مكان مهبط الوحي الإلهي يصبح مباركا
  • فكيف حصلت البركة في أمة بني إسرائيل؟
  • وما البركة المماثلة التي تحققت لأمة محمد ص؟
  • وما السر الروحاني في اكتساب البركة أو العدوى بالنحوسة؟

____

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّا (مريم 53)

شرح الكلمات:

جانِب: الجانب: الناحية والطرَف (الأقرب).

الطور: الجبلُ؛ جبلٌ قربَ أَيلةَ إلى سيناءَ أو سينين (الأقرب).

الأيمَن: اليمينُ؛ ذو اليُمن (الأقرب).

ولفظ الأيمن يفيد هنا صفةً للجانب أو للطور. فإذا كان بمعنى اليمين وصفة للجانب فالمعنى أننا نادينا موسى من الناحية اليمنى لجبل الطور. أما إذا كان صفة للطور فالمعنى أننا نادينا موسى من الطور الذي كان على يمينه. ولكن هذا المعنى لا يدل على حكمة ما، فالأولى أن نفسر الأيمن بمعنى المبارك ذي اليُمن، فيكون مفهوم الآية أننا نادينا موسى من الناحية المباركة من جبل الطور.. أي ناحيته التي كانت مهبطًا لوحي الله تعالى في الماضي أيضًا، وبتعبير آخر، ناديناه من الطور المبارَك.

التفسير:

يتضح من هذه الآية أن المكان الذي يكون مهبطًا لوحي الله تعالى يصبح مباركًا. لقد رأيت أن بعض حديثي العهد في جماعتنا حين يرون أفراد جماعتنا يقبّلون يدي يتساءلون: أليس تقبيل الأيدي شركًا؟ ويثار هذا السؤال خاصة من قبل الإخوة الجدد القادمين من فرقة «أهل الحديث». مع أن الثابت من الحديث بكل جلاء أن الصحابة أيضًا كانوا يقبّلون يد الرسول (ابن ماجه: أبواب الأدب، باب الرجل يقبّل يد الرجل). إن هؤلاء يُسمَّون «أهل الحديث»، ولكنهم ينسون مثل هذه الأحاديث. الواقع أن الجماد أيضًا يصبح مباركًا باتصاله بشخص مبارك. كما أن المكان الذي ينـزل فيه وحي الله تعالى أيضًا يصبح مباركًا. في أيام الفتن الأخيرة كان بعض المسؤولين يزورونني حاملين إلي رسائل الحكام، وكلما جاءوني قالوا لي معتذرين: قد جئناك بهذا مضطرين خجلين، لأن الحكومة هي التي حمّلتنا هذه المسؤولية الحساسة، فماذا نفعل إذا لم نطع أوامرها؟ وذات مرة اعتذر أحدهم بهذا الأسلوب فقلت لـه: أخبِرْني، هل كان نعل الرسول مباركًا أم لا؟ قال: نعم، لأن الرسول كان يلبسها. فقلت: أخبِرْني الآن، هل كان حذاء أبي جهل منحوسًا أم لا؟ قال: بكل تأكيد، لكونه في قدم أبي جهل. قلت: ما هي الميزة الذاتية في نعل الرسول حتى اعتبرناه مباركًا، وما هو القبح الذاتي في حذاء أبي جهل حتى اعتبرناه منحوسًا؟ ثم قلت لـه: إن الإنسان يُعَدَّ بارًّا لو صار سلاحًا لشخص بار ولو بغير إرادة، وبالمثل إنه يُعَدّ شريرًا لو صار سلاحًا لبعض الأشرار ولو من غير إرادة. كذلك صار ذلك الجبل مباركًا لنـزول كلام الله على موسى في بعض نواحيه. ما هي الميزة الذاتية في الكعبة حتى تُعتبر مكانًا مباركًا؟ إنما تلك الميزة أنها مكان قد نـزل كلام الله تعالى عنده، وقام أنبياء الله تعالى بالعبادة والدعاء قربَه، فنـزلت عليهم نعمه وبركاته . فالمكان الذي تنـزل فيه بركات الله على أحد يظل مباركًا على الدوام. بل الحق أن انتزاع البركة من الإنسان ممكن، لأنه إذا صار آثمًا متنكبًا عن سبيل الخير حُرم من بركة الله تعالى، ولكن الأشياء التي لا حياة فيها لا ترتكب الإثم، فإذا نـزلت فيها البركة من عند الله تعالى مرة ظلت مباركة على الدوام، ولا تُنـزع منها البركة أبدًا.

هذا، وإن هذه الجملة القرآنية تتضمن الإشارة إلى أن الوحي بجانب الطور كان جدَّ مبارك لموسى وقومه.

