثبتوا من توبته.

وعندما يصدر الأمر إلى جلَّاديهم بإضرام النار، يعلو صراخهم ونحيبهم، وتتصاعد روائح شيٍّ من أجسادهم في الجو، وكثيرًا ما كانت أجسامهم تظهر وهي تحترق سوداء، وتظل النيران مشتعلة ثلاث ساعات بلا انقطاع، والشعب يرقص حولها والكهنة يسبحون! حتى تستحيل بقايا الحطب والجثث رمادًا، فينصرف الملك وحاشيته تشيعهم دعوات الشعب وبركات القساوسة. (5)

لقد حرَص الإسلام حرصًا شديدًا على حسنِ معاملة الأسرى، والحفاظ على حياتهم، وإكرامهم بتوفير الطعام والكساء والتلطُّف، وقد ألقى الضوء على بعض الجوانب، وهناك جوانب أخرى كثيرة كان يجب إلقاء الضوء عليها؛ كالأحكام التفصيلية للأسير المشرك(1)، وكأحكام الأسير المسلم عند المشركين(2)، ووجوب فك أسره وبذل كل الأموال لتخليصه من أيدي المشركين، ثم بيان الصور المشرقة والخُلق العالي، والتصرفات الراقية للمسلمين وقادتهم في حروبهم مع أعدائهم، ومعاملتهم للأسرى بالعفو والتسامح والمنِّ عليهم

أعراف مقيتة أنكرها الإسلام

لقد جرت عادة الدول في الحروب القديمة على قتل جميع الأسرى أو تشويههم، بقطع أطرافهم وسمل أعينهم. ليس هذا فقط، بل وفي التلمود ما هو أشد: اليهودي يقتل جميع الأسرى بمن فيهم النساء والأطفال ونصه: «لا يقف إنسان في وجهك حتى تفنيهم تدريجيًّا لئلا تكثر عليك وحوش البرية(6).. وقد كانت القاعدة السابقة في الحروب قبل الإسلام، في التعامل مع الأسرى هي: إطلاق يد الآسر في أسراه، أما في الإسلام فنصت على أن رئيس الدولة هو صاحب الحق الوحيد في تقرير مصير الأسرى، ولا يجوز للآسر قتل أسيره.(7)

من المسلمين من يقعون في الفخ

يقول بعض المسلمين السذج ممن ليسوا على اطلاع ودراية بالتاريخ أنهم صُدموا بحقيقة أن الإسلام يسمح بإقامة علاقة حميمة مع أسيرات الحرب أو بيعهن، الأمر الذي وضع هؤلاء السذج في حرج شديد، لا سيما عند محاورة غير المسلمين الذين اطلعوا على هذه القضية.. والحق أن هذا القول مدعاة مزيج من سوء الفهم وسوء الظن، وقضية تعامل الإسلام مع ملف الأسرى من القضايا التي أسيء عرضها وتقديمها للناس فلم يفهموها جيدًا بالتبعية. وقد أزال المسيح الموعود في كتاباته سوء الفهم هذا. كما دحض خلفاؤه المفاهيم الخاطئة في مناسبات مواتية وبينوا التعاليم الصحيحة، فلا يسمح الإسلام لأحد على الإطلاق بأسر نساء العدو واستعبادهن لمجرد أنهن في حالة حرب معهم. بل تعاليم الإسلام هي أنه لا يمكن أسر أحد إلا إذا وقعت حرب نظامية. قال الله تعالى في القرآن الكريم:

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (8)

وهكذا، لما كانت الحرب النظامية جارية، فقد تم أسر النساء اللواتي كن يقاتلن في ساحة المعركة. لذلك لم تكن هؤلاء النسوة مجرد نساء عاديات، بل قد جئن مسلحات في جيش العدو.

علاوة على ذلك عندما ننظر إلى قواعد الاشتباك وإلى العادات في ذلك الوقت، يتضح أنه في تلك الأيام عندما كانت تدور رحى الحرب فقد اعتاد الطرفان على أسر واستعباد بعضهما بعضًا سواء كانوا رجالًا أو أطفالاً أو نساء. فوفقا لما جاء في قوله تعالى:

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا (9)

لم يكن قيام المسلمين بذلك أمرا مرفوضا بموجب قواعد الاشتباك المتفق عليها بين الطرفين، خاصة عند النظر إلى سياق وظروف تلك الحقبة.

هذا التعليم متفوق بشكل واضح على تعاليم الأديان السابقة كلها. إذا درس المرء تعاليم الحرب في الكتاب المقدس وكتب الأديان الأخرى سيجد فيها تعاليم تدعو إلى تدمير العدو تماماً(10). وبالإضافة إلى قتل الرجال والنساء، فإنها تأمر بنهب مواشيهم وتدمير منازلهم، ناهيك عن إزهاق أرواحهم صلبا أو حرقا. حتى في ظل الظروف التي يفقد فيها الطرفان السيطرة على عواطفهما ويصممان على قتل بعضهما بعضا، ويصل بهما الغضب لدرجة أنه حتى بعد القتل لا تهدأ مشاعرهما ولا تخمد نيران غضبهما إلا من خلال تشويه جثث العدو، قدم القرآن الكريم تعاليم يمكنها أن تلجم الخيول الجامحة وقد اتبعها الصحابة y بشكل جميل لدرجة أن التاريخ مليء بمئات الأمثلة التي يحسدون عليها.

في تلك الأيام كان قساة القلوب من مكة يسجنون المسلمين رجالا كانوا أو نساء، وكانوا خلال ذلك يسيئون معاملتهم كل الإساءة، فقد اعتادوا بالإضافة إلى الأسر على قطع أنوف وآذان المسلمين الذين استشهدوا والتمثيل بجثثهم. ومن ينسى حين هند أكلت كبد حضرة حمزة ؟! ورغم كل ذلك، أمر المسلمون بألا يشهروا سيوفهم في وجه أي امرأة أو طفل حتى في ساحة المعركة. كما منعوا منعًا باتًا من التمثيل بجثث العدو، مما حافظ على حرمة جثث العدو. فها هي تعاليم الإسلام الذي عليه يفترون، مقارنة بما لديهم من تعاليم وأعراف، فأي خزي ينتظر المكابرين الذين دأبوا على طمس الحقائق! وأي جهل ذلك الذي يوصف به المسلم الذي يقع فريسة فخاخ هؤلاء المنتقدين المغرضين!

 

الهوامش:

  1. انظر المغني، لابن قدامة، ج8، ص 372
  2. انظر المرجع السابق، ص 445
  3. جمال الدين الرمادي، صلاح الدين الأيوبي، كتاب الشعب، 25/ 1958، ص35
  4. انظر المرجع السابق، ص36
  5. محمد علي قطب، محاكم التفتيش في الأندلس، مكتبة القرآن، ب. ت، ص 83
  6. عبد الواحد محمد الفار، أسرى الحرب في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية، عالم الكتب، القاهرة، 1975م، ص26
  7. ضو مفتاح غمق، نظرية الحرب في الإسلام وأثرها في القانون الدولي العام، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية، بنغازي، ليبيا، ط1، د ت، ص410
  8. (الأَنْفال: 68)
  9. (الشورى: 41)
  10. أجوبة لقضايا يومية ج 7

Share via
تابعونا على الفايس بوك