سيرة المهدي - الجزء 2 الحلقة 42

سيرة المهدي – الجزء 2 الحلقة 42

مرزا بشير أحمد

مقدار طعامه

لقد ورد في القرآن الكريم عن الكفار: يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ (محمد 13) وورد في الحديث الشريف: «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ.» (البخاري، كتاب الأطعمة)

والمراد من ذلك أن المؤمن يأكل الطيب ويأكل أقل بكثير من أهل الدنيا أو من الكافر. فإذا كانت هذه حالة المؤمن فما بال الأنبياء والمرسلين عليهم السلام. لم يكن يتوفر على مائدة النبي إلا طبيخ واحد فحسب بل كان السويق أو التمر أو قدح من الحليب هو غذاؤه. وعملا بهذه السنة كان حضرته أيضا قليل الأكل جدًّا لدرجة يندهش مَن يرى كمية الطعام الذي كان حضرته يتناوله بالمقارنة مع العمل والسعي الذي كان يقوم بهما ليل نهار، ولا بد أن يقول عفويًا كيف يمكن له البقاء على قيد الحياة بهذا القدر القليل من الطعام. لم يكن حضرته يأكل الطعام ملء بطنه مهما كان الطعام لذيذًا وشهيًّا، ومهما اشتد جوعه. كان عمومًا يتناول وجبتين يوميًا، وإذا كان معتل الصحة فكان يكتفي بوجبة واحدة فقط في النهار كله. إضافة إلى ذلك كان أحيانًا يفطر صباحًا بكوبٍ من الشاي. وبحسب مشاهدتي لم يكن حضرته مشغوفًا بالأطعمة اللذيذة والشهية.

وقت تناوله الطعام

كان حضرته يتناول الوجبة الصباحية عمومًا ما بين الساعة العاشرة إلى أذان الظهر، ووجبة العشاء من بعد صلاة المغرب وحتى قبل وقت النوم. ونادرًا ما تناول حضرته غداءًا بعد الظهر. لم يعتد على تناول الوجبة المسائية قبل المغرب عمومًا إلا أنه أحیانًا نادرة كان يتناولها قبل المغرب أيضا. كان يعتاد على تناول العشاء في موعدين مختلفين؛ كان يتعشى في بيته بعد صلاة العشاء في الأيام التي كان يظل خارج البيت إلى ما بعد صلاة المغرب والعشاء، وإلا فكان يتعشى عمومًا بين المغرب والعشاء.

ظل حضرته إلى مدة طويلة يتناول الطعام مع الضيوف على مائدة تقام في الغرفة المستديرة أو في المسجد المبارك حيث كان الخواص من الضيوف يجلسون معه على تلك المائدة، وهم أولئك الذين كان حضرته يحدد أسماءهم. كان عدد الضيوف على تلك المائدة يترواح بين العشرة إلى عشرين أو خمسة وعشرين تقريبًا.

وإذا أكل حضرته في البيت فأحيانًا كان يتناول الطعام لوحده إلا أنه في معظم الأحيان كان يأكل مع أم المؤمنين أو أحد الأطفال أو كلهم. وكنت أنا أيضا أحظى بشرف الجلوس على هذه المائدة العائلية عند وجودي في قاديان.

كان يتناول السحور في البيت دومًا لوحده أو مع رجل أو رجلين موجودين في البيت إلا إذا أكل خارج البيت فلم يكن يأكل مع أحد في إناء واحد. لم يكن هذا ما أمر به حضرته ولكن الخدام كانوا يقدمون له الطعام في أواني منفصلة احترامًا له، والضيوف الآخرون أيضا يأكلون في أواني منفصلة عمومًا ما عدا بعض المناسبات الخاصة.

كيف كان يتناول الطعام؟

إذا كان حضرته في المجلس فعند إقامة المائدة أو وضع الطعام على السفرة أمامه كان يسأل قائلا: هل نبدأ؟ وكان يقصد بذلك السؤال عن وصول الجميع وأنه لم يتخلف أحدهم عن مائدة الطعام، أو أن الطعام قد وُضع أمام الجميع أم لا؟ وبعد تلقي الجواب كان يبدأ تناوله بتمهل وبطء وبتمضيغ. وأثناء تناوله الطعام كان أحيانًا يتكلم أيضا حول مواضيع شتى. كان حضرته يتناول كمية ضئيلة جدًّا من الطبيخ. وإن وُضع أمامه في مأدبة ما طبختان أو ثلاثة أخذ واحدةً منها فحسب، وكان يظهر من إناء الطبيخ الذي يؤخذ من أمامه بعد انتهائه من الطعام وكأنه لم يمسسه ولم يأكل منه شيئًا. لم يكن حضرته معتادًا على أكل اللحم الكثير أو الخضار الكثيرة بل في معظم الأحيان يمس الخبز بالحساء ويأكله.