أما قوله تعالى وقرّبْناه نجيًّا فاعلم أن لفظ نجيًّا لـه ثلاثة معان: الأول: مَن تُسارُّه، والثاني: مَن تحدّثه، والثالث: السريع، يقال «ناقة نجيّة» أي سريعة (الأقرب).  ويمكن انطباق هذه المفاهيم الثلاثة كلها هنا كالآتي:

الأول: أننا قرَّبْنا موسى إلينا مِن خلال كلام سريّ، أي بإطلاعه على العلوم الروحانية ودقائق العرفان. علمًا أن الكلام السري لا يعني هنا التوراة، إذ لم تكن سرًّا مخفيًّا على الناس، وإنما نـزلت لكي يطلعوا عليها لأن الشرع إنما ينـزل لهداية الناس. فثبت أن لفظ نجيًّا هنا يشير فقط إلى الأمور التي اطلع عليها موسى دون الناس. ثم من الناحية العقلية أيضًا لا يمكن أن يسمى سرًّا إلا الشيء الخفي الذي لا يطلع عليه الآخرون. إذاً فالمراد من هذه الآية أننا قرّبْنا موسى إلينا، وتحدثنا معه بكلام لم يشرك معه فيه أحد. لقد كشفنا عليه علومًا روحانية، وتحدثنا معه حديث المحبة والأنس، وأعثرْناه على أسرارنا الخاصة.

إن هذه الجملة تتضمن الإشارة أيضًا إلى أن الذين يكشف الله عليهم أسرار الشرعِ أو الروحانيةِ يجعلهم من المقربين لديه .

الثاني: ويعني النجي أيضًا «مَن تُحدّثه»، وعليه فالمراد من قوله تعالى وقرّبْناه نجيًّا أننا قربّنا موسى إلينا عبر كلامنا معه. فأنـزل الله عليه التوراة التي انتفع بها الناس ألفي سنة.

الثالث: ومن معاني النجي «السريع»، فالمراد أننا قد اخترنا موسى، ثم قلنا لـه: تعال إلينا بسرعة، فجاءنا مسرعًا. كما سجل القرآن الكريم في موضع آخر قول موسى وعجِلتُ إليك ربِّ لترضى (طه: 85). كما يمكن أن يكون المعنى أننا قرّبناه إلينا مسرعين إليه.. أي أننا أمرناه بالإسراع إلينا، كما بدأنا نسارع إليه حبًّا وشوقًا إليه. وهذا المعنى مشابه لما ورد في الحديث الشريف بأن العبد إذا أتى اللهَ مشيًا أتى الله إليه هرولةً (مسلم،كتاب العلم، باب فضل الذكر). لقد بدأ موسى يجري إلى الله تعالى، كما أخذ الله يسرع إليه، حتى تم اللقاء.

وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (مريم 54)

التفسير:

ورد في موضع آخر في القرآن أن موسى دعا ربّه واجعَلْ لي وزيرًا مِن أهلي (طه: 30). أي هبْ لي مساعدًا من أقاربي. فاستجاب الله دعاءه ووهب لأخيه هارون أيضًا منصب النبوة. أما قوله تعالى هنا وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا فهو إشارة إلى أن طابع نبوة هارون مختلف عن طابع نبوة الأنبياء الآخرين، حيث قيل إن موسى مُنح هارون رحمةً من الله . وكأن مقام هارون من موسى – عليهما السلام – هو مقام الخادم والتابع من سيده.

لقد رأيت أن بعض حديثي العهد في جماعتنا حين يرون أفراد جماعتنا يقبّلون يدي يتساءلون: أليس تقبيل الأيدي شركًا؟ ويثار هذا السؤال خاصة من قبل الإخوة الجدد القادمين من فرقة «أهل الحديث». مع أن الثابت من الحديث بكل جلاء أن الصحابة أيضًا كانوا يقبّلون يد الرسول

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (مريم 55)

التفسير:

