الدورة الخلدونية في قيام الدول وسقوطها

الدورة الخلدونية في قيام الدول وسقوطها

عبادة بربوش

رئيس تحرير "التقوى"
  • فوفق أية سنَّة تولد الأمم وتفنى؟

 ___

تكمن عظمة كتاب ابن خلدون الأشهر، أي «العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، والذي يعرف اختصارا بـ «المقدمة» أن مؤلفها قد أرسى فيه قواعد فقه التاريخ وعلم العمران. وهو علم هداه الله إليه حيث يقول في مقدمته: «ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما وأعثرنا على علم جعلنا سن بكره وجهينة خبره، ولم يقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة.»(1) وموضوعه: (البحث في أسباب انهيار الدول وازدهارها). وأراد أن تجد به الملوك ما يغني عن (سر الأسرار) الذي ألفه أرسطو للإسكندر. (2)

ومحاولة فهم كيفية قيام الدول وسقوطها كانت محور اهتمام الباحثين والمهتمين بالتاريخ. ومن الواضح أن هناك تفصيلات كثيرة تتعلق بقيام كل دولة وسقوطها، هذه التفصيلات تختلف وتتبدل بحسب عوامل النشأة والظروف المحيطة بها. وقد انطلق العديد من الباحثين في سبيلهم نحو تعرف أسباب قيام دول معينة وسقوطها في ضوء نظرية ابن خلدون المتعلقة بقيام الدول وانهيارها. وعمد المؤرخون المحدثون لتحقيق هذا الهدف إلى التحليل التاريخي لأطوار قيام الدول موضع الدراسة وانهيارها في ضوء رأي ابن خلدون وفلسفته في الدول وأطوارها المختلفة وأجيالها المتعاقبة. (3)

العمران، بين البداوة والحضارة

اهتم ابن خلدون بقضية العمران والحضارة وبيان أسبابها ومظاهرها، وأسباب اندثارها وانحطاطها، وفصل ذلك في مقدمته الشهيرة، والتي عنونها بـ «العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر». بيد أنه ينبغي علينا التوقف مليا عند اختلاف مفهوم العمران عن مفهوم الحضارة عند ابن خلدون، فالعمران مفهوم عام يتفرع منه مفهومان اثنان، هما: البداوة والحضارة. فكل حضارة صورة من صور العمران، وليس كل عمران حضارة بالضرورة. والعمران هو كل أثر لوجود الإنسان على هذه الأرض، وقد يكون هذا الوجود ذا مظهر بدائي، كما كان يعيش إنسان الكهوف الأول، أو كما تعيش حتى بعض القبائل المنعزلة في أدغال إفريقيا في هذا العصر، ولا يمكننا تسمية مثل ذلك الوجود الأدنى حضارة على أية حال.

وقد تناول ابن خلدون الجذر اللغوي لمفردة «الحضارة» وتقصى اشتقاقاتها، فوجدها تدور في فلك معنى «الحضور» و«الشهادة»، فالحضر عنده هم الحاضرون أهل الأمصار والبلدان، وليست الإقامة في الحضر إلا إحدى الدلالات(4). ولذلك ظل العرب في الجاهلية، والهنود الحمر، في مرحلة البداوة على الرغم من امتلاكهم لنظام اجتماعي دقيق وتشريع خلقي رفيع. فلما امتلك العرب الفكرة المحركة أسسوا تلك الحضارة الشامخة. (5)

الدورة الحتمية للدول والحضارات

بين ابن خلدون أن أجيال البدو والحضر تمر بمراحل أربع متشابهة، في دورة حتمية لا فكاك منها، فبدأ بالقول بأن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نِحْلَتِهِم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله، والابتداء بتوفير الضروريات قبل الرفاهيات، فمنهم من يمتهن الزراعة، ومنهم من يمتهن رعي الماشية، لِنتَاجِها واستخراج فضلاتها، وهؤلاء القائمون على الرعي تدعوهم الضرورة – ولا بد – إلى البَدْو؛ لأنه متسِعٌ لما لا يتَّسِعُ له الحواضر من المزارع والفُدُن والمسارح للحيوان وغير ذلك، فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمرًا ضروريًّا لهم، وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من البيوت والسكن، بالقدر الذي يحفظ الحياة، لا أكثر من ذلك. (6)

لا شك أن الأجيال التي تتربى في هكذا وضع معيشي صعب، تلاحق فيه الماء والكلأ، من أجل استمرار الحياة، تكون أجيالا صحيحة الجسم ماضية العزم، ويمكن تلخيص هذا كله بعبارة موجزة تقول «الأيام الصعبة تُخرج رجالا أقوياء».. ولنحفظ هذه العبارة المرحلة الأولى من الدورة التي سندعوها بالدورة الخلدونية في نشأة وانهيار الأمم والحضارات، وسنسترجعها في نهاية المقال.

