- فكيف كانت النزعة الاستهلاكية وليدة الحياة المادية؟
- وكيف ساعد الإعلام المعاصر على إذكاء النزعة المادية؟
- وهل يمكن أن تُزْرِي متعة الاستهلاك الفورية بصحتنا العقلية؟
- وهل تشكِّل تعاليم الإسلام بالفعل ملاذًا من جحيم المادية؟
- فما دور شريعة الإسلام في ضبط عمليتي الاستدانة والإقراض؟
___
دوران في الحلقة المفرغة
في الوقت الذي نشرع فيه في التطرق إلى الحديث عن التدابير الاقتصادية والمالية من جانب والمشكلات الصحية النفسية من جانب آخر قد يبدو للبعض بادي الرأي أننا بصدد الحديث في مجالين بينهما بعد المشرقين، غير أن هذا الظن يثبت بطلانه بعد الاطلاع على تفاصيل هذا المقال. فإن العلاقة بين الديون والصحة النفسية لا يمكن إنكارها، حيث يعمل الضغط المالي غالبًا كمثير خارجي للقلق والاكتئاب ومجموعة من الاضطرابات النفسية الأخرى.
كشف تقرير صادر عن المكتب البرلماني للعلوم والتكنولوجيا أن ما يُقدَّر بحوالي 14.6 مليون شخص بالغ في المملكة المتحدة يجدون صعوبة في التعامل مع أوضاعهم المالية، في حين يحمل 7.4 مليون شخص عبء الوفاء بالفواتير والالتزامات الائتمانية، الأمر الذي يشكِّل وقودًا سريع الاشتعال لأغلب مشاكل الصحة النفسية، وأولها القلق، وهو ما يتضح من حقيقة أن نسبة ثمان وخمسين بالمائة من المتورطين في الديون يعانون من قلق متوسط أو مرتفع، مقارنة ـ بنسبة سبع وعشرين بالمائة فقط من غير المتورطين فيها.(1)
ولا يتوقف الأمر عند القلق فحسب، إذ يتبلغ كارثية الأمر ببعض المدينين مبلغا يقدِمون عنده على الانتحار، فقد ورد في بعض التقارير أن في إنكلترا وحدها ما معدَّله أربعمائة وعشرين ألف شخص سنويا ممن تُثقِل كواهلهم أعباء الديون يفكرون في الانتحار بشكل جدِّي.(2) ولم يعد السبب خافيا بعد أن ثبتت العلاقة الطردية بين حجم الديون التي يتورط فيها المرء ودرجة ما يشعر به من اضطرابات نفسية. وهذا بحد ذاته قد يدفع المَدين إلى الانسحاب أو يمنعه من العمل بكامل طاقاته، فيعاني من صعوبات أكثر في حياته، مما يتسبب في المزيد من الضغوط المالية ويدخله في حلقة مفرغة من الديون المتزايدة والتدهور في الصحة النفسية.(3)
صنم المجتمع الغربي الحديث
تجتاح العالم خلال القرون الأخيرة وتحديدا منذ القرن الثامن عشر عادات وسلوكيات وتوجهات نفسية واجتماعية ما كان لها أن توجد لولا بيئة عصر الحداثة الذي افتتحته الثورة الصناعية(4). وفي القرن التاسع عشر بدأ الفكر الغربي يسلك توجهات علمانية بصورة مطردة، مع تراجع تأثير الدين على الحياة اليومية والسياسية، بحيث رأى الغربيون أن التوجهات الفلسفات التقليدية، وكذلك التوجه الديني المسيحي قد فقدت قدرتها على توجيه حياة الناس وتقديم إجابات على الأسئلة المُلحَّة عن الوجود والغاية منه، ورأى الألماني فريدريك نيتشة مثلا أن فكرة الإله كمصدر للمعنى والقيم باتت غير قابلة للاستمرار في عصر العلم والعقلانية.. لم تكن هذه الفكرة المسمومة مجرد فكرة عابرة، بل كانت سنَّة سيئة ما زال العالم كله بعامة والعالم الغربي بشكل خاص يتجرع مرارتها، فقد أحدثت فكرة التخلي عن الإيمان بوجود إله حي قيوم، أحدثت فراغًا وجوديًا عميقًا، سرعان ما جرى ملؤه بالنزعة المادية