بداية الخلافات في المسيحية حول طبيعة المسيح
  • كيف وقع أول اختلاف في جماعة المسيحيين الأوائل؟

___

وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبّــُكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صـِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ   (مريم 37)

 التفسير:

أي ما دمتم أنتم تؤمنون بأن الله تعالى فعّالٌ لما يريد، وقادر على كل شيء، فما الداعي لأن تتركوا القادر المطلق وتقولوا قد اتخذ الله ولدًا؟ إن الله ربي وربكم، هو مالكي ومالكـكم أيضًا، فلِمَ هذا النـزاع والعداء؟ اتركوا النـزاع، فهذا صراط مستقيم. لقد انحرفتم إلى أشياء تسلّمون بعدم الحاجة إليها. فتعلمون أن الله تعالى أسمى من الموت والفناء حتى يحتاج إلى الولد. وتسلّمون أنه تعالى في غنى عن الزوجة. وتدركون أن الله تعالى أعظم من أن تكون فيه مادة تتسبب في إنجاب الأولاد. فما دمتم تعترفون بكل هذه الحقائق فتعالوا واعبدوا الله وحده، متمسكين بالصراط المستقيم. لم تنحرفون عن الصراط المستقيم وتسلكون سبلاً جائرة؟

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (مريم 38)

التفسير:

الأحزاب جمع الحزب ومعناه «الجماعة من الناس». غير أن أهل اللغة يرون أنه لا يعني الجماعة من الناس فحسب، بل معناه «كل قوم تشاكلت قلوبُهم وأعمالهم فهم أحزاب وإنْ لم يلقَ بعضُهم بعضًا» (الأقرب). لا شك أنك لو رأيت خمسين أو ستين رجلاً واقفين في مكان فلك أن تسميهم حزبًا بمعنى طائفة من الناس، ولكن كلمة الحزب تُطلَق خاصة على قوم يحملون فكرة واحدة وعقيدة واحدة. فمثلاً هناك جمعٌ من الناس بينهم المسيحيون واليهود والمسلمون والملحدون والمنتمون إلى الجماعات السياسية، فلن تسميهم حزبًا في المصطلح، وإنما تطلق كلمة الحزب على مجموعة من الناس يكون طابع أفكارهم وأعمالهم الدينية والحضارية والسياسية موحدًا.

إذًا فقوله تعالى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ لا يمكن أن يؤخذ بمعنى أي جماعة من الناس، إذ كيف يختلف فيما بينهم مَن لا رغبة لهم في المسيح ولا علاقة لهم به، وإنما المختلفون هنا من ينتمون إلى المسيح .

بيد أن كلمة الحزب إذا أُخذت بمعنى «قوم تشاكلت قلوبُهم وأعمالهم» واجهَنا إشكال آخر، وهو: ما دامت أفكارهم وأعمالهم موحدة فأين مجال الاختلاف بينهم؟ فثمة تعارضٌ فيما يقوله القرآن على ما يبدو، حيث يقال من جهة إنهم متحدون في أهوائهم وأعمالهم، ويقال، من جهة أخرى، إنهم مختلفون؟

فليكن معلومًا أن الاختلاف إنما يقع حيث الاتفاق والاتحاد. فإن الناس، كما قلت، إذا لم يكونوا راغبين في شيء فلا مجال لأن يختلفوا فيه أيضًا. إنما يكتسب الاختلاف الأهميةَ إذا كان القوم موحَّدين في أفكارهم وأعمالهم أولاً، ثم يختلفون. وعلى سبيل المثال، لو اختلف المسلمون في القرآن الكريم لكانت لاختلافهم أهمية كبيرة حيث يقال إنهم يؤمنون بالقرآن الكريم، ومع ذلك يختلفون فيه. ولكن إذا اختلف المسيحيون فيما بينهم حول القرآن الكريم فلا أهمية لاختلافهم، لأن الجميع يقول إنهم لا يؤمنون بالقرآن، فما قيمة اختلافهم حوله. فثبت أن الاختلاف إنما يكون ذا أهمية إذا ما حصل بين قوم أفكارهم وعقائدهم موحدة. وإن كلمة مِن بينهم أيضًا تكشف أن الحزب لم يرد هنا بمعناه العام أي «الجماعة من الناس»، بل بمعنى القوم ذوي العقائد والأفكار الواحدة؛ ومثل هذا الاختلاف هو الذي يبعث على الاستغراب والعجب، حيث يقال إنهم يؤمنون بكتاب واحد ورسول واحد وغاية واحدة، ومع ذلك يختلفون!

