حياة المسلم في عصر السرعة

حياة المسلم في عصر السرعة

سامح مصطفى

كاتب وشاعر
  • فكيف ينبغي على المؤمن أن يعيش في عصر السرعة هذا؟!
  • وما قيمة الصلاة والدعاء في هذا المقام؟

___

كلما تقدم بنا الزمان فإن وتيرة الحياة تصبح أسرع فأسرع، وما كان في الماضي يُنجز في أعوام، يتم إنجازه اليوم على الوجه الأكمل في غضون أشهر قلائل أو أيام، ولا شك أن هذا يُعد من مزايا أن يولد المرء في هذا العصر. ولكن، ألا يمكن أن يكون وراء هذه المزية وجه آخر قبيح؟!

عصر يزداد تسارعا

يُطلق على عصرنا الحالي اسمَ عصر السّرعة، لِما نرى فيه من تغيرات وأحداث على مدار السّاعة، فلجأ النّاسُ إلى أنماطٍ معيشيّةٍ تتناسب مع حياتهم وعجلتِها الدّائرة دون توقّف مثل لجوئهم إلى الوجبات السريعة، والقطار السّريع، والإنترنت السّريع، وشاحن الجوّال السّريع إلى غير ذلك.. لقد بتنا نعد هذه الأمور من رفاهيات الحياة العصرية، غير أن الأمر إلى جانب الرفاهية المنشودة انطوى على خطورة متمثلة في دخول هذه الحالة إلى لبِّ مجاهداتنا لتجعلها مجاهدات سريعة أيضًا! حيث ترى الكثيرين حين يحلّ وقت الصّلاة يقومون بأدائها فرادى مسرعين، وكأنّها عبءٌ ثقيل يسارعون إلى أدائه ليرتاحوا منه، بينما كان رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ»(1). وتكمن خطورة هذا الوضع وهذه المشاعر في نزوع الآباء إلى الاكتفاء بالصّلاة الفرديّة وعدم لفت أنظارهم إلى ضرورة انتظام الأسرة في صلاة جماعيّة، فترى أفراد بعض الأُسر حريصين على تأديةِ الصّلوات، ولكن كلٌّ على حدةٍ، في عصر السّرعة هذا! الأمر الذي يجعل من الصلاة تقدمة هزيلة لا تليق بأن تقدم بين يدي المولى عز وجل،

و«إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا»(2)،

مع أننا لو رجعنا بالزمن إلى الوراء بعض الشيء لوجدنا الحث على صلاة الأسرة على الصلاة جماعة ديدن النبيين، يقول ذاكرا حضرة إسماعيل :

وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (3)،

كما ووجه الله تعالى هذا الأمر إلى عموم الأمة في قوله :

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (4)،

وكأننا في خضم عصر السرعة هذا ابتغاء الرزق المادي نتلقى رسالة فورية من الرزاق الكريم مفادها أن الرزق من اختصاص ذلك الإله الرزاق الذي نصلي له.

فالآن أتبدو مثل هذه الصّلاة الفرديّة السريعة مقبولة وتحقّق الغاية المنشودة منها؟! أوَيُعتبر مؤدّيها موفّقًا في عمله، رغم حرصه على أداء الفروض في أوقاتها وتذكير أبنائه بها مُسْقطًا عن كاهله واجب حثهم على إقامتها جماعةً؟! هذا ما سنتبيَّنه من كلام المصلح الموعود ، حيث فصّل لنا في التفسير الكبير الفرق الجوهري بين أداء الصّلاة وإقامة الصّلاة، وأيّهما المقبول عند الله تعالى، وكذلك بيّن أمورًا عدة نأمل أنْ تُغيّر حياة القارئ، فلنستقِ من أنوار تفسير المصلح الموعود ما يتعلّق بمعنى إقامة الصّلاة في قوله تعالى:

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. (5)،

يقول حضرتُه: «كما أنّ عبارة «يقيمون الصّلاة»  تشير إلى المتّقين الذين يحضّون الآخرين على الصّلاة، لأنَّ الحض على الصّلاة وترغيب النّاس فيها هو أيضًا من إقامة الصّلاة، فالمتّقون المتّصفون بهذه الصفة لا يكتفون بإقامة الصَّلاة بأنفسِهم، بل يستمرّون في حثّ النّاس عليها…تنشيطًا للكسالى وتذكيرًا للسّاهين. والذين يتطوّعون لإيقاظ النّاس لصلاة التّهجد هم أيضًا من الذين يُقيمون الصّلاة. وإقامة الصّلاة أيضًا هي الإقامة المعروفة التي يُعلن بها بدءُ الصّلاة، وهي إشارة إلى صلاة الجماعة. ولكنّ المسلمين عامّة، ببالغ الأسف، قد أغفلوا ضرورة صلاة الجماعة، وهذا من أعظم ما دفعهم إلى الانشقاق والتّفرقة. معَ أنّ الله قد جعل لهذه العبادة منافعَ فرديّة وبركاتٍ اجتماعيّة. فقوله:

…وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ…

يعني أنّ المتّقين يحافظون على صلاة الجماعة، ويدعون النّاس إليها. وليكن معلومًا أنّه أينما ورد في القرآن الكريم الأمر بالصّلاة كان بصيغة «أقيموا الصّلاة»، ولم يكن بصيغة «صلّوا» وهذه دلالة على أنَّ الأصْل في الصّلاة أنْ تكونَ جماعةً، وأنّها أهم أركان الإسلام»(6).

