يقول الله عز وجل في كتابه العزيز على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام:
ويقول عز وجل في موضع آخر من القرآن الكريم:
فما هي حقيقة خلق الطير على يد عيسى بعد أن ينفخ فيه؟ وهل هو خلق حقيقي مادي بأنه كان يجعل من الطين طيرًا بمجرد أن ينفخ فيه كما يرى بعض المفسرين كابن كثير (رحمه الله)، حيث يقول في تفسير الآية 50 من سورة آل عمران ما نصه: “… وكذلك كان يفعل، يُصوّر من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عيانًا بإذن الله عز وجل…”. ويقول أيضا في تفسير الآية من سورة المائدة لقوله عز وجل: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ، “أن تُصوّره ثم تُشكّله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك، فتكون طيرًا ذا روح تطير بإذن الله”.
هذا هو المعنى الذي يؤمن به معظم المسلمين خاصة أن الآيتين ورد بهما كلمتا “أَخلُق” و”تخلُق” واختلط الأمر على كثير من الناس وذهبوا إلى هذا المعنى الذي يقول بتحويل الطين إلى طير ذي دم وريش ولحم ويطير بالسماء بإذن الله لمجرد نفخ السيد المسيح فيه!! فهل هذا صحيح؟
فهل يجوز أن يقول الله عز وجل بأنه من المستحيل على أي بشر “نبي أو غير نبي” خلقُ ذبابـة، ويقول الآخـرون بـأن عيسى كان يخلق طـيـرًا هو أكبر بمئات المرات من الذباب؟
ولفهم الموضوع على حقيقته علينا أن نبحث في القرآن الكريم كيف استخدم الله سبحانه وتعالى كلمة خلق ومشتقاتها في كتابه الكريم. فنجد أنه عز وجل في سورة غافر قال: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ (غافر: 58). نفهم من هذه الآية أن كلمة خلق الأولى تعني الخلق الإلهي المعروف، وهو الإيجاد من العدم كإيجاد الحياة والروح، أو خـلق الكـون، أو كخـلق السـمـاوات والأرض كقوله تعالى
بينما نفهم من كلمة خلق الثانية معنى آخر وهو الخلق البشري، خلق الناس الذي لا يُقارَن بالخلق الإلهي بشكل من الأشكال، ولا يكون من نوعه إيجاد الحياة مثلاً لأنه سبحانه وتعالى أحسن الخالقين وهو الذي يُوجِد الحياة من العدم ويبعث الروح وليس أحدُ مخلوقاته. بل إن الله سبحانه وتعالى يدمّر من يقول بإمكانية الخلق المشابه للخلق الإلهي حيث يقول:
إن الله سبحانه وتعالى يفنّد ويستنكر على من اتخذوا لله شركاء وعبدوهم من دونه، ويقول لهم مستنكرًا: هل هؤلاء الذين عبدتموهم واتخذتموهم شركاء لي خلقوا كخلقي، فتشابه عليكم الأمر حتى يكون لكم المبرر لعبادتهم واتخاذهم آلهة من دوني.
إنه لمن المستحيل أن يقوم مخلوق بخلق يشابه الخلق الإلهي حيث يُبيـن سبحانه وتعالى العجز الكامل للمخلوقات على القيام بهذا، فيقول سبحانه وتعالى:
وهذا تحّدٍ إلهي واضح لكل مَن دُعي من دون الله ولمن اتخذوهم آلهة، أن يُبيّنوا ويُظهروا ماذا خلقوا من الأرض، مبينًا عجزهم الكامل عن خلق أي شيء من الأرض حسب نص الآية السابقة، وبما أن المسيح أكثر مَن دُعي من دون الله بحسب معتقدات النصارى، وكذلك فإن الطين هو مادة من الأرض كما هو معلوم، فأصبح واضحا بحسب الآية السابقة أن المسيح أعجزُ مِن أن يخلق من الطين الذي هو في الأرض، طيرًا كالذي خلقه الله سبحانه وتعالى..!! لأنه لو سلمنا بأن المسيح قام بهذا الخلق وبهذه الطريقة “بإذن الله” لوجب علينا أن نسلّم بعدم مساواة المسيح بباقي الأنبياء، لقوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُق (النحل: 18). وهذا قد يصل إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى – معاذ الله.
