ماذا  وراء لفظ  "المهد" تحقير أم توقير؟!
  • ماذا فهم المفسرون التقليديون من لفظ “المهد”؟
  • ما هو المعنى الصحيح الذي يقدمه المصلح الموعود (رض)؟

 

 ____

يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (29)

 التفسير:

أي يا أخت هارون، كيف جئتِ هذه الفعلة الشنيعة مع أن أباك لم يكن شخصًا سيّئًا، ولم تكن أُمُّك امرأة فاحشة؟

يقول المفسرون أنه كان لمريم أخ من أم أخرى اسمه هارون (تفسير مظهري). ولكن لا أثر لهذه القصة في تاريخ اليهود، فلا يمكن الأخذ بمثل هذا القول العاري من الدليل والبرهان.

ويقول بعضهم إن اليهود سموا مريم أخت هارون لكونها من نسل هارون . ودليلهم هو أن أليصابات زوجةَ زكريا كانت من قبيلة هارون بحسب التوراة، وكانت مريم من أقارب أليصابات، فسماها القرآن أخت هارون (ترجمة القرآن لجورج سيل). وهذا المعنى قد ذكره أولئك النصارى الذين كانوا منصفين، غير متعصبين. في حين أن بعض المسيحيين قد طعنوا في القرآن بسبب هذه الآية، وقالوا إن هذا دليل على أن محمدًا ( ) كان يجهل التاريخ جهلاً تامًّا حتى إنه لم يعرف أن هارون قد خلا قبل المسيح بأربعة عشر قرنًا (ينابيع الإسلام ص 104). وذلك بالرغم أن بعض المسيحيين الآخرين أنفسهم قد ردُّوا على الاعتراض وقالوا: إنه قول باطل. إن محمدًا كان على علم تام بتاريخ عصر موسى وهارون، حيث ذكر القرآن الكريم في مواضع عديدة منه بعض الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى وهارون عليهم السلام. فلا قيمة لهذا الطعن. لما كانت أليصابات من أسرة هارون ، وكانت مريم من أقاربها، فسماها القرآن أخت هارون (تفسير القرآن لِـ «ويري»).

ويبدو من الحديث الشريف أن هذا الطعن قد ذُكر أمام النبي ذات مرة، فقال : ذلك كعادة اليهود حيث كانوا يسمون أولادهم بأسماء أنبيائهم وصلحائهم (فتح البيان، وابن جرير).

بيد أني أرى أن هذه الآية تنطوي على مفهوم آخر أيضًا يدل على أنهم قد سموا مريم أخت هارون تعييرا بها وسخرية. ذلك لأن هارون كانت له شقيقة لم تكن أختًا حقيقية لموسى. ويرى بعض المؤرخين أنها لم تكن أختًا غير شقيقة لموسى، بل كانت أختًا لزوجة موسى، وكانت تُدعى أيضًا مريم. ويتضح من التوراة أنها وأخاه هارون قد اعترضا على موسى لزواجه من امرأة كُوشية (العدد 12: 1). ويتضح من القرآن الكريم أن هذا الطعن كان شديدًا وكأنهم اعتبروا علاقة موسى مع المرأة الكوشية علاقة غير شرعية، حيث قال الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (الأحزاب: 70). ويبدو أن موسى قد اتُّهم إما بالزواج من امرأة مومس، أو من امرأة متزوجة سلفًا. وأيًّا كانت نوعية التهمة بالضبط، فإن التوراة تخبرنا أن مريم التي اتهمت موسى أصيبت بمرض الجذام عقابًا على جريمتها. ولكن الغريب أن التوراة تخبر، من ناحية، أن هارون وأخته مريم كلاهما قد اتهما موسى بالفاحشة، ولكنها من جهة أخرى، تذكر أن مريم وحدها نالت العقاب، أما هارون فلم يقع عليه أي عقاب. وهذا يدل على أن هارون لم يتّهم موسى، وإنما أضافت التوراة اسم هارون كعادتها للطعن في أنبياء الله تعالى، وإلا لكان من الواجب عقاب المجرمَينِ على جناية واحدة. فثبت أن مريم وحدها التي طعنت في موسى.

