- النظرة الشمولية في الكون تدلّ على وحدانية الله تعالى وكل ذرة تتجلّى في كل دقائق صفاته تعالى.
__
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (45)
شرح الكلمات:
لا تَفقَهون: فَقَهَ الشيءَ يفقَه فِقْهًا: فَهِمَه. وفَقِهَ الرجلُ يفقَه فَقَهًا: علِم وكان فقيهًا (الأقرب).
حليمًا: حلُم يحلُم حِلْمًا: صفَح وستَر فهو حليم (الأقرب).
التفسير:
لقد بيّن الله هنا أن النظرة الشمولية في الكون تدلّ على وحدانية الله تعالى، كما أن النظر في كل شيء منفردًا يوصلنا إلى النتيجة نفسها؛ علمًا أن جملة تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ تتحدث عن الدلالة الشمولية على التوحيد، وأما جملة وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فتتحدث عن الدلالة الفردية لكل شيء على التوحيد، إذ لو كانت الجملة الأولى تشمل الدلالة الفردية أيضا لما كان هناك داعٍ للجملة الثانية.
أما الدلالة الشمولية فبيانها أن النظر في شتى الأشياء الموجودة في الكون يدل على وجود صلة متينة بينها. فبالرغم من ابتعاد هذه الأشياء بعضها عن بعض بملايين الأميال، إلا أنها متصلة فيما بينها بنظام شديد الإحكام؛ وارتباط هذه الأشياء بانسجام تام تحت نظام محكم واحد يدل جليًّا أنه لا يوجد في الكون إلا قانون واحد وإلا لاختلّ نظامه. وبما أنه لا يوجد في الكون إلا قانون واحد فكيف يمكن أن يوجد فيه مقنِّنٌ آخر.
كما أن كل شيء في الكون يسبّح لله تعالى تسبيحًا فرديًّا أيضًا، إذ تتجلى في كل شيء صفاتُ البارئ ككونه ستّارًا وغفّارًا وخالقًا ومالكًا وما إلى ذلك.. بمعنى أنك تجد كل شيء يعمل وفق هذه الصفات الإلهية. لو فحَصتم أية ذرة في الكون لوجدتم فيها بصمة هذه الصفات الإلهية كلها. فما دام كل شيء يُجلّي صفاتِ الإله الواحد فكيف يمكن أن يُنسَب إلى إله آخر؟
أما قوله تعالى ولكنْ لا تفقَهون تسبيحَهم فقد قال البعض أن المراد منه أن لكل شيء لغةً مستقلة يسبّح بها، ولكنا لا نفهم لغته. (تفسير البغوي)
أقول: لو كان لكل شيء لغة يسبح بها ولكن لا نفهمها فكيف يكون هذا الأمر دليلاً لنا؟ إنما الدليل ما نستطيع فهمه وإدراكه. إذن فليس المراد من هذه الجملة أننا لا نفهم لغة هذه الأشياء، إنما المفهوم الصحيح هو أننا لا ندرك أن كل هذه الأشياء هي الأخرى تقوم بتسبيح الله تعالى.
ونبّه الله تعالى بقوله إنه كان حليمًا غفورًا إلى أنه يعاملكم بحلم، ولكنكم لا تنتفعون من حلمه، وإنما تزدادون تمردًّا. هلا فكّرتم أن عدم انتفاعكم من هذا النظام الكوني والبراهينِ الدالة عليه، وعدمَ نزول العقاب عليكم رغم استمراركم في الشر والتمرد، إنما يدل على أن الله حليم فلا يؤاخذكم فورًا؟ فالأولى بكم أن تتحلّوا بالنبل وتتصرفوا بما يتلاءم مع هذا الحلم الرباني.
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (46)
شرح الكلمات:
حِجابًا: الحجاب: مصدرُ حجَب يحجُب. والحجاب: السترُ؛ وكلُّ ما احتُجبَ به (الأقرب).
التفسير:
لهذه الآية مفهومان؛ أولهما: أنك حين تقرأ القرآن الكريم نجعل بينك وبين الذين يكفرون بالآخرة حجابًا خفيًّا لا يستطيعون رؤيته. وقد وصف الحجاب بكونه مستورًا كيلا يظن أحد من الجاهلين أنه حجاب مادي.
