خواطر من البقاع المقدسة

خواطر من البقاع المقدسة

أسامة عبد العظيم

  • أشواق على الطريق إلى المدينة المنورة.
  • الوصول إلى النبي (ص) ودخول روضته الشريفة.

أشواق على الطريق

كنت قد بدأت في كتابة هذه الخواطر وأنا يوشك أن يجمعني لقاء مع سيد الكونين وعظيم الثقلين ﷺ، مع الإنسان الكامل الذي سبق الأولين والآخرين، وارتقي به المقام إلى بقعة لم يصل إليها ملك مقرب عند رب العالمين..

ترى هل أليق بزيارتك يا حبيبي؟ وهل أكون ممن تفخر بهم من ضيوفك وزوار قبرك الشريف من كل بقعة من بقاع الدنيا؟ أم سيسود وجهي منك خجلا وحياء وقد اتيتك بقراب الأرض ذنوبا وتقصيرا؟ يا رب فاستر عيوبي ولا تفضحني بين يدي حبيبك وحبيبي… يا من تستر القبيح وتظهر الجميل، أره مني كل حسن واستر عنه مني كل قبيح وما أكثره… يا رب لا تكسر قلب حبيبك وحبيبي بذنبي وعصياني، ولا تحزن فؤاده بعجزي وكسلي وقعودي وسفول همتي، إنه يارب قد فارقنا بعد أن ترك لنا الأسوة والقدوة والمثل، وهو يرجو منا الكثير والكثير، فساعدني يا الله على أن أسير في درب يرضيه، وأن أعمل عملا يسعده ويقر عينه، وأن أحذو حذوه وحذو صحابته الكرام في البذل والتضحية والفداء حتى يطمئن قلبه أنه قد خلف رجالا لا تكتحل عيونهم بالنوم حتى يرافقوه في أعلى الجنان..

كم طال انتظاري لهذا اللقاء، وكم مزق الشوق كبدي لزيارة أرضك وموطنك العزيز.. وها أنا بعد جميل صبر وطول انتظار تسبقني إليك روحي، وتتسارع دقات قلبي في الطريق إلى مسجدك المبارك، تحتبس الكلمات في عقلي، وتترقرق في عينيَّ الدموع، فتارة أحبسها وتارة تغلبني فتنهمر..    هل حقا سأحظى بزيارة مدينة المصطفى ﷺ؟ وهل سأنعم بالصلاة في مسجد كان يصلي فيه هو وصحبه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين؟ آه يا حبيبي لو تلامس قدماي الخاطئتان موضعا وطئته قدماك الشريفتان! آه لو يتعفر جبيني بتراب نعليك في طريق سلكته! آه لو يتنعم صدري بنسيم هواء لامس خدك الطاهر، آه لو يستند ظهري إلى جدار تشرف بملامسة ظهرك! ليتني أعرف صخرة رقيتها لأنكب عليها مقبلا ومحتضنا! لله ما أكرم بقعة عشت بها يا حبيبي يا رسول الله! هنيها لأحجارها وأشجارها ونخيلها وطيورها التي تكحلت أعينها برؤية محياك الشريف..

إنني لم أنطلق بعد في سبيلي مُيَمِّمًا شطر مدينة النور زائرا ساكنها حبيبي المصطفى، ولكن مشاعر الشوق تعتمل من الآن في قلبي كغلي مرجل قاطرة تجوب الفيافي، فيا ترى ماذا عساه أن يحدث حين ألتقيك حقا يا حبيبي؟!

لو كنا حقا صادقين في دعوانا الإيمان بإمام الزمان، وكنا فعلا نعد أنفسنا من جماعة الآخرين، فهذا هو الطريق واضح لا لبس فيه ولا غموض، تضحية صادقة مع انكسار لأبعد الحدود.. حينها فقط سينصر الله بنا الدين كما نصره بأولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من كان ينتظر.. والذين كان الثبات والاستقامة شعارهم دوما فما انحرفوا وما ارتدوا على أعقابهم، وما بدلوا تبديلا.

سلام على المهاجرين وسيدهم

كانت الرحلة طويلة من الطائف للمدينة المنورة، ست ساعات أو يزيد قضيناها على مقاعد وثيرة في حافلة مكيفة الهواء ومعنا طعامنا وشرابنا مما لذَّ وطاب، ورغم ذلك أصابنا ما أصابنا من المشقة والتعب!  سرحت بخاطري في حال أولئك النفر من الصادقين الأوائل الذين دفعوا ثمن إيمانهم بالحبيب المصطفى ﷺ غاليا ثمينا، كم كانوا رجالا بحق حين قرروا قطع تلك المسافات الطوال في رحلة الهجرة إلى الله ورسوله غير عابئين بالحر الشديد، ولا مبالين بالجوع والعطش، ولا خائفين من هوام الأرض وسباع الصحاري.. أي بذل هذا وأي تضحية تلك؟ إنها نموذج يسطره التاريخ بمداد من ذهب على مر العصور.. من اليسير على الإنسان أن يعلن اعتناقه لفكرة أو عقيدة أو دين، لكن أن يترجم هذا الإعلان بصورة عملية، ويضحي في سبيل دينه وعقيدته بأهله ووطنه وماله ودياره بغير تردد ولا حساب فهذا هو الإيمان الحق الذي قدمه صحابة النبي ﷺ للدنيا كلها إلى قيام الساعة..

