حيث يلتقي  الاقتصاد بالروحانية

حيث يلتقي  الاقتصاد بالروحانية

التحرير

  • ما دور العامل الاقتصادي في سعادة الناس أو شقوتهم من الناحية الروحية؟
  • ما مكان التضحية من الأعمال الاقتصادية على تنوعها؟
  • أي علاقة نراها بين الحج والاقتصاد في الإسلام؟

___

لا خلاف الآن على حقيقة أن مواضع الاختبار والتدقيق هي نفسها مناطات التقدم والازدهار، وحين نطلع على حديث خاتم النبيين الذي قال فيه:

«إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ»(1)،

فإن البعض تسترعيهم حال من التأمل في سرِّ تسمية ما يقتنيه المرء من الثروة مالاً! على أساس أنه له؟! أي من مُـمتلَكاته؟! أم لأنه يؤول من امرئ إلى آخر، وهكذا دوالَيك؟ بمعنى أنه ثروة مشتركة متداوَلة؟! الواقع أن كلا الوجهين جائز، وكليهما يدعمه المنطق واللغة، ناهيك عن التاريخ الحضاري للمجتمعات الإنسانية.

يقول الله :

مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ . (2)

فعلى مدار العصور الخالية كانت الثروة المادية السبب الأبرز في خسران أناس وشعوب وشقاء قلوبهم. بالطبع لم يكن المال هو السبب المباشر في شقاء العبد، ولكنه كان العامل في إظهار طويته الخفية، فكان ابتلاء أخفق فيه، فأظهر حقيقة طبعه الخبيث. ألا تعيدنا هذه الفكرة إلى حديث النبي الذي وصف المال بـالفتنة؟! بلى، وصدقت يا سيدنا يا رسول الله! وطالما يلفت الله في كتابه العزيز أنظارنا إلى أن الأشياء التي نتعلق بها من متاع الدنيا، إنما هي زينة ستزول وتفنى، بينما ما عنده يكون أعظمَ وأبقى!

ولا يبعد أداء فريضة الحج، كركن من أركان الإسلام، عن كونه تضحية مالية أيضا في جانب كبير منه، بما يتضمنه معنى الحج الصادق من الاستعداد للتضحية بالنفس والنفيس، وعلى رأس قائمة نفائس الإنسان المادية يتربع المال الذي لا بد من إنفاقه والتضحية به أيضا، حيث تبقى ترقيات الإنسان الروحانية ناقصةً بدون ذلك.

ومن المثير في الأمر أن القرآن المجيد تعرَّض مرات عديدة للحديث المسهب عن فتنة المال وما تُظهره من حقيقة نفس الإنسان، خَيِّرة كانت أم شريرة، وسواء كان ذلك الإنسان فردا أم جماعة، فعلى الصعيد الفردي حدثنا القرآن عن شخصية قارون، لافتًا أنظارنا إلى ما قد تُحدثه فتنة المال في نفس صاحبه، فتهوي به في مهاوي البغي السحيقة، يقول :

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ .(3)

 أما على الصعيد الاجتماعي فيعرض علينا القرآن شيئا من ذكر أهل مدين وما أحدثته فتنة المال في نفوسهم، بعد أن أساؤوا التصرف في ذلك المورد الذي رزقهم الله إياه، فيقول القرآن على لسان حالهم:

قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (4)..

ليس إذن مجرد امتلاكنا للمال يكفي مسوِّغا لنا أن نفعل ما نشاء به ضاربين عرض الحائط بسنن الله الجارية في العلاقة بين المتصرف في المال وخالقه من جانب ونفس المتصرف وسائر الخلق من جانب آخر.

لقد وافتنا منذ أيام قلائل مناسبة سنوية مباركة، إذ حج الناس بيت الله الحرام، تلبية لأذان سيدنا إبراهيم الذي أذَّنه امتثالا لأمر الله :

وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍۢ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (5)،

ولا يبعد أداء فريضة الحج، كركن من أركان الإسلام، عن كونه تضحية مالية أيضا في جانب كبير منه، بما يتضمنه معنى الحج الصادق من الاستعداد للتضحية بالنفس والنفيس، وعلى رأس قائمة نفائس الإنسان المادية يتربع المال الذي لا بد من إنفاقه والتضحية به أيضا، حيث تبقى ترقيات الإنسان الروحانية ناقصةً بدون ذلك.

وفي هذا الشهر، يوليو 2024 يسر أسرة التحرير أن تقدم بين أيدي قرائها الأفاضل عددا جديدا من مجلة التقوى الغراء، وقد ضمت في ثناياها مادة روحية إصلاحية ثرية ارتكازا على فكرة التضحية ودورها في سمو الإنسان الروحي، وعلى رأس قائمة مواد العدد خطبة حضرة أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) في أحد أعياد الأضحى، يتناول فيها تفاصيل تضحية نبي الله سيدنا إِبْرَاهِيم ، ودُعاءه بالأمن، وموقف مكفري المسيح الموعود من ذلك الدعاء،  ثم تلي كلمة حضرته باقة مقالية متنوعة الروافد، فمنها ما هو ذو طابع روحي يتحدث الكاتب فيه عن دلالات الحج المبرور، ومنها ما هو ذو طابع اقتصادي، كتبته أقلام متخصصة ليقرأه عامة القراء من المثقفين من غير المتخصصين، وكلا الرافدين يصبان في بحر التضحية بالأدنى في سبيل الأسمى، نسأل الله العليم الخبير أن يعيننا على التضحيات ويتقبلها منا، آمين

الهوامش:

  1. (صحيح الترمذي، الحديث 2336)
  2. (الحشر: 8)
  3. (القصص:77-78)
  4. (هود: 88)
  5. (الحج: 28)
تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via