كان يأخذ لقمة صغيرة، بل كان يقطع الخبز قطعًا صغيرة -وهو ما كان يعتاد عليه- فكان عند قيامه من المائدة يترك عليها فتات الخبز الكثيرة وكان الناس يأخذونها تبركًا ويأكلونها.

كان قليل الأكل جدًّا بحيث كان يقدّم له الطعام بقدر ما كان يقدّم للضيوف الآخرين إلا أن المكان الذي يظل الطعام موجودًا فيه أكثر من الجميع هو مكانه.

لوحظ أحيانًا أنه كان يضع في فمه لقمة من الخبز الجاف ثم يرطب رأس إصبعه بالشوربة ويمس به لسانه من أجل تمليح اللقمة.

وفي الأيام التي كان يتناول الوجبة الصباحية في بيته، كان يحب أكل الخبز من دقيق الذرة مع طبيخ «ساغ»*، أو مع كأس من العيران أو شيء من السمن، وأحيانًا كان يأكل الخبز بشيء من المخلل فقط.

لم يكن حضرته يأكل من أجل التمتع بلذة الطعام إنما كان يأكل ليتقوى على عمله. وكثيرا ما كان يقول بعد تناول الطعام: لم أذكر بعد الأكل ما الذي طُبخ وما الذي أكلته؟

لم يكن حضرته يعتاد على امتصاص العظام من الطعام وأخذ اللقمة الكبيرة وإصدار الصوت أثناء مضغ الطعام أو التجشع أو لعق أواني الطبيخ أو الكلام الكثير عن الطعام، بل لم يكن معتادًا على مدح الطعام وذمّه وعلى ذكر ملذاته بل كان يأكل كل ما كان يطبخ.

كان أحيانًا يتناول كأس الماء أو كوبًا من الشاي باليد اليسرى ويشرب وكان يقول: لقد أصيبت يدي اليمنى في الصغر بصدمة لدرجة فإنها لا تقوى على حمل أشياء ثقيلة.

لم يكن يأكل جالسًا القرفصاء بل كان يتربع في جلوسه أو يُثني رجله اليُسري ويقيم اليمني.

ماذا كان يأكل؟

وكما ذُكر أنه كان قصده من تناوله الطعام هو كسب القوة للعمل وليس التلذذ والتمتع به، لذلك كان يأكل ما كان يوافق طبعه وما يساعد على المحافظة على القوة الذهنية وذلك حتى لا يقع أي حرج في أعماله. ولكنه كان بشكل عام يأكل كل الطيبات إلا أنه بحكم تعرضه لبعض الأمراض كان يضطر للامتناع عن أكل بعض الأطعمة، لا شك أنه كان يُسأل يوميًا عما يريد أكله ولكن الحق أنه كان يأكل بقدر حاجته أيًّا كان نوع الطعام.

لم يُظهر حضرته سخطَه قطّ إذا كان الطعام غير لذيذ. وكلّما أبدى عدم إعجابه لطبيخٍ ما فإنما أبداه من أجل الضيوف قائلا: لعل الضيوف لم يعجبوا بهذا الطعام.

كنز المعلومات الدينية

كان السيد المفتي محمد صادق – رئيس تحرير جريدة «بدر» الصادرة في قاديان- موجودا يوم وفاة المسيح الموعود في لاهور، وأفاد بخصوص حادثة وفاة المسيح الموعود وتكفينه وإحضار جثمانه الطاهر من لاهور إلى قاديان بما يلي: لقد وافتْه المنية في الساعة العاشرة تقريبا في منـزل الدكتور محمد حسين شاه – من سادة لاهور- وقد فرغنا من غسله وتكفينه في الساعة الثانية عشرة تقريبا، وفي الساعة الثالثة صلّى عليه عدد كبير من أفراد الجماعة، وظل الأحمديون وغيرهم يتوافدون على المنـزل لإلقاء نظرة أخيرة على إمامهم المفدى حتى الساعة الرابعة، ثمّ حَملتْ جماعة كبيرة جنازتَه إلى محطة القطار، فوُضع جثمانه في القطار الذي ينطلق في الساعة السادسة إلا الربع من لاهور إلى مدينة بطالة، حيث توجد أقرب محطة قطار إلى قاديان، كما ركب فيه أهل بيت المسيح الموعود وجميع أفراد الجماعة الموجودين هناك، وفي الطريق انضم إلى هذا الركب عدد من أفراد الجماعة من مدينة أمرتسار. لقد وصل القطار إلى بطالة في الساعة العاشرة ليلا، وفي الساعة الثانية صباحا، حمل العشاق جثمانه على أكتافهم وقطعوا مسافة 12 ميلا – في ست ساعات- مشيا على الأقدام، إذ وصلوا إلى قاديان في الساعة الثامنة صباحا، وهكذا تحقق ذلك الوحي الذي نزلَ على المسيح الموعود في 7/3/1907م ونشر في الجرائد المختلفة سابقا، وتعريبه:

«جاءوا بجثمانه ملفوفا في الكفن».

