معيار العقل في ضبط خلق الرضا والغضب
  • فبم اتسم النموذج الإبراهيمي في رفض القضايا العقدية رفضا مستندا إلى العقل؟
  • وبم اتسم نموذج أبي إبراهيم؟

 ____

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (مريم 47)

 شرح الكلمات:

راغبٌ أنت عن آلهتي: رغِب فيه وإليه: أراده بالحرص عليه وأحبَّه. ورغِب عنه: أعرضَ عنه ولم يُرِدْه (الأقرب).

لأَرْجُمَنّك: رجَمه: رماه بالحجارة؛ قتَله؛ قذَفه؛ لعَنه؛ شتَمه؛ هجَره؛ طرَده (الأقرب).

مَلِيًّا: المليُّ هو «الطويل من الزمان»، ولكن هذا لا يعني قرنًا أو قرنين من الزمان، إذ يقال «مرَّ مليٌّ من الليل» أي «قطعةٌ منه لم تُحَدّ» (انظر المنجد).

التفسير:

 لقد تبين من قول والد إبراهيم هذا أن المرء إذا كان مؤمنًا بما يخالف الحقيقة بناء على ما سمعه من الآباء، ثم خالفه أحد ثارت ثائرته وأبدى الغيرة بشكل مذهل. أما إذا كان مؤمنًا بشيء أو منكرًا له على أساس البرهان والمنطق لكان غضبه وغيرته خاضعًا للدليل والعقل، ولكن إذا لم يكن غضبه مبنيًّا على أساس الدليل والعقل لم يكن سلوكه أيضًا متسمًا بالمنطق والتعقل. خذوا مثلاً نبينا محمدًا ، فقد جاءه المعارضون وقالوا لـه إننا نرفض ما تقول. كان أبو جهل من أقاربه ، ولكنه عارضه بشدة وصار أكبر عدو له. كما كان بين أصدقائه أيضًا من لم يصدقه. فمثلاً كان حكيم بن حزام صديقًا حميمًا للنبي ، ولكنه ظل على شركه، ولم يؤمن به إلا بعد فترة طويلة. كان حكيم يحب النبي حبًّا جمًّا. وذات مرة سافر إلى الشام* للتجارة، فرأى في السوق عباءة جميلة غالية، فقال في نفسه، رغم كفره بالنبي ، إن هذه العباءة لا تليق إلا بمحمد ( ). وكان النبي إذّاك قد هاجر من مكة إلى المدينة. فرجع حكيم إلى مكة من الشام، ثم سافر من مكة إلى المدينة ليقدّم العباءة هدية للنبي . فجاءه وقدّمها لـه قائلاً: لقد أعجبتني هذه العباءة جدًّا حتى قلت في نفسي إنها لا تليق إلا بك. فقال النبي : كم ثمنه؟ قال: أي ثمن؟ إنما هي هدية صديق لصديق. فقال النبي : إنني أقدّر صداقتك كل التقدير، ولكني قد أخذت على نفسي عهدًا أني لن أقبل هدية من مشرك أبدًا. فإما أن تأخذها أو تأخذ ثمنها؟ فحزن حكيم حزنًا شديدًا، وقال: لقد اشتريتها لك من أرض بعيدة لأُهديها لك، وأنت لا تقبلها مني، وأنا لا أريد أن يلبسها غيرك. حسنًا، إني آخذ ثمنها ما دمتَ تصرّ على ذلك. فدفع له النبي الثمن وأخذ منه العباءة. (مسند أحمد، مسند المكيين رقم الحديث 14784)

فترى أن النبي كان لـه أيضًا أعداء، بل قد بلغ ببعضهم البغض كل مبلغ. يقول الصحابي عمرو بن العاص إنه كان يكره النبي في أيام كفره كراهة شديدة منعته حتى النظر إلى وجهه (مسلم: كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله). وبالرغم من هذا البغض الشديد من قبل الكفار لما رُشق النبيّ بالأحجار من قبل أهل الطائف لم يغضب ولم يقل بسبب غضبه: لأرجمنّكم أنا أيضًا، بل لما جاءه ملاك وقال لـه لقد بعثني الله إليك لأعذّب هؤلاء القوم إن شئتَ. فلو شئتَ أطبقتُ عليهم هذا الجبل الذي أمامنا، ودمرّتُهم بزلزال تدميرًا. فقال : كلا، فإنْ أهلكتَهم فمن يؤمن بي (البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين). ثم دعا ربَّه وقال: اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون. فاصفَحْ عنهم، واغفِرْ لهم خطيئتهم.

