
- ما التأصيل الذي نجده لبراعة المسلمين وتفوقهم في الطب خلال العصور الوسطى؟
- مَن مِن الأطباء المسلمين يجدر ذكرهم من تلك الحقبة؟
- أي فروع الطب يمكن نسبة تدشينها إلى المسلمين؟
___
أعلام الطب في العصور الوسطى
من أعظم ما يميز العالم الحقيقي إيمانه بتراكمية العلم، واعترافه بفضل السابقين مهما كان في نظر الآخرين ضئيلا، وهذه المزية لم تفارق العلماء والمفكرين المسلمين منذ بزوغ فجر الحضارة الإسلامية الأول، فاهتموا خلال حقبة العصور الوسطى بترجمةِ ودراسة نظريات الفلاسفة الإغريق، فبدأوا من حيث انتهى الفلاسفة الإغريق، ونقلوا الكم الذي بقي للأجيال اللاحقة والذي قامت عليه النهضة الأوربية الحديثة، ولكن مهلا، إن عظمة إنجاز العلماء المسلمين لم تقتصر على ترجمة تراث الإغريق وحسب، وإنما تتجلى العظمة في فتح آفاق علمية جديدة، لا سيما في فروع العلم العملية، وعلى رأسها الطب. لقد اهتم المسلمون بصورةٍ خاصة بمجال الصحة والمرض؛ إذ كتب علماء وأطباء الإسلام الكثير من الكتب الطبية، وطوّروا المفاهيم الخاصة عن الأدوية والممارسات السريرية والأمراض والعلاج والتشخيص. وفي كثير من الأحيان، أُدرجت بعض النظريات الخاصة بالعلوم الطبيعية والفلك والكيمياء والدين والفلسفة والرياضيات، ضمن هذه الكتب الطبية.
ونرى الشاعر الإنكليزي “جيفري تشوسر” والمعدود من أبرز شعراء العصور الوسطى، يذكر اسمَ الطبيب الفارسي المسلم أبي بكر الرازي، والطبيب الفيلسوف ابن سينا، بالإضافة إلى بعض الأسماء الإسلامية الأخرى، في مقدّمة كتابه «حكايات كانتربري» ضمن الشخصيات المؤثرة. والحقيقة التي لا فكاك منها أن أطباء أوروبا لم يُتَح لهم الاطلاع على التراث الطبي الإغريقي بما في ذلك تعاليم أبقراط وجالينوس، إلا من خلال الترجمات العربية، مما يعني أن المسلمين مثلوا جسرا ثقافيا انتقلت عبره التراث الحضاري في حقبة خلت إلى حقبة لاحقة، ألا يُذَكِّرنا هذا الأمر بقوله تعالى مشيرا إلى أمة خاتم النبيين:
إذ تلوح لنا من خلال الآية المباركة فكرة الوسط الناقل عبر الزمان والمكان، فعبر الزمان ساهم المسلمون في نقل تراث الأمم الخالية إلى الأجيال اللاحقة، وعبر المكان ساهموا في نقل علوم الشرق الأقصى إلى الغرب الأقصى، ومثال على ذلك نقلهم صناعة الورق من الصين ومن ثم انتشارها في أوروبا.
جدلية الصحة والمرض
يُعد المرض من الأعراض الطارئة على حال الإنسان السوية مهما اختلفت القوميات والأديان والألسنة والألوان، لذا فمن الطبيعي أن تشغل جدلية الصحة والمرض الناسَ كافة، وبالتالي نجد لهذه الجدلية صدى واسعا في شتى الحضارات، وبالنسبة للثقافة والحضارة الإسلامية، نجد ارتباطا وثيقا لها بالطب في العصور الوسطى، بل كان جزءًا منها. لقد بدأت مراكز تعليم الطب في المساجد الكبرى والمستشفيات التي غالبًا ما كانت مُلحقةً بالمساجد في نفس المكان؛ حيث أتيحت لطلاب الطب ملاحظة المرضى والتعلم من الأطباء الأكثر خبرة.
انطلق علماء الطب المسلمون في بحوثهم الطبية من عقيدة مفادها أن الله تعالى هو الشافي، وهو سبحانه الجاعل لكل داء دواء
إن التأصيل لفكرة أن لكل داء مهما كان عضالا دواءً شافيًا، حدا بالأطباء المسلمين إلى البحث المحموم بغية العثور على أدوية فعالة لأدواء عديدة، وهم في أبحاثهم موقنون تمام اليقين بوجود الدواء، الأمر سيبدو مختلفا كثيرا عمن يبحث عن شيء وفي تصوره أنه ربما يبحث عن لا شيء.
