أصل الشرك الخفي اتباع الشيطان
  • فما أصل اتباع الهوى؟
  • ولماذا كان اتباع الهوى من الشيطان؟
  • ولماذا عدَّ إبراهيم ع أباه عابدا الشيطان؟
  • وكيف للرحمن أن يُعذِّب مع أن اسمه مشتق من الرحم؟!

___

يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (مريم: 44)

شرح الكلمات:

سَوِيًّا: السويّ: هو المستوي؛ وأيضًا الاستواءُ والإنصاف (المنجد).

 

التفسير:

قوله أَهْدِك صراطًا سويًّا يعني أُرشِدُك إلى صراط خال من العوج، لا إفراط فيه ولا تفريط.

إنني أرى أن أكبر اختبار واجه إبراهيمَ في حياته إنما هو أنه كان عليه أن يذهب إلى أبيه، أو لعمه عند البعض، ويقول له: يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتِك فاتبعْني أهدِك صراطًا سويًّا . ذلك لأنه من الصعب جدًّا أن يقول المرء للكبار مثل هذا الكلام. كان أكبر ابتلاء مر به إبراهيم في حياته هو أن الله تعالى بعثه في زمن كان أبوه الذي أنجبه، أو عمه الذي رباه، موجودًا فيه، فاضطر لأن يقول له إنك يا أبي على الخطأ فاتَّبِعْني أهدِك صراطًا سويًّا .. وكأنه قال لـه: يا أبت، اليوم أنا أبوك وأنت ابني من حيث الروحانية. لا شك أن الأولاد يتكلمون بمثل هذا الكلام بسبب سذاجتهم أحيانًا، فمثلاً يأتيني أحفادي الصغار في بعض الأحيان وعندما أُمسك بيد أُمّ بعضهم حبًّا وحنانًا وأقول أمامه: هذه بنتي، فيقول هذا الصغير أيضًا: هذه بنتي. هذا صحيح بالنسبة للأطفال الصغار، ولكن من الصعوبة بمكان أن يذهب الفتى إلى أبيه ويقول لـه يا أبي، لم تَعُد منذ اليوم أبًا لي، بل صرتُ أنا أبًا لك. ولستَ أهلاً لتربيتي، لذا فمن الآن فصاعدًا لن تنبهني إلى أخطائي، بل أنا سأنبهك إلى أخطائك. إن التفوه بهذا الكلام صعب جدًّا جدًّا.

يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (مريم 45)

 شرح الكلمات:  

لا تعبُدْ: عبَد اللهَ: طاع لـه وخضَع وذلَّ؛ وخدَم (الأقرب). فالمراد من لا تعبُدِ الشيطانَ أي لا تُطِعْه ولا تخضَعْ لـه.

التفسير:

قال الله تعالى هنا لا تعبُدِ الشيطانَ[، مع أنه لا أحد في الدنيا يعبد الشيطان. فثبت أن العبادة لا تعني السجود فحسب، بل من معانيها أيضًا أن يطيع الإنسان غيره طاعة كاملة دونما فحص وبرهان. فإذا كان المرء يطيع زملاء السوء دون أن يفحص الأمر بعقله فهو الآخر مشرك. وإذا كان يطيع هوى النفس ولا يراجع عقله فهو أيضًا مشرك. ذلك لأن أبا إبراهيم ما كان يعبد الشيطان بل الأصنامَ، ولكنه يخبره إنما تعبد الشيطان، وهذا يعني أن اتباع أمر بدون التعقل هو بمنـزلة العبادة للشيطان، سواء أكان هذا الشيطان نفس المرء أو زملاء السوء أو الأرواح الشريرة*، لأن الشيطان يكون مِن نفس المرء، ومن زملاء السوء، ومن الأرواح الشريرة أيضًا التي تتغلب على المرء عندما يصبح مغرمًا بالإثم، فتحثّه على المزيد من السوء والمعصية. عندما لا ينتقد المرء ما توسوس له نفسه من الشر والسوء، وحينما لا يفحص المرء ما يأمره به زملاؤه حتى يعرف الرديء من الجيد، وعندما يقع في الأرجاس جراء سوء أعماله بحيث يتم له الاتصال بالأرواح الشريرة الشيطانية، فإنه في كل هذه الأحوال إنما يعبد الشيطان في مصطلح القرآن الكريم. والواقع أنّ تركَ المرءِ نقد الأمور بلا سبب ورضاه بالمنكرات بدون أي اعتراض لهو نوع من العبادة للشيطان.