التي لا تؤمن إلا بالرخاء الاقتصادي وبالنزعة الاستهلاكية، ولم تلبث تلك النزعة المادية أن أصبحت حجر أساس المجتمع الغربي الحديث. ولا نستغرب حين نعرف أن القرآن الكريم حيثما ذكر الحياة الدنيا، فإنما عنى بوضوح تلك القيم المادية، وما الحياة الدنيا إلا وصف بليغ للمادة، وسيطرة رأس المال، ومظاهر الاستهلاك، وتسليع الإنسان والمرأة، والاتجار بالمرض، إلى آخر هذه القائمة السوداء من الأمور التي تجعل من الإنسان عبدا لشهواته.. نعم، إن تعبير «الحياة الدنيا» هو وصف بليغ للقيم المادية، والتي ذكرها القرآن قبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الآن، وقد تكرر ذكره في القرآن سبعا وستين مرة(5)، منها قوله تعالى:
إن بريق المادية غالبا ما يحجب جوهر تحقيق الذات، بحيث إن المرء الدائر في حلقتها يجد نفسه في مطاردة لا هوادة فيها لنمط حياة يفوق إمكاناته.
النزعة الاستهلاكية وليدة المادية أو هل الزَّبون دومًا على حق؟!
بتقدُّم الزمان، وتطوُّر المستحدثات، بدا أن الاستهلاك هو الدليل الحسي الأكثر ذيوعا على وجود الإنسان المعاصر وكينونته، بعبارة أخرى يمكننا القول بأن الاستهلاك أصبح أسلوبا متَّبَعًا لدى البعض في تعبيرهم عن ذواتهم، فعوضا عن مبدأ «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، أمسى الوضع رهين مبدأ «أنا أستهلك، إذن أنا موجود»، لا سيما بعد أن أصبح الاستهلاك نمطا حياتيا شائعا.
إن أحد المبادئ الأساسية للنظرية الاقتصادية الحديثة هو مفهوم «سيادة المستهلك»، أو ما اعتدنا على ترجمته إلى عبارة «الزَّبون دومًا على حق»، وتستند هذه الفكرة إلى أن للأفراد الحرية في اتخاذ قرارات الشراء بناء على خياراتهم الخاصة، مما يشير إلى أنهم الأجدر لمعرفة ما هو في مصلحتهم. كما يمكن للمستهلكين تنظيم خياراتهم المفضلة وتحديد أولوياتها بشكل فعال. وفي سياق النظام الرأسمالي، يتماشى هذا الإطار مع فكرة أن الطبيعة البشرية أنانية، مما يعني أن الأفراد سيتصرفون بطرق تعظّم مكاسبهم الشخصية.
ولم يعد السبب خافيا بعد أن ثبتت العلاقة الطردية بين حجم الديون التي يتورط فيها المرء ودرجة ما يشعر به من اضطرابات نفسية. وهذا بحد ذاته قد يدفع المَدين إلى الانسحاب أو يمنعه من العمل بكامل طاقاته، فيعاني من صعوبات أكثر في حياته، مما يتسبب في المزيد من الضغوط المالية ويدخله في حلقة مفرغة من الديون المتزايدة والتدهور في الصحة النفسية
الإعلام المعاصر خادم النزعة المادية المطيع
للمؤسسة الإعلامية دورها الخطير في تعميق وتعظيم النزعة المادية ومظاهرها الاستهلاكية، إلى جانب دور المؤسسة التمويلية بطبيعة الحال.إذ يجري تعزيز النزعة الاستهلاكية بشكل كبير من خلال الحملات الإعلانية الواسعة التي أصبحت فنًا بحد ذاتها. ومن الناحية النفسية، غالبًا ما يقاد المستهلكون إلى نهل شعورهم بقيمة ذاتهم من امتلاكهم لأغراض جديدة مقارنةً بمن في دوائرهم الاجتماعية. لكن نظام القيم هذا له عواقب اجتماعية ضارة لأنه يميل إلى تهميش أولئك الذين يفشلون في الحصول على أحدث السلع التي يمتلكها أقرانهم وجيرانهم. هذا يخلق دافعًا للَّحاق بالركب وتجاوز الآخرين، مما يؤدي إلى سباق فئران لا نهاية له أبدًا.