لقد أنتجت هذه العقلية والثقافة الإسلامية خلال العصور الوسطى وفرة من أعظم العقول الطبية على مرِّ التاريخ حقّقت تقدّمًا في الجراحة وبناء المستشفيات، ورحّبت كذلك بالنساء في المجال الطبي.(3)
من سجل الإنجازات الطبية
كتاب القانون في الطب: يعد أحد أكثر الكتب شهرةً وتأثيرًا في تاريخ الطب بلا منازع، كتبه الفيلسوف الطبيب المسلم الشيخ الرئيس ابن سينا في خمسة مجلدات باللغة العربية، وتُرجم لاحقًا إلى عدة لغاتٍ من ضمنها الإنجليزية والفرنسية والألمانية. وضع الكتاب معايير الطب التي لا تزال سائدة في أوروبا والشرق الأوسط، وقدّم الأساس للطب التقليدي والتداوي بالأعشاب في الهند. وبلغ كتاب «القانون في الطب» من الشهرة والأهمية في العصر الحالي أن مبادئه تُدرَّس في دورات تاريخ الطب في الولايات المتحدة، في جامعات كاليفورنيا ولوس أنجلوس وييل. وقد وضّح ابن سينا في جزءٍ من الكتاب، الاعتبارات التي يجب أن تؤخذ عند اختبار الأدوية الجديدة، ووصف أيضًا بعض النظريات العلمية والعملية في علم النفس والأمراض العقلية.
علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء: تشير المصادر الطبية إلى أنَّ أول من وصف الدورة الدموية هو علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي حزم القرشي، المولود في دمشق عام 1213م، والذي يُعرف الآن باسم ابن النفيس. ويعتقد مؤرخو الطب أن ابن النفيس أجرى أبحاثه على الحيوانات؛ لأنه قال إنه لا يحبّذ تشريح الجثث البشرية؛ لأنها تناقض التعاليم القرآنية، وكذلك بسبب تعاطفه مع كرامة الإنسان، ولعل هذا الأمر يعد مادة للبحث في تاريخ أخلاقيات العلم عند العلماء المسلمين خلال العصور الوسطى.
الجهاز الدوري: بينما اعتقد الطبيب الإغريقي جالينوس الذي عاش من 129 إلى 216م أنَّ الكبد هو مصنع تصنيع الدم الذي يدور في الجسم وتستخدمه العضلات كوقودٍ لها. وكذلك اعتقد أنَّ الثقوب الموجودة في حاجز القلب تسمح بمرور الدم من جانبٍ لآخر، جاء ابن النفيس ليدحض هذا الاعتقاد ويبين خطأه، وقال إنَّ الدم يُلاحَظ مروره من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر من القلب، في حين أنه لا توجد في حاجز القلب ثقوب أو مسام كما اعتقد جالينوس. ومن خلال تجاربه في التشريح، لاحظ ابن النفيس أنَّه يجب أن يكون هناك نظامٌ من الشرايين التي تنقل الدم، واعتقد أنَّ هذه الشرايين هي التي تحمل الدم من التجويف الأيمن للقلب إلى الرئتين حيث يمتزج بالهواء، قبل أن يعود إلى التجويف الأيسر.
تشريح العين: بينما اعتقد الأطباء الإغريق أنَّ هناك روحًا بصرية في العين هي التي تتيح الرؤية، جاء الحسن بن الهيثم، العالم المسلم الذي عاش من 965 إلى 1040م، وأوضح أنَّ العين عضو للبصر، وشرح وصفًا تفصيليًا لتشريح العين، وطوّر فيما بعد نظرياتٍ عن كيفية تكوين الصور، وحتى القرن السابع عشر؛ ظل علماء أوروبا يرجعون إلى كتابه (المناظر).
كتاب القانون في الطب: يعد أحد أكثر الكتب شهرةً وتأثيرًا في تاريخ الطب بلا منازع، كتبه الفيلسوف الطبيب المسلم الشيخ الرئيس ابن سينا في خمسة مجلدات باللغة العربية، وتُرجم لاحقًا إلى عدة لغاتٍ من ضمنها الإنجليزية والفرنسية والألمانية. وضع الكتاب معايير الطب
الصيدلة الإسلامية
مثلما كان الحال عند الإغريق والرومان والمصريين القدماء، اعتمد العلماء المسلمون في العصور الوسطى على الأدوية النباتية.
طبقًا لدراسةٍ نُشرت مؤخرًا في عام 2016، استخدم الأطباء المسلمون العديد من الأدوية للتخدير، وكان الرازي أول من استخدم أدويةً استنشاقيةً للتخدير. وعرفت بعض النباتات بخواصها التخديرية واستخدمت لتخفيف الألم، مثل: الشُّكْران، اليبروح، البَنْج، الخشخاش المنوّم، المغد الأسود. كانت هذه النباتات تُمضغ أو تغلى ويُشرب مغليها أو يستنشق بخارها أو تحرق ويستنشق دخانها أو تستخدم موضعيا، واستخدم الأطباء نبتة الخشخاش، التي تحتوي بذورها على الكودايين والمورفين، لتخفيف حساسية العين، وألم المرارة والأسنان والحمى وذات الجنب والصداع بأنواعه. كما استخدموا خليطا مغليا للاستحمام كمسكّنٍ لآلام مرض السرطان، تكوَّن هذا الخليط من بذور الشبت وزهرة البابونج وإكليل الملك وأوراق الخُبَّيْزَة وبذور الكتان والكرنب وجذور الشمندر. كما عرف المسلمون الثوم في العديد من العلاجات، من بينها أدوية أمراض المسالك البولية. واستخدموا العرعر وإبر الصنوبر في الاستحمام، للتقليل من حساسية الجلد. كما اكتشفوا ما للتوابل من خصائص مطهرة ومضادة للالتهابات، وما للقرفة من فوائد في علاك الجروح والأورام والقرح. وكذلك استخدموا القنب والأفيون لأغراض علاجية حصرا، لما لهما من تأثيرات مخدرة قوية.