ثم يتابع ابن خلدون موضحا أنه إذا اتسعت أحوال أهل البدو، وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرَّفاهية، دعاهم ذلك إلى السكون والدَّعة، وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس، والتأنق فيها وتوسعة البيوت، واختطاط الأمصار للتحضر.(7)

وهنا «يصنع الرجال الأقوياء حالا من الرخاء والترف».. فلتكن هذه العبارة هي المرحلة الثانية إذن.

بين ابن خلدون أن أجيال البدو والحضر تمر بمراحل أربع متشابهة، في دورة حتمية لا فكاك منها، فبدأ بالقول بأن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نِحْلَتِهِم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله، والابتداء بتوفير الضروريات قبل الرفاهيات، فمنهم من يمتهن الزراعة، ومنهم من يمتهن رعي الماشية، لِنتَاجِها واستخراج فضلاتها، وهؤلاء القائمون على الرعي تدعوهم الضرورة – ولا بد – إلى البَدْو؛ لأنه متسِعٌ لما لا يتَّسِعُ له الحواضر من المزارع والفُدُن والمسارح للحيوان وغير ذلك، فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمرًا ضروريًّا لهم، وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من البيوت والسكن، بالقدر الذي يحفظ الحياة، لا أكثر من ذلك

ثم تزيد أحوال الرَّفاهية والدَّعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ، وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك، ومعالاة البيوت والصروح، وإحكام وضعها في تنجيدها، والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها، فيتخذون القصور والمنازل، ويُجْرون فيها المياه ويعالون في صَرْحها، ويبالغون في تنجيدها، ويختلقون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش، أو آنية أو ماعون، وهؤلاء هم الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان، ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة. وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو؛ لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وُجْدهم. (8)

هنا يبدأ الضعف يتسلل شيئا فشيئا في الأجيال التي نشأت في النعمة، والتي ربما لا تدرك ما كان يعانيه أسلافها من حاجة وفقر ومعاناة في سبيل لحصول على لقمة العيش. ولا شك أن أجيالا ناعمة كهذه تكون ضعيفة الجسم والعزم، فمن هذه الأسباب التي ذكرها ابن خلدون حصول الترف الزائد، ليُخرج هذا الرخاء والترف رجالا ضعفاء.. وهذه هي المرحلة الثالثة من مراحل الدورة الخلدونية في حياة الأمم والحضارات.

ويتابع ابن خلدون فيقول: «أيضًا فالترف مفسد للخُلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها، فتذهب منهم خلالُ الخير التي كانت علامة على الملك ودليلاً عليه، ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر، فتكون علامة على الإدبار، والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته، وتأخذ الدولة مبادئ العطب، وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضي عليها».  (9) ونلخص هذه المرحلة الرابعة في بارة تقول بأن «الرجال الضعفاء يصنعون أياما صعبة».

فتلك مراحل أربع تلخص قيام الحضارات وانحطاطها، نسردها تباعا كي تتضح الصورة أكثر، فنقول تلخيصا لما ذكره ابن خلدون:

  1. الأيام الصعبة تُخرج رجالا أقوياء
  2. يصنع الرجال الأقوياء حالا من الرخاء والترف
  3. الرخاء والترف يُخرج رجالا ضعفاء
  4. الرجال الضعفاء يصنعون أياما صعبة

ومن المرحلة الرابعة تشرع الجماعة الإنسانية في إعادة الكرة، وبدء دورة حتمية جديدة، تبرز خلالها سنة الله تعالى في الخلق، حيث يقول عز وجل:

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ . (10)

هذه هي نظرية «ابن خلدون» في قيام الحضارات وسقوطها، ولا شك أنه تحليل مهم قد سبق به علماء الاجتماع في العالم أجمع، ولا شك أن «ابن خلدون» نظر فيه نظرة شمولية، غير قائمة على الجزئية في النظر، لكنه وصف للظاهرة من كل جوانبها، فاستحق بذلك أن يكون الأب الشرعي لعلم العمران البشري، أو ما صار يُعرف الآن بعلم الاجتماع.

الهوامش:

  1. ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، ط1، ج1 (المقدمة)، ص50، دار الفكر، بيروت، 1981
  2. انظر: المرجع السابق
  3. انظر: عذاري بنت إبراهيم الشعيبي، قيام الدول وسقوطها وفق نظرية ابن خلدون وفلسفته، مجلة الجمعية التاريخية السعودية، ص 117 – 152، يوليو 2017.
  4. انظر: محمد عارف نصر، الحضارة.. الثقافة.. المدنية، ص55 وما بعد
  5. بتول أحمد جندية، على عتبات الحضارة.. بحث في السنن وعوامل التخلف والانهيار، ط1، ص26، دار الملتقى للطباعة والنشر والتوزيع، 2011
  6. انظر: تاريخ ابن خلدون (المقدمة)، ص150
  7. انظر: المرجع السابق
  8. انظر: المرجع السابق
  9. انظر: المرجع السابق
  10. (الأنبياء: 105)
Share via
تابعونا على الفايس بوك