كيف تُزْرِي المتعة الفورية بصحتنا العقلية!
يتبين من الافتراض القائل بأن الناس يعرفون دائمًا ما هو الأفضل لهم أن خبراء الاقتصاد تجاهلوا التمييز بين الاحتياجات والرغبات، وبالتالي وضعوا أنفسهم أمام هدف غير قابل للتحقيق. فالرغبات لا تشبع، ولا سقف لها، بل تزداد مع زيادة الثروة. وفي حين أنها قد توفر متعة فورية، إلا أن الإشباع الفوري غالبًا ما يكون ضارًا بالصحة العقلية، وقد رُصِدت بالفعل حالات لتأثر كيمياء الدماغ وأنماط السلوك نتيجة لخلل في نظام المكافأة الكيميائي العصبي، وهو اضطراب عصبي ينشأ إما نتيجة الإدمان أو الاستهلاك القهري، ويتخذ ذلك الاضطراب عدة مظاهر وأعراض، أبرزها العاطفي المتمثل في القلق المتزايد والتوتر وعدم استقرار المزاج.
تعاليم الإسلام ملاذًا من جحيم المادية
قبل أن تتوصَّل الدراسات الحديثة إلى الآثار النفسية والسلوكية المترتبة على العيش في مجتمع استهلاكي قائم على الديون الربوية. تطرَّقت تعاليم الإسلام في غير موضع في القرآن الكريم إلى الحديث عن الآثار الضارة للقروض الربوية على سعادة الإنسان وطمأنينته، ليتبين لنا كيف أن السعي وراء المكاسب المالية على حساب الصحة الأخلاقية والعقلية يمكن أن يؤدي إلى تشويه الشعور بالذات والاتزان العقلي(7)، فيقول تعالى:
وتعليقًا على الآية السابقة، يقول سيدنا المصلح الموعود : «إنه كما لا يرى المجنون العواقب على أفعاله، فكذلك الذين يدفعون الفائدة ينخفض إحساسهم بالكرامة ويصابون بعادة الإهمال والتسرع، وبالتالي يكونون أشبه بالمصاب بالجنون»(9).. وما يشهد به الواقع، أنه في مجتمع تتفشَّى فيه القروض الربوية، يميل أصحاب رؤوس الأموال إلى تقديم القروض دون التحقق من قدرة المقترض على السداد. وفي المقابل، لا يفكر المقترضون دائمًا، لا سيما الواقعون في فخ شره الاستهلاك، لا يفكرون في مدى قدرتهم على سداد ديونهم.(10)
فالرغبات لا تشبع، ولا سقف لها، بل تزداد مع زيادة الثروة. وفي حين أنها قد توفر متعة فورية، إلا أن الإشباع الفوري غالبًا ما يكون ضارًا بالصحة العقلية، وقد رُصِدت بالفعل حالات لتأثر كيمياء الدماغ وأنماط السلوك نتيجة لخلل في نظام المكافأة الكيميائي العصبي، وهو اضطراب عصبي ينشأ إما نتيجة الإدمان أو الاستهلاك القهري، ويتخذ ذلك الاضطراب عدة مظاهر وأعراض، أبرزها العاطفي المتمثل في القلق المتزايد والتوتر وعدم استقرار المزاج
موقف الإسلام بين الزهد والرفاه
إن حب المال يمكن اعتباره من أهم القوى المسيرة للسلوك البشري منذ أقدم العصور. فالرغبة في امتلاك المقتنيات المادية، والمقترنة بالطموح المفرط الذي هو في غير محله والهادف غالبًا لتجاوز الآخرين في الثروة أو المكانة أو المنزلة الاجتماعية، إنما هي أصل معظم الصراعات البشرية.