وقد قال البعض أن الله تعالى كان يلقي على النبي حجابًا يختفي به عن أعين الناس، وقد ساقوا بهذا الصدد قصة عن زوجة أبي لهب. قالوا: لما نـزلت سورة المسد وسمعت هذه المرأةُ قولَه تعالى في جِيدها حبلٌ مِن مَسَدٍ استشاطت غضبًا، وأسرعت إلى النبي تريد إيذاءه. فدعا ربَّه ليحميه من شرها، فجعل الله بنيها وبين النبي حجابًا، فلم تستطع رؤيتَه ولا إيذاءَه (الدر المنثور، والرازي).
هذه خرافة من الخرافات، إذ كيف يمكن للرسول الذي لم يخش الدنيا كلها أن يخاف هذه المرأةَ الضعيفة حتى يضطر اللهُ تعالى لإخفائه في الحجاب!؟ هذا غير معقول، ويستحيل أن يقبله أي من العقلاء. إن الذين يذكرون هذه الرواية لا يفكّرون أن الله تعالى قد وصف هذا الحجاب بكونه مستورًا.. أي خفيًّا عن الأعين، ولكنهم يقولون أنه كان مرئيًّا، وكان النبي مختفيًا وراءه!
والمفهوم الثاني لهذه الآية هو أن ذلك الحجاب أيضًا مستور وراء حجاب آخر.. بمعنى ليس بينك وبين الكفار حجاب واحد، بل حُجب كثيرة مِن حميّة قومية وأموال طائلة وأخلاق ذميمة وما إلى ذلك.. أي تارةً يمنعهم من الإيمان تفكيرُهم أنهم لو آمنوا لاضطروا لترك عشيرتهم وقومهم، وتارة أخرى يحول دون إيمانهم خوفُهم على أموالهم؛ وأحيانًا يفكرون أن الإيمان سيتطلب منهم ترك الكثير من رذائل الأخلاق والعادات التي قد تعوَّدوا عليها. فالله تعالى قد نبه نبيه هنا أنهم لن يصدّقوك ما لم يزيلوا هذه الحجب، ولكن المشكلة أن هذه الحجب خافية عليهم، فلا يستطيعون رؤيتها؛ ويظنون أن العيب في القرآن، إذ يقولون: لو كان خيرًا لتأثرت به قلوبنا على الفور. ولكن الحق أن الصدأ قد رانَ على قلوبهم، فيرون القبيح جميلاً، والجميل قبيحًا، فأصبح إيمانهم بعيدَ المنال.
وهذا المفهوم الثاني تؤكده أيضًا الآيةُ التالية: وجعلنا على قلوبهم أَكِنّةً .. أي ليست قلوبهم في غطاء واحد، بل هي في أغطية كثيرة.
فالإنسان يختار هذه الحجبَ والأقفال بحريته، أما الله تعالى فيضع على قلب الإنسان ما يختاره بنفسه. ذلك أن الإنسان ما لم يتطهر قلبه لن ينفعه الدخول في الجماعة الإلهية شيئًا، وإنما سيلطّخ سمعتَها.
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (47)
شرح الكلمات:
أَكِنَّة: جمعُ كِنٍّ، وهو: وِقاءُ كلّ شيء وسِترُه (المنجد).
وَقْرًا: وقَرتْ أُذنُه تَقِرُ وَقْرًا: ثقُلتْ، أو ذهَب سمعُه كلُّه وصَمَّتْ (الأقرب).
ولَّوا: ولّى هاربًا: أدبرَ. ولّى الشيءَ وعن الشيءِ: أعرضَ ونَأَى (الأقرب).
التفسير:
اعلَمْ أن كلمة أن يفقَهوه متعلِّق بمفعولٍ له محذوفٍ، والمراد أننا قد جعلنا على قلوبهم الأكنّةَ كراهةَ أن يدخل في الإسلام مثلُ هؤلاء الأشرار الذين قد غطّوا قلوبهم بشتى الظلمات، فيتسبَّبوا في تشويه سمعته.