فقول الله تعالى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ .. يعني أن هؤلاء الذين يؤمنون بالمسيح ويحبّونه كان كتابهم واحدًا، وعقيدتهم واحدة، وأعمالهم واحدة، ومع ذلك اختلفوا فيما بينهم للأسف الشديد. فمنهم من يقول أن مريم كانت بشرًا ومع ذلك وضعتْ لله ولدًا (لوقا 1: 26-35). ومنهم من يقول أن مريم كانت زوجةً لله تعالى وكانت تتصف بصفات إلهية؛ فقد أعلن البابا قبل حوالي سنة ونصف أن هذه هي العقيدة الرسمية للكاثوليك. ومنهم من يقول أن الإله واحد، وأن المسيح لم يكن إلا مظهرًا للصفات الإلهية، وأنه جاء إلى الدنيا كإنسان. ومنهم من يقول أن المسيح كان إلهًا، وأنه كان إلهًا متجسدًا؛ وأنه لا بد من الإيمان بثلاث شخصيات كل واحدة منهن إله. بينما يقول البعض الآخر أنه لا حاجة للإيمان بثلاث شخصيات إلهية، بل يكفي الإيمان بثلاثة مظاهر للإله. ويقول هؤلاء أن المسيح الذي جاء في الدنيا كان بشرًا، ولكنهم يقولون أيضًا أن الإله الابن كان غير الإله الأب، وأنه (أي الإله الابن) سرى في المسيح الإنسان الذي جاء إلى الدنيا. إنهم لا يؤمنون بوجود ثلاث شخصيات إلهية، بل بوجود ثلاث صور للإله، حيث يقولون أن الإله أب من جهة، وأنه ابن من جهة أخرى، وأنه الروح القدس من جهة ثالثة. بينما يقول الذين يؤمنون بوجود ثلاث شخصيات إلهية أن الإله الأب وجود منفصل، وأن الإله الابن وجود منفصل، وأن الإله الروح القدس وجود منفصل. فإلى ذلك الاختلاف يشير الله تعالى في قوله فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ .. أي أن هؤلاء المؤمنين بالمسيح رغم اشتراكهم في الدين والعقيدة والعمل قد وقعوا في الاختلاف!

فليكن معلومًا أن الاختلاف إنما يقع حيث الاتفاق والاتحاد. فإن الناس، كما قلت، إذا لم يكونوا راغبين في شيء فلا مجال لأن يختلفوا فيه أيضًا. إنما يكتسب الاختلاف الأهميةَ إذا كان القوم موحَّدين في أفكارهم وأعمالهم أولاً، ثم يختلفون.

ثم يقول الله تعالى فويلٌ للذين كفروا مِن مشهدِ يومٍ عظيمٍ . إن الاختلاف الموجود بين هؤلاء يحتّم اعتبار أحد الفريقين على الحق والفريق الآخر على الضلال. فمهما تعددت فِرقهم إلا أنهم سيُعَدُّون فريقين بسبب الاختلاف، ولا بد من اعتبار أحدهما على الحق والآخر على الباطل. ويقول الله تعالى: الويل للذين وقعوا منهم في العقائد الباطلة. لقد بعث الله الأحدُ عبدًا من عباده لنشر التوحيد، ولكنهم اتخذوا هذا العبد هو الآخر إلهًا. وإنها لجريمة شنيعة قد ارتكبوها، فلهم العذاب واللعنة. علمًا أن الويل يعني العذاب وأيضًا اللعنة. فالمعنى أن الذين كفروا بالمثول أمام ربهم في يوم عظيم سيحلّ بهم عذابي، وسأقول لهم: اخسأوا عني ولا تكلّمونِ. لا شك أن الإنسان يتمنى شهود ذلك اليوم العظيم، ويودّ أن يشاهد اللهَ تعالى فيه، ظنًّا منه أنه سيتلقى منه الجوائز والصلات، ولكنه لو أتى الله تعالى مجرمًا فمن ذا الذي يكون أكثر منه ذلة وأشد منه شقاءً؟

ورد في التاريخ أن الصحابي ضرار كان ضمن الجيش المسلم الذي خرج لمحاربة جنود قيصر. فتقدم قائد من الجيش المسيحي مبارزًا المسلمين، وقتل كثيرًا منهم. فدعا قائدُ الجيش المسلم أبو عبيدة ضرارًا وأمره بقتاله. فخرج ووقف مواجِهًا للمحارب الكافر. ولكنه ولّى مدبرًا فجأة وأخذ يجري إلى خيمته. فاستولى اليأس والقنوط على جنود المسلمين، وبدأ النصارى يرفعون الهتافات فرحًا وابتهاجًا. فبعث أبو عبيدة أحدًا من جنوده إلى ضرار يسأله عن سبب الفرار من ساحة القتال. فوجده الرسول وهو يخرج من خيمته. فقال لـه: يا ضرار، لقد لطّختَ اليوم سمعة المسلمين كلهم، وقد اكتسحتْ موجة من اليأس الجيش المسلم من جراء ما فعلتَ. لماذا فررت من القتال؟ قال ضرار: الواقع أنني لما خرجتُ لمبارزة قائد الكافرين ووقفت إزاءه وجهًا لوجه تذكرت فجأة أنني ألبس الدرع منذ الصباح. وكنت أعرف أن هذا الكافر يحسن الضرب بالسيف والطعن بالرمح. فقلت في نفسي يا ضرار، هل تكره لقاء الله تعالى حيث خرجت لقتال هذا الكافر لابسًا الدرع خوفًا من أن يقتلك بضربة أو طعنة؟ فلو قُتلت اليوم فليس بك إلا الجحيم، لأن الله تعالى سيقول لك إنك لم تُرد لقائي. لو أحببتَ لقائي لما خرجتَ لساحة القتال لابسًا الدرع. فجريتُ إلى خيمتي لأخلع الدرع، حتى إذا قُتلتُ لقيتُ ربي ضاحكًا مسرورًا.