والإسلام لم يدعُ في أي وقت إلى عيش حياة حرمان، حتى بالنسبة للقادرين على تحقيق الرفاه الاقتصادي، فإن الإسلام يدعوهم إلى ممارسة اقتصاد استهلاكي متوازن حيث يتم تقليص التفاوتات في الظروف الاجتماعية والاقتصادية بشكل كبير مقارنة بتلك الموجودة في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. والمنظور الإسلامي للحياة يشجع الأفراد القادرين على تحقيق مستوى معيشي مادي أعلى على التنازل طواعية عن بعض وسائل الراحة والمساهمة في تحسين الظروف الاقتصادية للآخرين بروح التضامن الإنساني، فيقول تعالى:
كما حمل القرآن الكريم لواء مواجهة النزعة المادية البغيضة في غير آية، منها قوله تعالى:
كما أولى خاتم النبيين ﷺ أهمية كبيرة جدًا للحياة البسيطة وبغَّض إلى الناس الترف الذي لا طائل من ورائه، فقال: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا.»(13)
شريعة الإسلام وضبط عمليتي الاستدانة والإقراض
شريعة الإسلام تراعي في كل دقائقها مقتضيات الفطرة، لذا فهي شريعة تتسم بالمرونة، ومرونتها لا تتنافى مع كونها شريعة حازمة ضابطة، وبالنسبة لموضوع اللجوء إلى الدَّين، فهو يندرج تحت عنوان «الاضطراريات»، بمعنى أنه أمر مكروه بدرجة كبيرة، غير أنه تباح ممارسته عند الاضطرار فقط، وهذا أمر بدهي، إذ لن يُقدِم الإنسان الطبيعي على أن يُذِلَّ نفسه بالاستدانة دونما حاجة إلى ذلك. وبالنسبة لعملية الإقراض، فشريعة الإسلام ترغِّب في تقديم قروض حسنة، والقرض الحسن قرض لا تترتب عليه فائدة ربوية، ومع ذلك فإن عبئًا نفسيًا ثقيلا للغاية يقع على المستدين من أجل سداد دينه.
يمكن استشعار ثِقل العبء النفسي الناشئ عن الاستدانة، وذلك من خلال استكناه الدلالات التي يحملها الجذر اللغوي العربي «دَ يَ نَ»، فبحسب مقاييس اللغة
إن الإسلام يعمل على تعزيز ثقافة المواساة والتراحم والتكافل داخل المجتمع بحيث يمكن أن يرتقي بالمعاملات المالية لتكون أكثر صحة وأخلاقية وتعاطفًا. مثل هذا النهج من شأنه أن يعزز القيم الإنسانية في كل معاملة مالية ويؤكد على أهمية الموازنة بين الحكمة المالية والرفاهية العقلية.
الهوامش:
- Dr. Clare Lally, Consumer Debt and Mental Health
- Merlyn Holkar, Financial difficulties and suicide: taking a closer look at the numbers
- Ryu S., Fan L., The Relationship Between Financial Worries and Psychological Distress Among US Adults
- مجلة التقوى، نوفمبر 2019 يوم بدون شراء
- مجلة التقوى، إبريل 2023 متاع الحياة الدنيا هل يحقق لنا سعادة حقيقية؟!
- (آل عمران: 15)
- .Ahmed Danyal Arif & Dr. Bilaal Dar, Smitten with Insanity: How Debt Undermines Mental Health
- (آل عمران: 15)
- Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad, The Holy Quran with English Translation and Commentary, Vol 10 edition 2018 p. 427
- مرزا طاهر أحمد، الإسلام والتحديات المعاصرة، الطبعة 2، ص 179، الشركة الإسلامية المحدودة، لندن
- (آل عمران: 94)
- (الجاثية: 24)
- (رواه البخاري في الأدب المفرط)
- ابن فارس، مقاييس اللغة، تحت “د ي ن”