ولو أنّنا تأملنا آيات سورة الفاتحة التي هي بمثابة أساس لصلواتنا كلّها نلاحظ أنّ الدعاء فيها يرد على لسان المؤمنين بصيغة الجمع كالآتي:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. (7)،

فيفهم ضمنا من هذه الآيات الكريمة أن هذا دعاءٌ جماعي يُؤدّى خلال صلاة جماعيّة. وقد يتساءل البعض: متى تجوز الصلاة بشكل فردي؟! فيجيب حضرة المصلح الموعود على ذلك التساؤل بقوله: «والذي لا يُصلّي مع الجماعة بدون عذرٍ من مرض أو بُعدٍ عن القرية أو سهوٍ أو عدم وجود مصلٍّ آخر، فإنّه وإن أدّى صلاته في بيته فلا تُعتبر صلاته صلاة، بل يُعتبر تاركًا لها، ومن يمكنه أداء الصّلاة في جماعة، ثمّ يتركها فذنبه مثل ذنب الذي يُصلّي قاعدًا وهو قادر على القيام»(8).  فلتحرص كلُّ أسرةٍ على إقامة الصّلوات، أي صلاتها في جماعة دون تفريط في هذا الأمر، ولتقُمْ الأمّ بهذه المهمّة في حال غياب الأب فتجمعُ أبناءها لإقامة الصلوات في جماعة بنشاطٍ وانتباه نافضين عن أنفسهم ثوب الغفلة والكسل. ولننشئ جيلًا مُلتزمًا بالصّلاة، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :

«مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»(9)..

مهلا! فلا يتبادرن إلى الأذهان وقوع تناقض ما بين الأمرين، أعني من ناحية أن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، بينما من ناحية أخرى يأمرنا سيدنا النبي الخاتم هاهنا بضرب من لا يقيم الصلاة من الأولاد إذا جاوزوا سن العاشرة. وفي الواقع ليس ثمة تناقض هنا، وإنما هو مجرد سوء فهم لماهية ذلك الضرب الوارد في التوجيه النبوي، ويماثل سوء فهم المستشرقين لقوله تعالى

… وَاضْرِبُوهُنَّ… (10)،

الأمر الذي يدعو لبعض الاستفاضة في بيانه، ولو اضطررنا إلى الابتعاد قليلا عن الحديث في عصر السرعة التماسا لبعض الراحة على الطريق.

لقد بتنا نعد هذه الأمور من رفاهيات الحياة العصرية، غير أن الأمر إلى جانب الرفاهية المنشودة انطوى على خطورة متمثلة في دخول هذه الحالة إلى لبِّ مجاهداتنا لتجعلها مجاهدات سريعة أيضًا! حيث ترى الكثيرين حين يحلّ وقت الصّلاة يقومون بأدائها فرادى مسرعين، وكأنّها عبءٌ ثقيل يسارعون إلى أدائه ليرتاحوا منه، بينما كان رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ»(1).

استشفافا لمعنى الضرب

لما كانت معاني ألفاظ القرآن تُستخلص من القرآن نفسه، فإننا بتتبع معاني كلمة «ضرب» نجد أنها تشير في أغلب السياقات الواردة فيها إلى المفارقة والمباعدة والانفصال والتجاهل، خلافا للمعنى المتداول الآن لكلمة «ضرب»، فمثلا الفعل الحركي الذي يسفر عن أذى، إذا كان باستعمال عصا يُعبر عنه بلفظ «جلد»، وإذا كان على الوجه يعبر عنه بلفظ «لطم»، وإذا كان على القفا يعبر عنه بلفظ «صفع»، وإذا كان باستعمال قبضة اليد يسمى «وكز»، أما إذا كان باستعمال القدم فيسمى «ركل»، فكل هذه الألفاظ وردت على ألسنة العرب للدلالة على أفعال حسية بهدف الإشعار بالأذى البدني بقسوة أو برفق، ومع هذا لم تتضمن جملة التعبيرات الواسعة تلك لفظ «الضرب» بتاتا، الأمر الذي نستنتج منه أن الضرب لا يعني أي إيذاء حسي يطال الجسد. فما دلالة لفظ «الضرب» إذن يا ترى؟!