فليس المراد من «يوم عظيم» إلا يوم لقاء الله تعالى، ولكن لا معنى للقاء الله تعالى إلا إذا سُرّ العبد بذلك. ولكن الله تعالى يعلن هنا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ .. أي ما أتعسَه حظًّا وما أكثرَه لعنةً ذلك المرء الذي حين يلاقيه ربه يتمنى الفرار من عنده بدلاً من أن يُسَرّ بلقائه. وهذا هو الخزي والهوان الذي سيصيب هؤلاء القوم لأنهم قطعوا صلتهم عن الذي كان من واجبهم أن يكونوا على صلة به ، ورفعوا عبدًا متواضعًا من عباد الله تعالى إلى منصب الألوهية.

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (مريم 39)

التفسير:

لقد قال علماء الصرف والنحو- على العموم – في قوله تعالى أَسْمِعْ بهم وأَبْصِرْ إنه تعجّبٌ، والمعنى: ما أكثرَهم سمعًا وما أحدَّهم بصرًا في ذلك اليوم! بينما قال بعض النحويين إنه ليس تعجّبًا، بل هو أمرٌ حقيقةً (إملاء ما منّ به الرحمن)، والمعنى: يا مخاطبُ، أَسمِعْ هؤلاء وأَرِهم حالَهم.. أي اكشِفْ لـهم حالتهم الحقيقية تمامًا.

ولكني أرى أن المعنى الأول هو الأجدر بالأخذ لكونه مطابقًا لاستعمال العرب.

ثم قال الله تعالى يومَ يأتوننا .. ذلك لأنه ستنكشف في ذلك اليوم الأمور كلها، ويزول كل إشكال وانحراف قد تطرق إلى مسائل الدين، وتُزال الغشاوة التي تغطي أبصار الناس نتيجة الأباطيل والخرافات المنسوجة من قِبل الأحبار والرهبان والكهان والمشايخ. فتسمع الآذان عندها الحقيقة، وسترى الأبصار الحق عيانًا. ولكن ماذا ستكون نتيجة انكشاف الحقيقة عندئذ. سيفرح المؤمن لدى انجلائها لإيمانه بها في الدنيا أيضًا، إذ لا ينكشف عليه شيء جديد، بل سيتجلى عليه نفس ما كان مؤمنًا به في الحياة الدنيا. فالمؤمن الذي يؤمن بأن الله حميد، مجيد، غفار، ستار، مهيمن، شكور، غفور، رب، رحمن، رحيم ومالك يوم الدين.. سيتيسر له إدراك أوسع بكثير لصفة الرحمن والرحيم ومالك يوم الدين وغيرها من صفاته عند انكشاف الحقيقة عليه يوم القيامة ومثوله أمام الله تعالى؛ ومع ذلك سيكون مسرورًا لمعرفته أنه كان يسير في الدنيا على جادة الحق والصواب. شأنه شأن المرء الذي يرى خضرة من بعيد، وحين يقترب منها يشهد مشهدًا آخر تمامًا لانكشاف الحقيقة عليه. ورغم وجود البون الشاسع بين مشاعره لدى رؤية الخضرة من بُعد وبين رؤيته الخمائل الخضراء عن قريب، إلا أن هذا لا ينقص من ابتهاجه وإنما يزيده فرحةً وسرورًا. أما الكافر فمثله كمثل المسافر الذي يرى أفعى كبيرة من بعيد، ولكنه لضعف بصره يظنها تلة من التلال، فيمشي نحوها ليقضي عليها الليل في مأمن من هجوم الضواري؛ ولكنه حين يقترب من المكان يجد أنه ليس بتلة بل هي حية ضخمة، فتستولي عليه الحسرة واليأس. هذا ما سيحدث بالكفار يوم القيامة، فعندما تنجلي عليهم الحقيقة يقولون يا حسرتنا، ما هذا الذي حدث. إنه عكس ما ظنناه.

أما قوله تعالى لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فهو لا يعني أن الإنسان يصير في ضلال مبين بعد أن يصبح مصداقًا لقوله تعالى أَسْمِعْ بهم وأَبْصِرْ .. أي بعد انجلاء الحقائق عليه. كلا، بل حين تنفتح عينُه وبصره فإنه ينال الهدى. إنما المراد من هذه الجملة أنهم سيدركون عندها أن ما آمنوا به كان باطلا، ولكن هذا الإدراك لن ينفعهم عندها شيئًا، إذ يُجزَى المرء عندئذ بحسب ما آمن به من قبل. إن المسيحي الذي يدرك عندئذ أن الله تعالى واحد لا شريك لـه لن يتطهر من الشرك بإدراكه هذا، وإلا فلماذا سيُلقى في النار؟ فثبت أن قوله تعالى لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين يعني أنهم سيدركون عندئذ أنهم كانوا في ضلال مبين، وليس أنهم سيَضلّون عندئذ.

تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via