وتضيف التوراة أن هارون شفَع لمريم هذه، فدعا لها موسى، فعفا الله عنها، فشُفيت من الجذام بعد سبعة أيام. ولكن مريم هذه التي كانت تُذكر في التوراة بكل عظمة وإجلال قبل هذا الحادث، لم تُذكر بعد ذلك بأي إكرام، بل إن البعض قد اتهمها بمساوئ أخرى أيضًا (العدد 12: 15).

فأرى أن قول اليهود للسيدة مريم يَا أُخْتَ هَارُونَ كان على سبيل التعيير والسخرية، فقالوا يا مريم لقد ارتكبتِ جريمة بشعة تستحقين عليها عقابًا كالجذام مثل أخت هارون. فقد أثرتِ فتنة كالتي أثارتها مريمُ أختُ هارون. إنها اتهمتْ موسى بالفاحشة، وأما أنت فقد ارتكبت الفاحشة، مع أن أباك لم يكن من الأشرار، كما لم تكن أمك من المومسات. فما هذا الشر الذي أثرتِه؟

هناك نوع من المعجزات التي تقع لتقوية إيمان المؤمنين فحسب، وليس من الضروري إقناع الناس بها. إنها تظهر لزيادة إيمان المؤمنين فحسب، وتقع بحيث يصدقها المؤمن ولكن الكافر لا يقتنع بها. ومثاله أن الماء انفجر ذات مرة من بين أصابع رسولنا الكريم ، وأن قدحًا من الماء سدّ حاجة كثير من الناس، أو أن الطعام كان قليلا، ولكن ببركة دعاء النبي أكله عدد لا بأس به من القوم حتى شبعوا

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (مريم: 30)

 التفسير:

لقد سبق أن بيّنتُ أننا نؤمن بأن المسيح قد وُلد من غير أب وكانت ولادته آية من الله تعالى، وذلك لأن الله تعالى كان قد قرّر نقل النبوة من نسل موسى إلى بني إسماعيل. كانت النبوة مستمرة في بني إسحاق منذ زمن طويل، فما كانوا ليتخيلوا أن النبوة يمكن أن تُنـزع من بيت بني إسرائيل وتُنقل إلى أمة أخرى. فكانوا بحاجة إلى هزة عنيفة، وتمثلت هذه الهزة في صورة ولادة المسيح من غير أب. لا شك أن ولادته كانت معجزة، ولكنها انطوت على نوع من الابتلاء والاختبار. ذلك لأن المعجزات أنواع؛ فمنها ما يكون سببًا لهداية الناس وإتمامًا للحجة عليهم، وهي من المعجزات التي يمكن إقناع العدو بها، إذ لو استحال إقناع المعارض بها ما كانت حجة عليه. فالمعجزات التي تقع حجة على المنكرين لا بد لها أن تكون مما يمكن إقناع العدو به. فمثلاً، هناك نبوءة قد أُدليتْ وأُعلنتْ، فاعترض عليها المعارض، وناقشها من شتى النواحي، ثم تحققت النبوءة في آخر المطاف؛ فهذه معجزة لا يسع أحدًا إنكارها إلا المعاندين المتعنتين. فمثلاً، إن إعجاز القرآن لمعجزة يمكننا إقناع المسيحي بها. نقول لـه: ها هو القرآن أمامك، فَأْتِ بكتاب مثله إن كنت من القادرين. وبالمثل إن الإتيان بالمعارف الإلهية أو الاطلاع على دقائق أسرار الفطرة معجزةٌ يمكن إقناع كل إنسان بها. فالمعجزات التي غايتها هداية القوم لا بد لها أن تكون مما يمكن إقناع العدو به.