فالله تعالى قد نبه بقوله لا تعبدِ الشيطانَ إلى أن المرء إذا رأى منكرًا في أحد فلم ينتقده، ورضِي بما يأمره غيره من دون أن يتدبره ويفحصه فقد اعتبره إلهًا، لأن الله تعالى هو وحده الذي لا يُسأل عما يأمر به، فإذا  أيقن المرء بأن الله تعالى موجود فلا بد لـه من طاعة أوامره بدون سؤال وتردد، ولكن إذا لم تكن الأوامر من الله تعالى أو ممن ينوب عنه، فلا بد من فحص كل أمر ونقدِه قبل الطاعة.

وإن قوله تعالى إن الشيطان كان للرحمن عصيًّا أيضًا يؤكد أن المراد من عبادة الشيطان إنما هو الطاعة بدون فحص وتدبر، ولا يعني عبادة الأصنام المادية، إذ متى رأى الناس الأحجارَ تنكر رحمانية الله تعالى؟ وكيف يمكنها ذلك وهي جماد لا حراك بها، في حين أن الله تعالى يعلن هنا إن الشيطان كان للرحمن عَصِيًّا[، والعصيّ هو العاصي أي الخارج عن الطاعة والآثم (الأقرب). أما الأصنام فأنَّى لها أن تعصي الله تعالى؟ فإنها لو أُلقيت في الكنيف لم تدر أنها ملقاة في النجاسة أم أنها أمام شخص قد خر أمامها ساجدًا. إذًا فلفظ عصيًّا قد زاد الأمر جلاء حيث بيّن أن قوله تعالى لا تعبُدِ الشيطانَ ليس المقصود به النهيَ عن عبادة الأصنام المادية، بل يعني النهي عن اتباع أمر ما بدون تحرٍّ وفحص.

فإذا كان المرء يطيع زملاء السوء دون أن يفحص الأمر بعقله فهو الآخر مشرك. وإذا كان يطيع هوى النفس ولا يراجع عقله فهو أيضًا مشرك. ذلك لأن أبا إبراهيم ما كان يعبد الشيطان بل الأصنامَ، ولكنه يخبره إنما تعبد الشيطان، وهذا يعني أن اتباع أمر بدون التعقل هو بمنـزلة العبادة للشيطان، سواء أكان هذا الشيطان نفس المرء أو زملاء السوء أو الأرواح الشريرة*، لأن الشيطان يكون مِن نفس المرء، ومن زملاء السوء

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (مريم 46)

 التفسير:

لقد استخدم الله هنا لفظ الرحمن في سياق العذاب حيث جاء إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن[، مع أن العذاب لا ينـزل وفق صفة الله «الرحمن»، وإنما بحسب صفاته الأخرى الدالة على عقابه الذي يستوجبه العصاة كصفة الجبار والقهار وذي الانتقام! فما الحكمة في ذلك؟

فاعلم أن كل صفة من صفات الله المتعلقة بالعذاب إنما تتجلى بسبب من الأسباب. فتارة ينكر المرء صفة الربوبية فتتجلى صفة العذاب، وأخرى يتصرف بما يتنافى مع صفة الرحيمية فتتجلى صفة العذاب، وحينًا ينكر صفة المالكية فتظهر صفة العذاب، ومرة ينكر صفة الإحياء فتتجلى صفة العذاب، وفي بعض الأحيان ينكر صفة الإغناء فتتجلى صفة العذاب.

فالصفات الإلهية المتعلقة بالعذاب ليست بصفات مستقلة في الله تعالى، أي لا تتجلى صفة العذاب من تلقائها دونما سبب، وإنما تتجلى نتيجة رفض الإنسان لبعض صفات الله الحسنى. ولو ظننا أن صفة العذاب في الله صفة مستقلة لكان معنى ذلك أن ربنا – حاشا لله – ظالم حيث يريد بطبيعته أن يسحق العباد بالعذاب ويدمرهم تدميرًا. مع أن هذا من سيرة الجبابرة الظالمين، ويتنافى تمامًا مع ذات البارئ الذي هو في الواقع جِدُّ رحيم كريم. فبما أن صفاته المتعلقة بالعذاب غير مستقلّة، ولا تظهر إلا بسبب صفة إلهية أخرى، فلا بد لنا من التسليم أن صفة العذاب إنما تتجلى بسبب مخالفة الناس لصفة الله الرحمن تارة، والرحيمِ تارة أخرى، والغفّارِ حينًا، والستّارِ حينًا آخر. فمثلا يستر الله على ذنوب شخص مرة بعد أخرى لكونه تعالى ستّارًا، ومع ذلك لا يتورع هذا من غشيان المعاصي، فيحل به العذاب من عند الله تعالى. فلا شك أن العذاب قد نـزل عليه، ولكنه نـزل بسبب صفة الله «الستار». أو أن الله تعالى يرزق أحد عباده رغدًا، ولكنه يزداد عصيانًا لـه ، وعندما يرى الله تعالى معاصيه المتكررة ينـزل عليه العذاب. فلا جرم أنه قد نال العذاب، ولكنه كان نتيجة لصفة الله «الرزاق»؛ حيث تلقى العذاب حين أساء إلى هذه الصفة الإلهية.