هنا قد عاد الله تعالى بالحديث كله إلى إسماعيل ثانية، لينبه أن السلسلة المسيحية ليست سلسلة مستقلة، وإنما هي حلقة من السلسلة الموسوية. وكانت السلسلة الموسوية وثيقة الصلة بإبراهيم الذي كان لـه ابنان إسماعيل وإسحاق. وكان ثمة وعد من الله لإبراهيم بأنه تعالى سيبارك في إسحاق ونسله، وسينجز وعده من خلال إسحاق. كما كان هناك وعد من الله تعالى لإبراهيم في حق إسماعيل بأنه تعالى سيباركه وسيكثّره، ويجعله أمة كبيرة. وتكشف لنا التوراة أيضًا أن هذا العهد الإبراهيمي سيتحقق من خلال الولدين كليهما وإن كان إنجازه سيبدأ على يد إسحاق أوّلاً. ومن أجل ذلك قد بدأ الله تعالى الحديث في هذه السورة بذكر إبراهيم أولاً ثم إسحاق. ثم بعد ذلك تحدث عن موسى تنبيهًا للنصارى إلى أن عيسى لم يكن إلا بمثابة حلقة أخيرة من إحدى السلسلتين لنسل إبراهيم، فكيف ترفعون المسيح إلى السماء ظانين أن المخلص الأخير الموعود للدنيا قد أتى في شخصه. إنكم تعرفون أننا وعدنا إبراهيم في حق إسحاق وأيضًا في حق إسماعيل. وقد أنجزنا وعدنا الخاص بنسل إسحاق، وجاء المسيح إلى الدنيا كآخر حلقة من سلسلة ذلك الوعد. ويجب عليكم الآن أن تتذكروا الابن الآخر لإبراهيم. ألم يكن لزامًا علينا أن ننجز ما وعدْنا إبراهيم في حق هذا الابن أيضًا؟ لقد بعثنا نبيًّا عظيمًا كموسى إنجازًا لوعدنا في حق بني إسحاق، أما الآن فقد حان إنجاز الوعد الخاص بإسماعيل، فبعثنا من نسله محمدًا رسول الله .

باختصار قد ذكر الله تعالى إسماعيل هنا للإشارة إلى الظهور الثاني لتحقُّق الوعود الإبراهيمية، حيث نبه المسيحيين أن اعتبار ما تزعمونه عن المسيح صحيحًا يماثل إلغاءَ وعود الله تعالى في حق إسماعيل، وضياعَ الأدعية الإبراهيمية، مع أن الله تعالى قد قطع مع إبراهيم الوعود من نوعين: وعود في حق إسحاق ووعود في حق إسماعيل. وبتعبير آخر، قد وعد الله تعالى إبراهيم بسلسلتين من البركات من نسله، واحدة من بني إسحاق، وأخرى من بني إسماعيل. وبرغم أن إسماعيل كان ابنه الأكبر إلا أن الله تعالى أخبره أنه سيبدأ إنجاز وعده بواسطة إسحاق. فبدأت السلسلة الأولى من تلك البركات من خلال بني إسحاق، فوهبهم الله الحُكم والنبوة لمدة ألفي عام. ولو أن هذه البركات الإبراهيمية انتهت عند المسيح لصار وعد الله تعالى في حق إسماعيل باطلاً كلية. فقول النصارى أن المسيح قد نال مقامًا انتهت عنده بركات العهد الإبراهيمي يخالف التوراة مخالفة صارخة. فعليهم أن يتّجهوا الآن إلى السلسلة الأخرى من بركات إبراهيم التي بدأناها من نسل ابنه الثاني إسماعيل.

أما قوله تعالى إنه كان صادقَ الوعد وكان رسولاً نبيًّا فهو بمثابة تعنيف شديد للمسيحيين واليهود، حيث بين الله تعالى لهم أن إسماعيل كان صادق الوعد في رأيكم، ولكني لست صادق الوعد عندكم. كان إسماعيل على أهبة الاستعداد دائمًا لأن يضحي بحياته في سبيلنا، وذلك بحسب اعترافكم حيث ورد في الكتاب المقدس نفسه: «يدُه على كل واحد، ويدُ كل واحد عليه. وأمامَ جميع إخوته يسكُن» (التكوين 16: 12). أي أنه سيقضي حياته كلها تحت ظلال السيوف، وسيظل دائمًا في حرب ضد إخوته في سبيل الدين. كما ورد فيه أيضًا:

«وكان الله مع الغلام فكَبُرَ» (التكوين 21: 20). وهذا يعني أن الكتاب المقدس نفسه يشهد على أن إسماعيل قد مر بظروف حالكة السواد ومع ذلك لم يترك ربَّه . فما دام إسماعيل قد بلغ هذه الدرجة من التضحية في سبيل الدين، وظل مستعدًا لأن يلقي نفسه في الأخطار والمهالك ابتغاء مرضاة الله تعالى، فهل تريدون، يا أتباع المسيح، أن أخذل مثل هذا الإنسان العظيم، ولا أحقق الوعود التي قطعتُها في حق أولاده، رغم أنه كان رسولاً نبيًّا[؟ أي لقد بعثتُه إلى الدنيا، وأخبرتُ بواسطته بعض الأنباء. وكأنه تعالى يعلن هنا أن النبوءات التي أخبرتُ بها في حق إسماعيل أخبار مزدوجة، حيث وعدتُ إبراهيم أولاً بالبركة في نسل إسماعيل، ثم أكدت هذا الوعد ثانية فيما أوحيت إلى إسماعيل نفسه الذي كان صادق الوعد. فهل تريدون مني، أيها النصارى، أن أخلف هذه الوعود، فأكذّب إبراهيمَ، وأكذّب إسماعيلَ الذي كان صادق الوعد، كما أكذّب نفسي أيضًا؟   (يُتبع)

تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via