ولكن هناك نوع من المعجزات التي تقع لتقوية إيمان المؤمنين فحسب، وليس من الضروري إقناع الناس بها. إنها تظهر لزيادة إيمان المؤمنين فحسب، وتقع بحيث يصدقها المؤمن ولكن الكافر لا يقتنع بها. ومثاله أن الماء انفجر ذات مرة من بين أصابع رسولنا الكريم ، وأن قدحًا من الماء سدّ حاجة كثير من الناس، أو أن الطعام كان قليلا، ولكن ببركة دعاء النبي أكله عدد لا بأس به من القوم حتى شبعوا (مسلم: كتاب الفضائل، باب معجزات النبي ، البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وباب غزوة الحديبية).

وكان من قبيل هذه المعجزات أيضًا سقوطُ بقعاتِ حبرٍ أحمر من الغيب على قميص لسيدنا المسيح الموعود (سرمه جشم آريه ص 180 الهامش).

ومثاله الآخر ما رأيته في حالة الكشف بأن المِسك قد وُضع في فمي، ولما استيقظت كان فمي يتضوع مسكًا. فأيقظتُ زوجتي وقلت لها: شُمِّي فإني لأجد ريح شيء طيب من فمي. فشمّتْ فمي، وقالت هذه رائحة المسك. فلا شك أن هذه المعجزة قد زادتني أنا وزوجتي إيمانًا، ولكن لا تأثير لها على الآخرين.

وذات يوم كنتُ صائمًا وشعرت بالعطش الشديد، وبينا أنا أقاسي آلام العطش إذ استولت عليّ حالة من الغيبوبة، فرأيت أن ملاكًا قد جاء، ووضع في فمي قطعة من «البان»

(“البان” اسم شجرة في الهند. يلفّون في ورقها الهيل وغيره مع حلويات معطرة، ويضعونها في الفم، فتنظفه وتعطره، كما تفرّح القلب. (التقوى)

). ولما استيقظت لم أجد للعطش أثرًا على الإطلاق.

إن هذه المعجزات تظهر لتقوية الإيمان، وتخص المؤمنين. إن المؤمن يصدّقها، ولكن غير المؤمن سيقول إن الرجل قد اختلق هذا الإفك وأمر أتباعه بنشره.

ولكن هنالك من المعجزات التي تكون آية، أي تقع لإتمام الحجة على المعارضين، ويمكن عرضها على الأعداء علانية بدون تردد.

ثم هناك من المعجزات التي تكون اختبارية تنطوي على عنصر من الألم والحزن، ولكن الله تعالى يظهرها لبعض الحِكم؛ وكانت ولادة المسيح من قبيل هذه المعجزات. فإن الله تعالى أخبر اليهود من خلالها أن النبوة على وشك الانتهاء من بينهم، وعلامة ذلك أنه قد خلق المسيح من دون أب. كان من المحال لأهل الدين اليهودي أن يصدّقوا أن النبوة ستُنـزع منهم وتُنقل إلى أمة أخرى، وأراد الله تعالى أن يلفت أنظار الأمة اليهودية إلى محمد رسول الله ، فخلق المسيح من بطن عذراء. لا شك أن ولادته كانت معجزة، ولكنها لم تكن بمعجزة لليهود إطلاقًا. فكذبوها بمجرد أن سمعوا عنها، وقالوا إنه – معاذ الله – ولد الحرام. بل لم تكن هذه المعجزة مدعاة لتقوية إيمان المسيح نفسه، فلذلك كان يسمي نفسه ابن الإنسان خجلاً، لأن الناس لا بد أن يكونوا يسألونه عن أبيه، فكان يجيب أنا ابن الإنسان. بينما اتبع القرآن طريقًا سهلاً فنسبه إلى أمه وسماه ابن مريم. فلا شك أن ولادته معجزة، ولكنها صارت حجر عثرة لبني إسرائيل، وتنبيهًا للنصارى بأن النبي الذي تؤمنون به ليس له أب من بني إسرائيل، وهكذا فإن الله تعالى قد غيّر مسرى النبوة بواسطته، وكشف أن النبي القادم لن يُبعث من بينكم بل يكون من أمة أخرى. إذًا فجاءت هذه العثرة لتلفت الأنظار إلى محمد رسول الله تجهيزًا للمسيحيين لكي يدخلوا في الإسلام.