فقول إبراهيم لأبيه إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن يعني أني أخاف أن يصيبك من الله العذابُ الذي يحل نتيجة الإساءة إلى صفة الرحمانية. لقد منحك الله الأحجار والنار والماء، وقد أنعم عليك بهذه النعم كلها نتيجة رحمانيته ، ولكنك جعلتها شريكًا مع الله تعالى.

اعلَمْ أن كل ما يوجد في الدنيا من أصنام وشرك إنما هي ذات صلة بصفة الله الرحمن. فمثلا إن الله تعالى بعث المسيح إلى الدنيا، وكان الهدف من بعثته أن يخدم عباده ، ولكنهم قد اتخذوا المسيح نفسه إلهًا. فثبت أن الشرك والوثنية إنما يتولد نتيجة إنكار صفة الله الرحمن. ومن أجل ذلك تجد المسيحيين والهندوس ينكرون صفة الله الرحمن. إن الهندوس لما تدبروا في تعليمهم اضطروا للقول أن الله ليس خالقًا للمادة والأرواح، إذ لو آمنوا بأن الله خالق لهما لآمنوا أيضًا برحمانية الله تعالى، والإيمان بالرحمن يعني القضاء على الديانة الهندوسية. وبالمثل لو أن المسيحيين آمنوا برحمانية الله تعالى لزم عليهم الاعتراف بأن الشرع ليس لعنة، بل إن رحمانية الله تقتضي نـزول الهداية من عنده تعالى؛ وإذا لم يكن الشرع لعنة، بل يؤدي العمل به إلى النجاة، لوجب إنكار الكفارة والفداء؛ وإنكار الكفارة ينفي بنوّة المسيح لله تعالى، وبطلان بنوة المسيح لله تعالى يرادف هلاك المسيحية.

فثبت بذلك أن أكبر ما يكفر به المشرك هو صفة الله الرحمن، فكأن هذه الصفة الإلهية تعلن للأمم الوثنية إن إساءتكم بحقي قد بلغت منتهاها، فلا بد أن يحل بكم العذاب. فقوله إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن لا يعني أن صفة الرحمانية تُنـزل العذاب، بل المراد أنما ينـزل عليهم العذاب لانتهاكهم حرمةَ هذه الصفة.

أما قول إبراهيم فتكون للشيطان وليًّا فهو الآخر يؤكد أن عبادة الشيطان لا تعني هنا عبادة الأصنام، إذ كان أبو إبراهيم وليًّا للشيطان من قبل.

لقد بيّنتُ من قبل أن الإنسان ينشئ صلته بالشيطان بطرق ثلاث: أُولاها نفسُه، إذ تأمره بالسوء وتغويه، فيكون على صلة مع الشيطان، والثانية الصحبة الشريرة، والثالث: اتصاله المباشر بالشيطان، فتؤثر فيه الأرواح الشريرة الشييطانية وتزيده ضلالاً على ضلال.

لقد قال إبراهيم لأبيه أوّلاً لا تعبُدِ الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيًّا[، ثم قال لـه إنك إن لم ترتدع عن عبادته فأخاف أن تسبب صفة الله الرحمن في جلب العذاب عليك، فتكون للشيطان وليًّا. وهذا يعني أن ولاية الشيطان أخطر من عبادته. ذلك لأن الإنسان يطيع الشيطان في أول الأمر نتيجة ما توسوس بـه نفسه من أفكار فاسدة، أو جراء الصحبة الشريرة، ولكنه عندما يزداد سوءًا يكون لـه اتصال مباشر بالشيطان، شأن المؤمنين الذين إذا ازدادوا خيرًا وصلاحًا كان لهم اتصال مباشر بالملائكة.

تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via