فبما أن النبي كان يملك البرهان والدليل على صحة عقيدته، لذلك إذا غضب على أعدائه غضب بناء على دليل وبرهان، وإذا عفا عنهم فأيضًا على أساس من البرهان والمنطق. وبالمثل كان إبراهيم يملك البرهان على صحة معتقده، فإذا غضب على شيء غضب بناء على البرهان والدليل. ولكن أباه لم يملك أي برهان أو منطق على عقيدته، فكان غضبه أيضًا بلا دليل. إذ لم يقل له إبراهيم إلا إنها، يا أبي، أمور سيئة لا خير فيها ولا جدوى، فلم تصدّق ما لا دليل على صحته؟ عليك أن تصدّق أمرًا من الأمور بعد فحصه ونقده جيدًا. فإنه من الشرك أن يقبل الإنسان ما يقوله صاحبه بدون أن يفحصه وينقده. وكان غاية ما يُتوقع من أبيه هو أن يقول لـه: كيف تعظني وأنت ابن أمس! ولكنه استشاط غضبًا وأخذ يسبّ إبراهيمَ ويشتمه، ويدعو عليه بالويل والثبور، ويهدده بالقتل والرجم والمقاطعة والطرد من البيت. بيد أنه كان أفضل من مشايخ اليوم، لأنه رغم غيظه الشديد فكّر أنه ابنه، فأمره بأن يغيب عن أنظاره لبعض الوقت حتى لا يصيبه بأذى. أما المشايخ عندنا فإنهم وأتباعهم قد فتّشوا عن الأحمديين وقتلوهم في الفتنة التي اندلعت ضدنا في 1953، حتى قالوا من فورة غيظهم لأتباعهم: اختطِفوا نساء الأحمديين أيضًا ولا ذنب عليكم! أما أبو إبراهيم فكان مشركًا حتى نهاه الله عن الدعاء لـه، ولكن هذا المشرك المستشيط غضبًا يقول لإبراهيم: أنا غضبان الآن، دَعْني وَحْدِي لبعض الوقت حتى لا أؤذيك، وأعودَ إلى صوابي. علمًا أن قوله «واهجُرْني مليًّا» لا يعني أن يهجره لسنين طويلة، بل المراد أن يغيب عن نظره لبعض الوقت حتى تهدأ ثورة غضبه. ذلك لأن لفظ المليّ، كما ذكرنا لدى شرح الكلمات، يعني زمنًا طويلاً وقطعة من الليل أيضًا، حيث يقال «مرَّ مليٌّ من الليل»، وهذا يعني أنه إذا كان الليل اثنتي عشرة ساعة مثلاً ومضتْ منه ستٌّ أو سبع ساعات مثلاً فقد مرَّ مليٌّ منه. فكان أبوه يقصد أن يغيب عن أنظاره لبعض الوقت حتى يزول غضبه.

فلو شئتَ أطبقتُ عليهم هذا الجبل الذي أمامنا، ودمرّتُهم بزلزال تدميرًا. فقال : كلا، فإنْ أهلكتَهم فمن يؤمن بي (البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين). ثم دعا ربَّه وقال: اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون. فاصفَحْ عنهم، واغفِرْ لهم خطيئتهم.

قالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (مريم 48)

حَفِيًّا: الحفيُّ: العالِمُ يتعلم الشيءَ باستقصاء؛ المبالِغُ في الإكرام والبرِّ، والمُظهِرُ السرورَ والفرَحَ، والمُكثِرُ السؤالَ عن حال الرجل (الأقرب).

التفسير:

لما رأى إبراهيم غيظ أبيه قال لـه إنك تثور غضبًا عليّ لأني لا أؤمن بآلهتك الباطلة، أما أنا بالرغم أنك لا تؤمن بربي الذي هو الإله الحق فإني لا أقول إلا أن يرحمك الله. إنك تريد رشقي وقتلي وقذفي بين القوم، وتود أن تسبني وتلعنني وتقاطعني وتطردني من البيت، لأني لا أؤمن بآلهتك الباطلة، أما أنا فأدعو الله تعالى أن يشملك برحمته الواسعة رغم أنك تكفر بربي الذي هو الإله الحق. لا شك أنك على الخطأ، ولكن ربي قادر على أن يغفر لك زلّتك، لذلك سأتوسل إليه بالمغفرة لك.