وهناك آيات أخرى كثيرة في موضوع الخلق تبين العجز الكامل للمخلوقات عن القيام بالخلق المتشابه للخلق الإلهي حيث يقول عز وجل:
ويقول كذلك:
فالله سبحانه وتعالى يقول صراحة بعدم إمكانية البشر، وخاصة الذين دُعوا من دون الله كالمسيح أن يخلقوا أي شيء ولو كان صغيرًا جدًا كالذباب.
فهل يجوز أن يقول الله عز وجل بأنه من المستحيل على أي بشر “نبي أو غير نبي” خلقُ ذبابة، ويقول الآخرون بأن عيسى كان يخلق طيرًا أكبر بمئات المرات من الذباب؟ ونقر ونسلم بهذه الحالة بأن عيسى ليس كغيره من البشر والأنبياء، بل ونُعطي المبرر للنصارى بإضفاء الألوهية على شخصه وأنه يخلق في الأرض، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
هذا مع العلم أن النصارى الذين اتخذوا المسيح إلهًا لا يقولون بأنه خلق من الطين طيرًا.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية “رحمه الله” في كتابه مقدمة التفسير الجزء 7 ص 11ما نصه:
فهو سبحانه الخالق العليم الحق الذي لا يموت، ومن سواه لا يخلق شيئا كما قال:
وهذا مثلٌ ضربه الله، فإن الذباب أصغر المخلوقات، وكل من يُدعى من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستعيدوه منه. فإذا تبين أنهم لا يخلقون ذبابًا ولا يقدرون على انتزاع ما يسلبهم، فهم عن خلق غيره وعن مغالبته أعجز وأعجز.”
وعلى هذا فإننا لو أمعنا النظر في الآيات السابقة وما قاله ابن تيمية –رحمه الله- لفهمنا منها ما يلي:
- عدم مساواة الذي يخلق بالذي يُخلق وذلك لأن الذين دُعوا من دون الله لا يخلقون شيئًا بل هم يُخلقون.
- إن الذين دُعوا من دون الله أموات –غير أحياء- ولا يدرون أيان يُبعثون.
عجز أولئك الذين دُعوا من دون الله أن يخلقوا أصغر المخلوقات كالذباب مثلا ولا يستطيعون استرجاع ما أخذه منهم. ومعروف أن المسيح أكثر من دُعي من دون الله، فهو إذن مخلوق ولا يخلق شيئا من الأرض، وهو ميت غير حي ولا يدري أيان يُبعث؟
إذا أصبح واضحا بأنه من المستحيل أن يخلق أحد من مخلوقات الله شيئًا من الأرض كالخلق الإلهي. فما هو إذًا المعنى الصحيح لخلق الطير على يد المسيح بإذن الله؟
بالتعـاليم الإسلامية الصـحيحة وبروح القـرآن الطـيبة ينفـخ في أمـة محمد بإذن الله فيـعيد لهم الروح، ويـخلق من حال المسلمين الطينيـة طيورًا تـُحلّق في ملـكوت الله بـإذن الله.