الجراحة
أجرى الأطباء المسلمون عملياتٍ جراحية أكثر من الرومان والإغريق، وطوروا أدوات وتقنيات جديدة. ففي القرن العاشر، اخترع عمار بن علي الموصلي المقدحَ الأجوف لشفط ساد العين (الماء الأبيض/ إعتام عدسة العين). واخترع أبو القاسم الزهراوي -الذي كان جراحًا بارزًا عاش في الأندلس- العديد من الأدوات، منها: الملقط، الكماشة، المشارط، المنظار. وجدير بالذكر أن الأدوات الجراحية التي ابتكرها الزهراوي لا زالت هي نفسها المستخدمة اليوم في أحدث غرف العمليات الجراحية في أرقى المستشفيات حول العالم. كان من أنواع الجراحات التي برع فيها الأطباء المسلمون بالإضافة إلى جراحات علاج إعتام عدسة العين، جراحات العيون علاج التراخوما (الرمد الحبيبي). كما كان الكيّ من التقنيات الشائعة لديهم، وذلك بحرق الجلد لمنع العدوى ووقف النزيف، حيث كان الجرَّاح يسخن قضيبًا معدنيًا ثم يضعه على الجرح، ليتجلّط الدم فيساعد في الشفاء.
ومن ضمن التقنيات الشائعة أيضًا، تقنية الفصد (إخراج الدم من الجسم عن طريق شقٍّ في وريدٍ رئيسيّ) وذلك لاستعادة التوازن بين السوائل الأربعة طبقًا للنظرية الإغريقية، وهي النظرية التي شكّلت أساس الكثير من الممارسات الطبية من العصر الإغريقي حتى القرن السابع عشر.
كما أُخذت عنهم أيضًا ممارسة الحجامة، بوضع كوبٍ زجاجيٍّ ساخن على جرحٍ في الجلد، لسحب الدم الفاسد من الوريد.
المستشفيات
بُني اول مستشفى، بالمعنى المتعارف عليه، في التاريخ عام 805م في بغداد برعاية هارون الرشيد. وتطورت المستشفيات من حيث اتساع نطاقها وطبيعتها. وكان إنشاء مستشفى أحمد بن طولون في مصر إنجازا مميزاً أيضاً، حيث كان واحداً من أوائل المستشفيات التي تعمل بكامل طاقتها، والذي أصبح نموذجاً للمستشفيات التي نراها في الوقت الحاضر. كان المبدأ الأساسي الذي نشأ مع إنشاء مستشفى أحمد بن طولون هو الرعاية الصحية المجانية -وهو مفهومٌ كان ولا يزال سائدا في التقاليد الإسلامية.
بالإضافة إلى المستشفيات، كانت هناك المستشفيات التعليمية، حيث يمكن للطلبة تعلم كيفية علاج المرضى.واشتهر هذا النمط من المستشفيات في الحواضر الكبرى كالقاهرة وبغداد وحران. وأطلق على المستشفيات اسم «البيهارستان» وهي كلمةٌ فارسية تعني دار المرضى.
أجرى الأطباء المسلمون عملياتٍ جراحية أكثر من الرومان والإغريق، وطوروا أدوات وتقنيات جديدة. ففي القرن العاشر، اخترع عمار بن علي الموصلي المقدحَ الأجوف لشفط ساد العين (الماء الأبيض/ إعتام عدسة العين). واخترع أبو القاسم الزهراوي -الذي كان جراحًا بارزًا عاش في الأندلس- العديد من الأدوات، منها: الملقط، الكماشة، المشارط، المنظار
الطبيبات المسلمات
كانت ممارسة بعض النساء للمهن الطبية من الظواهر الشائعة في العصور الإسلامية الوسطى. وساعد على انتشار مثل هذه الظاهرة الحميدة أن تلقّت بعض النساء من عائلات الأطباء المشهورين تدريبًا طبيًا مميزًا، ومن المرجح أنهن عالجن الذكور والإناث على حدٍّ سواء.
وتمثلت إحدى مزايا تمكين المرأة من تقديم الرعاية الطبية في قدرتها على فهم المشاكل الصحية النسائية. كما عُرِف عن العبقري ابن سينا أنه كان يستخدم قطرة لعلاج العيون ركَّبتها امرأة خبيرة بصناعة الطب. كذلك ذاع اسم «ست الشام خاتون» وهي شقيقة توران شاه (من ملوك بني أيوب) أنها كانت تتبنى وتُشرف على تصنيع أشربة وسفوفات وعقاقير في دراها بمبلغ عظيم ليُفرَّق على الناس. (4)
الهوامش
- (الشعراء: 81)
- (سنن أبي داوود، كتاب الطب)
3.
4.