في المعاجم العربية وكتب اللغة والنحو هناك سياقات عديدة للضرب، منها ما يشير إلى معنى المباعدة والانفصال مثل:«ضرب الدهر بين القوم» أي فرّق وباعد بينهم، و«ضرب عليه الحصار» أي عزله عن محيطه، و«ضرب عنقه» أي فصلها عن جسده، و«مضارب القوم» معسكرهم الكائن في مكان منفصل عن القوم الآخرين. ومن معاني الضرب ما ورد في سياق التعبير عن التجاهل وعدم الاكتراث، مثل «ضرب بالأمر عرض الحائط» أي تجاهله. ومن المعاني ما ورد غي سياق التعبير عن التكرار، كـ «ضرب المثل» أي تكرار إطلاق القول على موقف مشابه لموقف سابق، وفي علم الحساب والرياضيات «جدول الضرب» أي جدول تكرار الجمع، لأن الضرب هو الجمع المتكرر.. تلك أقوال المعاجم العربية المعتبرة، نقلناها مختصرة تحاشيا للإطالة في عصر السرعة هذا.

فضرب الأولاد الذين لا يؤدون حق الصلاة إذن وضرب الزوجة الناشز، كلاهما إجراء تربوي حكيم، وبعيد كل البعد عن الإيذاء، لأن دينا يأمر أتباعه بإحسان معاملة الدواب، لا بد وأنه يحفظ للإنسان، مهما أخطأ، كرامته! أم في ذلك شك؟! وإذا كانت الصلاة عماد الدين وركنه الركين، ومبدأ القرآن الثابت والعام هو أن

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ… (11)،

فكيف يُفهم أن ضرب الأولاد لإكراههم على الصلاة يعني إيذاءهم بدنيا؟! إنه لأمر تمجه الفطرة السوية والعقل السديد، مما يعني أن الله تعالى لا يأمر بمثله أبدا، لأنه عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا. ناهيك عن أن سيدنا المسيح الموعود كان قد نهى عن ضرب الأولاد الذي يُقصد به إيذاءُهم بدنيا، حتى على أمور الدنيا، باعتبار أن هذا التصرف ضرب من ضروب الشرك، وكان سيدنا المسيح الموعود يعارض بشدة فكرة ضرب الأطفال وزجرهم وتوبيخهم، فحتى على فرض أن الضرب يتضمن ذلك المعنى الحسي، فإنه في السياق القرآني والنبوي أيضا لا يعني الإيذاء البدني بقدر ما يعني التربيت بلطف، وقد شرح معناه سيدنا مرزا طاهر أحمد (رحمه الله) بقوله: «يحب أن يكون هذا الضرب خفيفا مثل ضرب الكف مرة أو مرتين على الظهر، وليس الضرب القاسي بالعصا وغيرها من الأشياء….»(12).

 

وعودة إلى عصر السرعة

تُعتبر الصّلاة أفضل الأدعية، فكم من البركات ستتنزّل عند الحرص عليها وتأديتها بشكلٍ جماعي، حيث يقول المسيح الموعود :

«إذا أردتم أن تعيشوا بخير، وأن يسودَ بيوتكم الأمان، فمن واجبكم أن تدعوا الله تعالى كثيرًا، وأن تملؤوا بيوتكم بالأدعية، فإنَّ الله لا يُدمّر بيتًا يُداوَم فيه على الدُّعاء»(13).

فكيف تسرّبَت إلينا فكرة تأصّل الصّلاة الفرديّة وحلولها مكان الصّلاة الجَماعية التي أصبحت أمرا استثنائيا في كثيرٍ من بيوتِ المسلمين؟! على الرّغم من أنّ آيات الله تعالى كلّها تؤكّد على الصّلاة الجماعيّة كقوله تعالى:

الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (14).

وختامًا كما نحرصُ في عصر السّرعة على تجنّب الوجبات السّريعة ولا نلجأ إليها إلا عند الضّرورة فلا نلجأنَّ إلى الصّلاة الفرديّة إلا على سبيل الاضطرار كذلك، ولننتظم في صفوف جماعيّة نقيم فيها صلواتٍ ملأى بالمحبّة والنّشاط تجذبُ إلينا عنايةَ الله تعالى ورحمته.

الهوامش:

  1. (سنن أبي داوود، كتاب الأدب)
  2. (صحيح مسلم، كتاب الزكاة)
  3. (مريم: 56)
  4. (طه: 133)
  5. (البقرة: 4)
  6. التفسير الكبير الجزء الأوّل ص58
  7. (الفاتحة: 5-7)
  8. التفسير الكبير الجزء الأوّل ص58
  9. (سنن أبي داوود، كتاب الصلاة)
  10. (النساء: 35)
  11. (البقرة: 257)
  12. من خطاب لسيدنا الخليفة الرابع حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله) للسيدات في الجلسة السنوية بألمانيا، بتاريخ 25 أغسطس 2001. الملفوظات ج3 ص232
  13. (المعارج: 24)
تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via