وقد يثار هنا اعتراض وهو: بما أن الله هو الذي جعل على قلوبهم الأغطيةَ فأنى لهم أن يدركوا الحقيقة، وكيف يجوز لومُهم إذنْ؟
ولقد ردّ الله على ذلك ردًّا مبدئيًّا في مكان آخر فقال وما يُضِلُّ به إلا الفاسقين (البقرة: 27).. أي أن هذه الحجب تتولد من عند أنفسهم، وليس من الخارج. وقد صرّح الله بذلك في موضع آخر من القرآن الكريم فقال أم على قلوبٍ أقفالُها (محمد: 25).. أي على قلوبهم أقفال تولدت من عند أنفسهم هم. فالإنسان يختار هذه الحجبَ والأقفال بحريته، أما الله تعالى فيضع على قلب الإنسان ما يختاره بنفسه. ذلك أن الإنسان ما لم يتطهر قلبه لن ينفعه الدخول في الجماعة الإلهية شيئًا، وإنما سيلطّخ سمعتَها.
أما قوله تعالى وإذا ذكرتَ ربَّك في القرآن وحدَه ولَّوا على أدبارهم نفورًا فاعلم أن كلمة وحده تدل على أن المشركين يؤمنون بالله تعالى، ولكنهم يتضايقون من التوحيد. وهذا الضيق أيضًا أحد هذه الحجب المذكورة أعلاه.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (48)
شرح الكلمات:
يستمعون: استمعَ له وإليه: أَصغَى (الأقرب).
نَجْوَى: النجوى: السرُّ؛ المُسارُّون، وهو وصفٌ بالمصدر يستوي فيه المفرد والجمع (الأقرب).
مسحورًا: المخدوع؛ المصروف عن الأمر؛ المسلوب اللُبِّ؛ المسلول*. فكأنهم قالوا لهم: إنكم لا تتبعون إلا رجلاً قد انخدع؛ أو صُرف عن الحق؛ أو سُلب عقله؛ أو أصيب بمرض لا علاج له. ذلك أن صحة أنبياء الله تعالى لا تكون جيدةً بالعموم لحزنهم على الحالة المتردية لأقوامهم، فيقول المعارضون إنه مريض ضعيف، وسيموت بعد برهة من الزمن؛ إنْ هو إلا «سحابة صيفٍ عن قليلٍ تقشَّعُ».
التفسير:
اعلَمْ أن الباء في قوله تعالى يستمعون به جاءت بمعنى اللام، والمراد أننا نعلم جيدًا الغرض الذي من أجله يستمع هؤلاء إلى أقوالك. إنما يستمعون إليك لكي يرفضوك ويتهموك فحسب. وكأن هذه الجملة جاءت شرحًا للوقر المذكور في الآية الماضية.
وقد تكون الباء في يستمعون به للمصاحبة، والمعنى أننا نعلم حالة قلوبهم وقتَ استماعهم لك. وما هي هذه الحالة؟ هي تفكيرهم في الاستهزاء بك ومعارضتك.
تتحدث هذه الآية عن المزيد من الحجب التي غطّت قلوبَ المنكرين. فقال الله تعالى: إن أول الحجب الحائلة دون إيمانهم هو الشرك. وثانيها أنهم لا يستمعون إلى محمد رسول الله بتأنٍّ وتدبُّرٍ إطلاقًا، وإنما يَسمعونه بهدف السخرية والاتهام فحسب؛ فكيف يمكن إذن، والحال هذه، أن يدركوا الحقيقة. وثالثها أنهم يستهينون بمحمد، ظانين أن أمره لن يدوم، فلماذا نؤمن به ونرى الخزي والهوان؟ ورابعها أن بعض الحمقى منهم يظنون أن محمدًا قد سُلب عقلُه، فلا داعيَ للإصغاء إليه. وخامسها أنهم يحسبونه مخدوعًا، فلا يرون الحاجة للتدبر في أمره، فرِحين في أنفسهم بأنهم مصيبون كبدَ الحقيقة.
كما يتبين من هذه الآية أن الكفار لما فشلوا في صد تيار انتشار الإسلام بالظلم والعدوان على المسلمين لجأوا إلى حيل أخرى، حيث بدؤوا يهمِسون في آذان القوم سرًّا وبكل رفق ما يصدّونهم به عن الإسلام.
* ورد في «أقرب الموارد»: سحَره: عمِل لـه السحرَ وخدَعه؛ سحَره عن الأمر: صرَفه؛ وسحَره بكلامه وألحاظه: استماله وسلَب لُبَّه.
وورد في «لسان العرب»: سحَره، فهو مسحور وسحير: أصابَ سَحْرَه. ورجلٌ سحرٌ وسحير: انقطع سَحْرُه، وهو رِئَتُه، فإذا أصابه منه السِّلُّ وذهَب لحمُه فهو سحير وسَحِرٌ . (المترجم)