ثم يقول الله تعالى فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ .. أي لما جاءت مريم مع المسيح إلى قومها قالوا يا مريم، كيف ارتكبت الفاحشة مع أنك من عائلة شريفة؟ فأومأت إلى المسيح. وهذا يعني أن مريم كانت تعرف أن المسيح سيرد عليهم حتمًا. وهذه الجملة أيضًا تفنّد موقف أولئك الذين يزعمون أن المسيح قد تكلم عندئذ كمعجزة. إذ كيف عرفت مريم أنه سيتكلم عندئذ؟ فقوله تعالى فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ يدل بكل وضوح أن المسيح كان يتكلم من قبل أيضًا، ولذلك عرفت مريم أنه سيتكلم في تلك المناسبة أيضًا.

ولو قيل هنا أن مريم كانت قد أُخبرتْ سلفًا أنه يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا (آل عمران: 47).. ولذلك أشارت إليه، فالجواب أن هذا الوحي الذي تلقته مريم عن كلام مولودها لا يحدّد المناسبة التي سيتكلم فيها الوليد، وإنما يخبر إنه سيكلّم الناس فقط. فلو كان هناك وعد إلهي لمريم بأن وليدها سيكلّم الناسَ دائمًا خلال فترة رضاعته لفهمنا أنه كان يكلم من قبل ولذلك أشارت إليه مريم في تلك المناسبة أيضًا. ولكن لا أحد يقول بكلام المسيح في زمن رضاعته قبل ذلك الحادث ولا بعده، فلا يمكن أن يكون الوعد الإلهي المذكور في سورة آل عمران هو الذي جعل مريم تشير إلى وليدها ليتكلم. بل الواقع أنها أشارت إلى وليدها دحضًا لطعن اليهود الذين اتهموها بارتكاب الفاحشة وجلبِ العار على عائلتها وقومها؛ فردت على طعنهم بأن أشارت إلى ولدها وقالت يمكن أن تكلموه لتعرفوا هل هو حصيلة الفاحشة. لو صح ظنكم فكيف جاء هذا الطفل العظيم نتيجة الفاحشة؟ إن هذا الصبي في حد ذاته يمثل ردًّا مفحمًا على شبهاتكم ووساوسكم، ويبرئ ساحتي من تهمتكم.

أما قوله تعالى قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيًّا[، فيقدَّم كدليل على كلام المسيح في طفولته.

فليكن معلومًا بهذا الصدد أن المهد يُطلَق على زمن التحضير والإعداد أيضًا. يقول الله تعالى في القرآن الكريم وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (المدّثّر: 15).. أي آتيتُ الكافر مالاً وثراء، وهيأت لرقيه وتقدُّمه أسبابًا كثيرة. فثبت أن كلمة المهد تُستعمل أيضًا لفترة التحضير والإعداد، وهو زمن الشباب، لأن الإنسان يستجمع فيه شتى القوى ليستهلكها في المستقبل. وهنا أيضًا قد استعمل القرآن لفظ الْمَهْدِ على سبيل الاستعارة بمعنى زمن الشباب. وإن كبار القوم يذكرون عمومًا شبابهم بمثل هذه الألفاظ، ولا يعنون بذلك أنهم لا يزالون في المهد والأرجوحة، وإنما المراد أنهم لا يزالون صغارًا جدًّا مقارنة بهم. فمثلاً كان عمر النبي قرابة ستين سنة وقت صلح الحديبية، وكان قد دخل في الشيخوخة، ومع ذلك لما جاءه أحد سادة مكة الكافرين للتفاوض خاطب نبيَّنا مرة بعد أخرى: يا ابني أنصحك أن ترضى بقولي. ذلك لأن هذا الزعيم كان يبلغ من العمر حوالي ثمانين سنة. فلا غرابة لو قال كبار القوم عن أحد: كيف نكلّمه وهو وليد الأمس. (يُتبع)

تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via