والجواب هو أننا نعلم بأن السيد المسيح بُعث إلى بني إسرائيل الذين وصف الله قلوبهم بأنها كالحجارة أو أشد قسوة، لانحرافهم وضلالهم وانحطاطهم الروحي، أي أنهم أخلدوا إلى الأرض وهم يمثلون الحالة الطينية التي هي أدنى الحالات الروحية أي “الموت الروحي”. وكأنهم عادوا إلى نقطة البداية. وهي حال جميع الأمم والشعوب عندما يبتعدون عن روح الدين والشريعة التي جاءهم بها أنبياؤهم. وهي تشبه حال الأمة الإسلامية في زمننا الحاضر حيث تفرقت وتكالبت عليها الأمم. وتراجع المستوى الديني “الروحي” في الأمة إلى أدنى مستوى حتى وصلوا إلى الحالة الطينية كبني إسرائيل حيث بُعث فيهم مسيحهم عيسى كما بُعث في المسلمين مسيحهم أحمد للنهوض بهم روحيًا بأن ينفخ فيهم تعاليم الإسلام الحيقيقة الصحيحة والتي سوف تسمو وتعلو بهم في الملكوت كما يسمو ويعلو الطير في السماء. وهذه الحالة هي حالة الطيور التي خلقها المسيح في بني إسرائيل بإذن الله وتأييده سبحانه وتعالى.. وهذا المعنى يتبين من كلمة “كهيئة” حيث إنها عبارة عن حرف تشبيه وهو حرف: الكاف” وكلمة “هيئة”. فالكاف تعني “مثل”، وهيئة تعني “حال”، فيصبح المعنى: “مثل حال الطير” أي أن عيسى يخلق (أي يُوجِد) لكم من الطين (أي من الحالة الطينية) كهيئة الطير أي (مثل حال الطير).. وحال الطير أنه يكون هابطًا على الأرض في البداية ثم يبدأ بالطيران والارتفاع التدريجي ويعلو شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى أعالي الجو. وهناك يُحلّق في السماء عاليًا مكتشفًا وعارفا ما لم يكن يعرفه وهو على الأرض. وهذا ما حصل مع جميع الأنبياء بما فيهم عيسى حين نفخ في قومه تعاليم الله تعالى وزكاهم، فبدأوا بالرقي الروحي تدريجيا إلى أن وصلوا إلى الدرجات الروحية العالية في سماء الملكوت. وهذه هي الحياة الحقيقية. ومثل هذا ما قاله الإمام الغزالي (رحمه الله) في كتابه “إحياء علوم الدين ج 4 ص 92: “فاعلم أن تمام التحقيق في هذا يُستمَدّ في تيار بحرٍ عظيم من علوم المكاشفات، وقد رمزنا فيما سبق إلى تلويحات بمبادئها، ونحن الآن نعبر بعبارة وجيزة عن آخرها وغايتها يفهمها من عرف منطق الطير، ويجحدها من عجز عن الإيضاح في السير فضلا عن أن يجول في جو الملكوت جولان الطير.” هذا هو المعنى المراد من خلق الطير، وهو خلق (أي إيجاد) الحالة الإيمانية والروحانية التي قام بها عيسى في قومه، شأنه شأن جميع الأنبياء. وهي حالة ضد حالة “الموت الروحي” والكفر التي تكون سائدة في زمن الأنبياء والرسل كما يقول الله عز وجل في الآية الكريمة
أي أنكم أنتم الذين تخلقون الكفر والشك الذي هو موت روحي وتحجُّر قلبي، كما وصف الله عز وجل بذلك قلوب بني إسرائيل. وهنا يؤكد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن المشركين يخلقون إفكًا، ولا يعني أن الإفك شيء مادي تمّ خَلقُه وأصبح حيًّا، وإنما هو حالة الكفر.. “الموت الروحي” والخلود إلى الأرض، وهذا ما جاء ليبـدِّله المسيح عيـسى ابن مـريم في قومه بخلق حالةٍ إيمانية ونفخِ الروح فيهم ليحييهم ويسمو بهم عاليا في ملكوت الله خالقًا في حالتهم الطينية طيورًا روحانية، وهذا أيضا ما فعله أخوه المسيح الموعود في أمة محمد المصطفى بعد أن انحرفوا وماتوا روحيا وتكالبت عليهم الأمم. فهو بالتعاليم الإسلامية الصحيحة وبروح القرآن الطيبة ينفخ في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإذن الله فيعيد لهم الروح، ويخلق من حال المسلمين الطينية طيورًا تُحلّق في ملكوت الله بإذن الله.
فهي دعوة عامة للجميع باتباع منادي السماء المسيح المحمدي، إمام هذا الزمان للرقي بالعالم أجمع، بعد أن ينفخ فيهم بإذن الله روح الإسلام والإيمان بعد أن تناوله من السماء.
ربنا إنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنّا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنـا وكفِّر عنا سيـئاتنـا وتوفـنا مع الأبرار. آمين