دارت بذهني تلك الخواطر وأنا أقارن بكل حزن وأسى حالنا اليوم بحال ذلك الرعيل الأول، وأضع تكاسلنا وقعودنا وضعفنا بجوار هممهم التي ناطحت كبد السماء، فالواحد منا يتكاسل عن حضور اجتماع ديني، أو الذهاب لجلسة روحانية على الرغم من أنه سيستقل سيارة مكيفة، وسيجلس على مقعد مريح، ولن يقطع تلك المسافات القصيرة نسبيا سيرا على الأقدام، فقلت في نفسي: لو كنا حقا صادقين في دعوانا الإيمان بإمام الزمان، وكنا فعلا نعد أنفسنا من جماعة الآخرين، فهذا هو الطريق واضح لا لبس فيه ولا غموض، تضحية صادقة مع انكسار لأبعد الحدود.. حينها فقط سينصر الله بنا الدين كما نصره بأولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من كان ينتظر.. والذين كان الثبات والاستقامة شعارهم دوما فما انحرفوا وما ارتدوا على أعقابهم، وما بدلوا تبديلا.. لاحت مشارف طيبة.. واشوقاه لأوقات البداية! مع نسمات الغروب المؤذنة بحلول ليلة الجمعة داعبت أرواحنا نسائم طيبة الطيبة، وحطت بنا الرحال في أرض المحبوب على مشارف مدينة المصطفى ﷺ.. ارتفع أذان المغرب وتقرر التوجه أولا إلى مسجد قباء لأداء الصلاة ثم الانطلاق بعدها نحو المسجد النبوي..   عادت بي الخاطرة أكثر من ألف وأربعمائة عام إلى الوراء لتشهد لحظة قدوم النبي ﷺ والمهاجرين الأوائل لتلك البقعة المباركة، وتناهى إلى سمعي لحن الترحيب بخاتم النبيين، ورأيت بعين قلبي رجال المدينة ونساءها، وصبيتها يهرعون جميعا في دروب المدينة قاصدين مشارفها في انتظار صاحب الثغر الباسم والوجه الأغر بكل لهفة وشوق..

كانت الهجرة هي نقطة البداية في مسيرة نصر الإسلام وتقدمه.. وكان مسجد قباء الذي صلينا فيه المغرب بداية العهد الإسلامي في المدينة المنورة وكان أول مسجد بني في الإسلام.. هاجت في نفسي أشواق الذكرى نحو البدايات وأوائل خطوات المسير في طريق الرحمن عز وجل.. وتذكرت قول أحد الصالحين حين تأوه متأسفا: «واشوقاه لأوقات البداية!»، وقد صدق، فالبدايات دوما تكون مليئة بالصدق، مفعمة بالحماس، مكللة بالجهد الشاق والبذل والتضحيات الجسام.. ثم ما يلبث تعاقب الأيام وتباعد الأزمان أن يصيب القلب بالفتور، والحماسة المتوقدة بالكسل والخمول..

فطوبى لمن صحت بدايته، وطوبي ثم طوبى لمن حافظ على مشعل الحماسة متقدا طوال سيره إلى الله تعالى، ولم يترك روحه فريسة للتواني والكسل وتراخي العزيمة.. واليوم، ونحن نرى أنفسنا وغيرنا قد خمدت في قلوبهم جذوة الإيمان، وانطفأت بين جوانحنا العاطفة الجياشة، فإننا أحوج ما نكون إلى وصية الحبيب المصطفى ﷺ حين سأله أحد الناس قائلا :

يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي أَمْرًا فِي الْإِسْلَامِ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ»(1)،

فكأن النبي ﷺ أراد تنبيه السائل وتنبيهنا جميعا على خطورة الفتور بعد فورة البدايات القوية..

آه لو تعود بنا الأيام لمشاعر يوم البيعة وإعلان الإيمان بصدق المسيح الموعود والدخول في جماعته، فليقارن كل منا حاله الآن بتلك الحال في لحظة الصدق الصافية يوم فارق الدنيا كلها من حوله معلنا بيعته، ويوم تحدي كل الظروف والصعاب وتجاوز كل العقبات وتخلي عن كل الروابط والعلاقات من أجل رضا الله تعالى والإيمان بمبعوثه السماوي.. ترى هل يتوق كل منكم مثلي لإيمان البدايات، وصدق البدايات، وإخلاص البدايات، ويقين البدايات، ورقة القلب ودمعة العين في البدايات؟ اللهم إني أتوق إليها فردها إليَّ يا رب العالمين، وارزقني الثبات عليها حتى الممات عاملا بقول الحق سبحانه وتعالى:

وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (2)

في رحاب الروضة الشريفة،  آتاني الله كفلين من رحمته!