وفي قاديان وُضع جثمانه في البستان المجاور لـ «بهشتي مقبرة»، وأتيحت للناس فرصة لإلقاء نظرة أخيرة على سيدهم الحبيب.

وفي ظل هذه الظروف نشأ السؤال عن الخلافة، ومن سيكون الخليفة؟ وبحسب المشيئة الإلهية؛ كانت قلوب أهل البيت وكبار الجماعة والعامة منهم ميالة إلى سيدنا نور الدين ، لأن قلوب الجميع كانت تحت تأثير عميق من الإنابة إلى الله تعالى بسبب وفاة سيدنا المسيح الموعود ، فاستولت على الجميع حالة من الروحانية. فبعد وفاة سيدنا المسيح الموعود وجَد كل أحمدي نفسه مثل اليتيم الذي لا حول له ولا قوة، وخرّ على عتبة الله سائلا ومتضرعا في حضرته ليرشد الجماعة وينصرها ويؤيدها من الغيب. ومع أن الجميع كانوا يرون سيدنا نور الدين وحده مؤهلا لهذا المنصب الجليل، ولكنّ أصحاب سيدنا المسيح الموعود كلهم كانوا يشعرون بوطأة لا تطاق من الألم والحزن الشديدين ما لم يتم الانتخاب. ومن جانب آخر كانوا عاكفين على الأدعية والتضرع إلى الله ، حتى أن تضرعاتهم هزت أركان العرش الإلهي. لا شك في أن قلب كل شخص في ذلك اليوم كان في الحقيقة مليئا بخشية الله تعالى. ومع كل المحاولات لضبط النفس كانت تأوهات الناس تتصاعد إلى السماء بصورة عفوية، وقد لا توجد في العالم أمٌّ تكون قد اضطربت وتأوهت إلى هذا الحد على وفاة وحيدها. ولهذا السبب كانت القلوب خالية تماما من رغبات النفس، وكل واحد كان يتطلع إلى أن تجتمع الجماعة على الفور على يد شخص مقدس وطاهر ومؤيد من الله تعالى، وتنخرط مجددا في سلك الوحدة والاتحاد.

يقول صحابة المسيح الموعود القدامى: إن سيدنا نور الدين شعر بصدمة وحزن شديد على وفاة سيدنا المسيح الموعود أكثر من غيره، فقد كان كثيرا ما يقول وبصورة عفوية: إن الدنيا بعد وفاة سيدنا المسيح الموعود تبدو كجسم بلا روح.

يقول السيد محمد سَرْوَر شاه المحترم:  «بتاريخ 27/5/1908م حين جاء شيخ رحمة الله، والدكتور مرزا يعقوب بيك، والدكتور سيد محمد حسين وغيرهم إلى قاديان، كان الفصل صيفًا وحارا جدا. فاجتمعوا في حديقة السيد مرزا سلطان أحمد القريبة من قاديان، وكلِّفتُ أنا بخدمتهم والاهتمام بشئون ضيافتهم، فجئت بهم جميعا من الحديقة إلى المدينة. ودبّرت لهم مكانا للجلوس في باحة الطابق الأسفل من بيت نواب محمد علي خان وقدمت لهم الضيافة بحسب مقتضى الظروف.

قام الخواجة كمال الدين خطيبًا بين الناس، وألقى كلمةً مثيرةً للعواطف ملخّصها: «… جاء شخص مناديًا من الله تعالى، فنادى الناسَ باسم الله، فلبّينا نداءه، واجتمعنا حوله، ولكنه قد غادرنا الآن ولحق ربه. والسؤال الذي ينشأ الآن هو: ماذا يجب علينا فعلُه في هذا الوقت؟

إن كلمته وأسلوب خطابه كان مليئا بالحزن ورقة القلب، فسادَ المجلسَ كله صمتٌ ووجومٌ. حتى خرق الشيخ رحمة الله الصمت في نهاية المطاف فقام وقال بلهجة بنجابية صرفة ما فحواه:

«لقد قلتُ مرارًا أثناء سفري إلى قاديان، وأقول مرة أخرى: عليكم أن تقدِّموا هذا العجوزَ (المولوي الحكيم نور الدين ) لحمل هذا العبء، وإلا لن تبقى لهذه الجماعة باقية».

ولدى سماع هذا الرأي من السيد شيخ رحمة الله، لزم جميع كبار الجماعة الصمت، وهكذا صدّقوا ورضوا بما قال، ولم ينكره أحد ولم يعترض».

* تنويه: كان قد نُشر في عدد الشهر الماضي يوليو 2019 صورة مرقد الخليفة الأول سيدنا نور الدين القرشي على أنه مرقد سيدنا المسيح الموعود ،  وقد تم تدارك الخطأ في النسخة الإلكترونية على موقعنا، وها نحن في هذا الإصدار ننشر الصورة الصحيحة.. فنتوجه بالشكر إلى جميع الإخوة الأفاضل الذين لفتوا انتبهانا إلى هذا الأمر.
Share via
تابعونا على الفايس بوك