ثم قال إنه كان بي حفيًّا .. أي أن ربي يغمرني بالحفاوة والإكرام، ويفرح على نجاحي فرحًا عظيمًا، ويعتني بي جدًّا، ويحزن لحزني بشدة. وعندما أنظر إلى ربي المحسن ويمتلئ قلبي حبًّا لـه، أقول في نفسي: هناك نموذج مصغَّر لهذا الحب والحنان في أبي وأمي أيضًا؛ فمن واجبي أن أحبهما وأعاملهما بالبر والإكرام. وكأن إبراهيم يقول: ليس مصدر حبي لله تعالى أن والديّ يحبانني ويحسنان إليّ، بل الحق أني حين أشاهد أن ربي يخصني بهذا الحب الجم ويتولى حاجاتي بهذا الشكل المدهش، أفكر أن هناك نموذجًا لهذا الحب والحنان في والديّ أيضًا، فمن مقتضى حبي لله تعالى أن أحبهما أيضًا.

فما أرفعَ المكانةَ التي تبوأها إبراهيم في الورع والتقوى. فمن الناس من يعمل الصالحات بالنظر إلى من هو دونَ، ومنهم من يعملها نظرًا إلى من هو أعلى؛ وكان إبراهيم من الفئة الأخيرة، حيث يقول إنني لا أحب الله تعالى نتيجة حبي لوالديّ، بل إن الألطاف الإلهية هي التي تحفّزني على أن أحبّ والديّ أيضًا. فإني حين أشاهد الحب واللطف والإكرام الذي يغمرني به محسني وربي أقول في نفسي هناك نموذج لهذه الرحمة الإلهية في والديّ أيضًا، فمن واجبي أن أحبهما وأحسن إليهما. وهذا ما يدفعني لإكرامك وإجلالك يا أبي. وإني أدعو ربي أن يغفر لك خطيئتك، ويرحمك.

إنني لا أحب الله تعالى نتيجة حبي لوالديّ، بل إن الألطاف الإلهية هي التي تحفّزني على أن أحبّ والديّ أيضًا. فإني حين أشاهد الحب واللطف والإكرام الذي يغمرني به محسني وربي أقول في نفسي هناك نموذج لهذه الرحمة الإلهية في والديّ أيضًا، فمن واجبي أن أحبهما وأحسن إليهما. وهذا ما يدفعني لإكرامك وإجلالك يا أبي. وإني أدعو ربي أن يغفر لك خطيئتك، ويرحمك.

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (مريم 49)

 التفسير:

فلما قال لـه أبوه اترُكْني وشأني، قال: حسنًا، فإني أنا الآخر لا أستطيع العيش معكم. تريدون أن تعبدوا الأصنام، وأنا أريد أن أعبد ربي. تسخطون على عبادة رب واحد، وأنا لا أرضى بعبادة الأصنام. فها أنا أعتزلكم.

علمًا أن قوله أعتزلكم وما تَدْعون من دون الله لا يعني أنه أعلن اعتزاله عبادة أصنامهم في ذلك اليوم، فهو لم يكن يعبدها من قبل، وإنما المعنى أنه سيتركهم في ديارهم مع أصنامهم. وأدعو ربي .. أي سأذهب إلى حيث لا يُرى إلا الله تعالى.

ثم قال عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيًّا .. أي رغم أن هذه الهجرة ستكون بمثابة موتي في الظاهر، حيث أضطر لترك وطني وقومي وعشيرتي ومعارفي وأصدقائي، إلا أنني حين أدعو ربي الذي يحبني فسأنال بُغيتي؛ فيتيسر لـي ثانيةً الأصدقاء والزملاء والمواسون والقوم أيضًا.

إنني لا أحب الله تعالى نتيجة حبي لوالديّ، بل إن الألطاف الإلهية هي التي تحفّزني على أن أحبّ والديّ أيضًا. فإني حين أشاهد الحب واللطف والإكرام الذي يغمرني به محسني وربي أقول في نفسي هناك نموذج لهذه الرحمة الإلهية في والديّ أيضًا، فمن واجبي أن أحبهما وأحسن إليهما. وهذا ما يدفعني لإكرامك وإجلالك يا أبي. وإني أدعو ربي أن يغفر لك خطيئتك، ويرحمك.

فلمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (مريم 50)

 التفسير:

أي أن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون من دون الله تعالى آتاه الله إسحاق ويعقوب.

أما قول الله تعالى وكلاً جعلنا نبيًّا فاعلم أن لفظ كُـلاً يأتي للاثنين أيضًا، كما ورد هنا وفي مواضع أخرى أيضًا من القرآن الكريم. والمراد من كلاً هنا إسحاق ويعقوب دون إبراهيم – عليهم السلام – إذ صار إبراهيم نبيًّا من قبل هذا الكلام. (يُتبع)

تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via