في هذه الرحلة المباركة شرفني الله تعالى بالصلاة في الروضة الشريفة مرتين في أقل من يومين، وعقب زيارتي الثانية استشعرت هذه الآية الكريمة …يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ… (3).. فأي رحمة أعظم من شرف زيارة الحبيب، والصلاة في روضته المباركة مرتين في يومين متتاليين.. ومن يعرف تعقد الإجراءات الاحترازية في زيارة الروضة الشريفة وغيرها من بعد كورونا، فهو وحده فقط سوف يدرك ما أعنيه..   ولمن لا يعرف، فزيارة الروضة الشريفة، والصلاة فيها هذه الأيام ليست أمرا هينا ولا يسيرا.. فعليك أولا أن تقوم بحجز موعد من على أحد التطبيقات الذكية التي خصصتها الحكومة لذلك، على أن يكون الحجز قبل الموعد بفترة كافية نظرا للضغط والإقبال على الحجز.. ثم إن يسر الله لك الحجز فعليك التقيد به ولا يسمح لك بالحجز لزيارة أخرى إلا بشرط مرور شهر كامل على موعد الزيارة الأولى، وهناك على باب الروضة مراجعة دقيقة لكل زائر للتأكد من صحة تصريحه، وذلك بعمل مسح إلكتروني لكود QR الموجود في التصريح..         لعل الصورة الآن قد اتضحت قليلا.. ولعل رحمة الله بالتكرم على العبد الفقير بزيارتين في يومين متتاليين باتت جلية..

وأزيد من الشعر بيتا آخر، فالحقيقة أنني حين بدأت رحلتي يوم الخميس لم أكن أملك ولا تصريحا واحدا لزيارة الروضة الشريفة، فعلى مدار أسبوع سابق للرحلة حاولت عبثا الحجز للزيارة كل يوم ولم أستطع، وبدأ يتسلل إلى نفسي شعور بعدم استحقاقي لهذا الشرف.. وفجأة في طريق الرحلة كنت أحاول الحجز فوفقت بفضل الله تعالى، وكانت تلك أولى البشريات، ثم رزقني الله بالزيارة الثانية من حيث لا أحتسب. المهم أنني كنت أطمع في زيارة واحدة ففتح لي الحبيب بابه فزرت وسلمت فور قدومي، ثم فتح لي الباب ثانية، فزرته وسلمت عليه مرة أخرى نافلة لما حان وقت رحيلي، فلله الحمد في الأولى والآخرة.. لكن، مهلا يا نفس لا تغتري، فالحق أنك فعلا لا تستحقين ولو ذرة من تراب نعلي الحبيب المصطفى ﷺ، لكنه كريم، وهو بنا رؤوف رحيم، والكريم يقبل على زائره بوجه بشوش ونفس ترحابة أيا كانت حاله ومصائبه.. ومن تمام مروءته ونخوته ﷺ فهو يغض الطرف عن عيوب زواره وتقصير قاصديه، ويعاملهم معاملة يظنون بها أنهم أقرب الناس إليه، وهذا والله من أخلاق الرجال ذوي المروءة والكرم فما بالنا بسيد الكرماء ﷺ.. هل رأيت ملكا عزيزا رحيما كريما يغلق بابه دون زواره وقاصديه أيا كانوا!! فبمثل هذا الكرم عاملتني يا حبيبي يا رسول الله.. رفعت عني الحرج، وسترت مني العيب، وغضضت الطرف عن التقصير، فلم ترق أبدا ماء وجهي، بل ما أشعرتني بعيبي وتقصيري، أقبلت على عبدك ومحبك إقبال من يترقب مجيء غائب عزيز عليه، ما أحلمك يا سيدي إذ لم تدر وجهك عني رغم تقصيري وضعفي! وكيف لا وأنت سيد الخلق وأعظم من تخلَّق بأخلاق رب العالمين؟! يأتيك الكسير والكسيح والمريض والفقير فتبش لهم جميعا وتستبشر بهم، وتلقاهم لقيا الكرام المحبوبين، لا لأننا أهل لذلك، بل لأنك أنت عنوان الكرم ومحاسن الأخلاق، وانت يا سيدي أحق بها وأهلها.. فصلاة وسلاما عليك يا حبيبي دائمين ما دامت السموات والأرض، عشقي لكم يزداد كل حين، ومقامكم فى فؤادي قد بلغ أعلى عليين، فلا تحرمني صحبتك يوم الدين.. آمين يا رب العالمين.

الهوامش:

  1. (مسند أحمد, كتاب مسند المكيين)
  2. (الحجر: 100)
  3. (الحديد: 29)
تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via